المرأة والثورة


حينما سادت الثقافة الأمومية (نسبة إلى الأم) آمن الإنسان بأن المرأة هي أصل الكون، ففيها تنبت بذرة الإنسان، وإليها يسكن الرجل، ونحوها تتوق وتشتعل الرغبة، وعنها ينسج الفنان حكاياته وقصائده، لم ترتبط الرغبة والمتعة بالحمل فكان الحمل لغزاً يحمّلها رهبة وغموضاً عجز الإنسان عن سبر أغواره فسجد له.. ولم لا ومن جسدها تولد الحياة، ومن صدرها يأتي الحليب، وتنتظم دورتها الشهرية مع دورة القمر، وعاطفتها المحمومة نحو وليدها هو عاطفة الأرض نحو زرعها. كانت المرأة تجسداً للأرض، وتعبيراً عن ثقافة الزراعة فتحبل بالبذور لتطرح الثمار، فكانت منشأ الأشياء ومردّها.. لذلك كانت عشتار إلهة الجنس والحب والجمال والتضحية عند البابليين، وكانت إنانا عند السومريين، وعشاروت عند الفينيقيين، وأفروديت عند اليونان وڤينوس عند الرومان.


حينما اكتشف الإنسان العلاقة الشرطية بين الجنس والحمل، وبين الجماع والإنجاب لم يعد الجنس هدفاً وسبباً للمتعة فحسب، بل أصبح وسيلة للإنجاب فهبطت المرأة من علياء سموّها وقدسيتها بوصفها مانحة اللذة وواهبة الحياة ومرضعة الإنسان إلى وعاء البذور التي يلقيها الرجل، وبقرة الإرضاع، وبهيمة العشر، وأصبح الرجل هو صاحب البذرة، والمخصب الإلهي المقدس، ولم تعد المرأة سوى أداة لتحقيق اللذة، والإنجاب، والأمومة، وخدمة السيد/الرجل/الرب/الإله صاحب بذرة الحياة فنشأ المجتمع الأبوي/البطريركي الذي كرست جميع أساطيره ومعتقداته ودياناته لسيادة وسيطرة الرجل الذي يجلب الطعام ويصنع السلاح ويحارب الأعداء ويؤسس لمجتمعات الملكية الخاصة والطبقات. 


هنا جاءت النظريات الدينية على اختلافها لتكريس دونية المرأة، فالمرأة أصل الذنب والرجس والدنس، وسبب طرد آدم من الجنة، وبالتالي فهي سبب شقاء الإنسانية، ومندوبة الشيطان على الأرض، والحيض الذي يصيبها إنما هو عقاب إلهي لما اقترفته وسوف تقترفه من ذنوب إلى أبد الآبدين، لذلك فالمرأة ناقصة العقل والدين والحكمة والمعرفة والقدرة الجسدية ومصدر الشر الذي سيظل موجوداً في العالم طالما كانت موجودة، إلا أننا نحتاجها من أجل استمرار النوع، والرجل لابد وأن يحكم وينتصر حتى لا ينتصر الشر ممثلاً في المرأة، كما أن اضطهاد المرأة والسيطرة عليها إنما يأتي مبرراً لضرورة انتصار الخير على الشر، وأفضلية الأبيض على الأسود، وحماية احتكار الرجل للمال والسلطة والدين والفلسفة والجنس والمتعة الجنسية، كما أن ذلك المدخل هو ذات المدخل لدعم الإقطاع والطبقية والاستغلال لتصبح تلك الفلسفة أكثر ملائمة لتبرير العنف والقمع والظلم من قبل الأقوى ضد الأضعف.. عشيرة كانت أو قبيلة أو حكومة أو دولة.


في نفس السياق تكرست فكرة الرجل “السماوي” العلوي/الروحاني الذي يمثل الروح/الإله/الرب والمفاهيم التي نعجز عن رؤيتها مادية متجسّدة إلاّ حين اتحادها بالمادة.. أصبح هذا الرجل يلقي بالمطر على الأرض/المادة التي تتعفن إذا لم تمتلك داخلها روحاً، فينشأ الإنسان في بطن تلك الأرض/المادة/الرحم/المرأة، ليصبح الرجل هو الخير/الأعلى/السماء/السمو/الروحاني/الساعي نحو التبتل، ولتصبح المرأة هي الشر/الأرض/الدنس/الرجس/الشيطان/الساعية دائماً نحو إغواء الرجل الساعي نحو التبتل بمكرها وخبثها كي ينغمس في الشرور والدنس والرجس والذنب والمجون. من هنا جاءت فكرة تأثيم الجنس، وتقنينه، بل وأصبحت المرأة، والجنس وسيلة لسيطرة اقطاعية/اقتصادية/اجتماعية/دينية فأصبح زواج المرأة من شخص مختلف العقيدة يهدد المصالح الاقتصادية، فتعتبر المرأة كافرة/خارجة عن الملة/جالبة للعار، لأن “الوعاء” سوف يحمل عرقاً آخر، وديناً آخر فتزيد قوة الجماعات الأخرى، فالمرأة من هذا المنطلق وعاء إنتاجي لرصيد القوة البشرية التي يجب أن ترعى مصالح الجماعة/العشيرة/القبيلة.


ومن هنا أيضاً نشأ مفهوم الشرف بارتباطه في المعتقد الديني والاجتماعي بفرج المرأة، وجسد المرأة، و”عورة”المرأة التي يجب سترها، وإخفائها عن “الغريب”، وهنا انخفض سقف كلمة “الشرف” ليحمل معانٍ أكثر تفاهة وسذاجة وبساطة من المعنى العميق للكلمة، فلم يعد الكذب إخلالاً بالشرف طالما كان الإنسان محافظاً على شرف/فرج أخته وأصبح النفاق والخداع والسرقة أشياء غير مخلة بالشرف طالما حافظ المرء على شرف/فرج زوجته، وتلخص الشرف الشرقي في فرج المرأة، وتحديد الشرف بالممارسة الجنسية، وفتح الطريق أمام أبوية السلطة، وأبوية الدين، وشارك ويشارك الدين في الحفاظ على السلطة في طبقة الآباء، فتجد الشيخ والقس والحاخام لابد وأن يكونوا إلي جانب القوي والغني والحاكم، لتكريس مفهوم الرضا والقناعة وتبرير قسوة العيش وشظفه وشرح الحكمة العميقة وراء الطبقية ووجود الأغنياء والفقراء، والرجل والمرأة، وليبشروا المؤمنين بجنات تجري من تحتها الأنهار لمن صبروا، ورضوا بالظلم والقهر والقمع. ومن هنا تتأسس القيم والأخلاق المجتمعية التي يحرص الكهنة والحكام على الإبقاء عليها.


لذلك لم يكن من الغريب أن ترتبط الثورات الاشتراكية، والتوجهات التقدمية بحرية المرأة كمكون أساسي من مكونات الثورة، ولم يكن اشتراك المرأة المصرية في ثورة ٢٥ يناير اعتباطاً، وإنما كان نابعاً من عمق إدراك المجتمع المصري لدور المرأة، ودور حرية المرأة، ودور ثورة المرأة على القيم الأبوية البالية، والمجتمع الذكوري الأبوي المهترئ، ولم يكن من قبيل الصدفة أيضاً أن ترتبط انتكاسات الثورة بحالات تحرش جماعي، واغتصاب، ومليونيات قندهار بكل ما تحمله من دفن للمرأة وراء الأحجبة وطمس كينونتها وهويتها والدفاع عن محافظة وتدين المجتمع من منطلق أن مفاهيم الأخلاق والفضيلة والقيم الرفيعة إنما ترتبط ارتباطاً وطيداً بالتخلص من شرور المرأة، والحفاظ على فرجها بصرف النظر عن الإنتاج، والإخلاص، والإصلاح الاقتصادي، والتنمية، والعبور بالمجتمع نحو المستقبل، والحرية، والعيش، والكرامة، والعدالة الاجتماعية.


إن الغش والنصب والاحتيال والاستغلال والقمع والقهر والعنف والظلم والنفاق والكذب والوضاعة الإنسانية، والتحلل الأخلاقي مفاهيم تغرق فيها مجتمعاتنا الذكورية الأبوية التي نتصور في عقلنا الساذج القاصر أنها مجتمعات “شريفة”، بينما هي تغوص في الدنس، والرجس، والتهتك، والابتذال، والمجون، والشرور بعدما اختصرت الشرف في الحجاب والإسدال والنقاب وتلخيص الزنا في الإيلاج بينما المجتمع يمتلئ بالزناة من كل صوب وحدب، يمارسون زنا أخلاقي واجتماعي واقتصادي وسياسي أكثر ضرراً وأبعد تأثيراً عن مجرد علاقة غير مشروعة بين رجل وامرأة.





لن تنجح الثورة إلا حينما ندرك أن الثورة هي المرأة، وأن المرأة هي الثورة..

Comments

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة