التسوّل


"...أطلقت الأم أولادها الثلاثة في الإشارة، فجلس أحدهم بجانب الرصيف على الأسفلت معرّضاً نفسه للدهس، وانطلق آخر بحمية يعرض على المتأففين من أصحاب السيارات الفاخرة مناديل عليها علم جمهورية مصر العربية، بينما مرّت صغيرتهم الجميلة (7 سنوات) بخرقة قذرة بالية، تتسوّل بنظرات وديعة رائعة، وتقتنص بحدسها المدرّب، وعينيها العسليتين، أعين المذنبين من سائقي السيارات الفارهة، ممن يعكّر مزاجهم ويؤذيهم ذلك المشهد لا لشئ إلا لأنه يذكّرهم بالواقع بعدما حلقوا ساعات في وهم الحلم الاستهلاكي داخل مجمع المحلات التجارية (المول) شديد البذخ، يذكّرهم بالحقيقة التي يوصدون أمامها أبواب منازلهم، ويضعون السلاسل والجنازير حتى لا تلتهمهم، ويرفعون زجاج السيارات ويسمعون أغان عاطفية، أو صاخبة، أو قرآن بغرض الهروب منها...يهربون من ذلك الشبح الذي يتجسّد حقيقة، ويزداد حضوراً مع كل يوم جديد في ثورتنا المجيدة"

Photography: Richard Messenger
حينما تتجول في القاهرة الحرة، بعدما استعاد الشعب أجزاءً حيوية من وطنه المسلوب، يدهشك كم الباعة الجائلين، والمتسولين، والشحاذين. وتدرك بطبيعة الحال، أن أولئك لم يظهروا بالأمس، ولكنهم مشاكل دفينة اختفت تحت السطح بفعل ضغط طوال الوقت، في حين تم الترويج للبقية أن القاهرة هي "نحن"، وأن الأغلبية هي "نحن"، وعادة ما كانت كلمة "نحن" تعني الطبقة المتوسطة فما فوق، وبدأت مشاريع تجميل الكورنيش، وإبعاد كل ما يمكن أن يؤذي أعين المارة والسياح، وساهم صمتنا المطبق منذ انفتاح السادات، على تكريس التفسخ الطبقي، واعتبار أن مصر هي ما تراه على السطح، مصر هي ما تراه في القاهرة، أو في عواصم المحافظات على أسوأ تقدير. وتمكن النظام بمشاركتنا الفعالة أو السلبية من دفن ملايين المطحونين، والعشوائيين من أخوتنا في الوطن والذين تشكّلوا مع قسوة الزمن بأشكال أصبحت غريبة علينا، حتى على مستوى الجينات والهيكل العظمي... ومع استخدام العصا كأنجع الأدوات في الحكم، وترويج إشاعة أن "ليس للشعب المصري سوى الكرباج"، و"لم يبني المصريون الأهرامات إلا تحت نير القمع والاضطهاد"، وغيرها من المقولات السخيفة، اللاأخلاقية، اللاإنسانية، والتي تعبر أول ما تعبر عن احتقار المتحدث لذاته قبل احتقاره لأي شخص آخر، مع استخدام تلك الدعايا، أصبح مصير أخوتنا من المتسولين والشحاذين والباعة الجائلين، الإقصاء المطلق عن الحياة، في الوقت الذي كان واجب الدولة الالتفات إليهم قبل أي فئة أخرى، فالإصلاح لابد وأن يبدأ من القاع، لا من القمة مثلما فكرت الحكومة الأخيرة التي كانت تحسب عدد أجهزة التكييف تعبيراً عن النمو الاقتصادي ونصيب الفرد المصري من مستويات الرخاء (منتهى العبث والله!). لقد عمدت السلطة في أحيان كثيرة إلى التعدي على أي شخص تنم هيئته عن خلفية اجتماعية متواضعة، من باب الاحتياط، ومن باب الإمساك بزمام الأمور. فكانت النتيجة أن اختفت تلك الفئات بعيداً عن ناظرنا، وتصوّرنا "نحن" بتفكير ساذج، ومنطقية بصرية، وخنوع باطني أن الوضع مستقر وهادئ، بل وظهر بيننا أثناء أحداث الثورة من يحذر من الفوضى مستشهداً بالاستقرار المباركي كأحد علامات المرحلة، وظهر أيضاً من يحذر من ثورة الجياع، وكأنها ثورة أعداء لا أخوة في الوطن...إن الحديث عن الاستقرار، وعن ثورة الجياع في ذات الوقت لا يستقيمان، فمعنى ظهور التعبير"ثورة الجياع"، هو أن هناك ما يدعو إلى الثورة، وهو ما يدحض أي استقرار مزعوم وهمي، ومعنى الحمى التي انتابت أحياء راقية في القاهرة، وأرغمت الكثيرين على الهروب الكبير إلى الخليج وأوروبا وأمريكا، وأرغمت جزءاً آخر على حماية المنشآت خوفاً من غول الفقر، معنى كل هذا أن النظام لم يكن يفعل سوى تربية ذلك الغول بدلاً من ترويضه والتخلص منه، لقد كان النظام السابق يخدعنا بإزاحة الأتربة تحت السجادة بدلاً من إزاحة السجادة والتخلص من الأتربة..وفي الوقت الذي كان ولازال البعض يدافعون عن "الاستقرار" و "الإنتاج" و"الاقتصاد" و"السياحة"، فإن الجميع يبدون امتعاضاً من ظهور الفئات الدنيا من المجتمع في شوارع العاصمة، وانتشار الباعة الجائلين في وسط ميدان التحرير، وكأننا نتحدث عن ظاهرة دخيلة نشأت في الآونة الأخيرة، أو أننا نتحدث عن شعب آخر احتل أراضينا، دون أن نلتفت إلى أن تلك الظاهرة كانت موجودة طوال الوقت، ولكننا لم نكن نراها، ومعنى ظهورها، وظهور العديد من الظواهر الأخرى هو أن تلك هي مصر الحقيقية، القاهرة الحقيقية، الشعب المصري الحقيقي الذي أصبح واجباً علينا أن نحل مشاكله "الحقيقية أيضاً" التي أصبحت أمام أعيننا، وأصبح من الصعب تجاهلها أو التحايل عليها.

ومن غباء النظام السابق وفلوله وأعوانه، أن يلوح لنا بأخوتنا المهمشين والفقراء في الوطن، وكأن علينا أن نختاره ونفضل استقراره الوهمي على الانضمام لأخوتنا في الدم والمصير، تماماً كما أسقطت قراراته الحمقاء رأس النظام الفارغة، وهيكله الهش...إنها نفس الطريقة، ونفس العقلية الفاسدة، تروج لنفس الأفكار. ولكن الجديد هو تغيير الديكورات والملابس، ولكن الشعب المصري العظيم سيظل هو الآخر نفس الشعب، الذكي، اللماح، الواعي، الحكيم، المتحضر..وسوف يلفظ الغث والردئ، ويبحر بسفينة الوطن نحو بر العدل والأمان.

Comments

  1. أشكرك يا أبا حمادة على النص المرهف. من المدهش بحق أن يكون "خطر ثورة الجياع" أحد أولى مخاوف الأيام الأول للثورة. أذكر مهاتفات أمي في مدينة نصر، وذعر أصدقائي ممن اضطرهم الحظ لأن يقودوا سياراتهم على طرق مفتوحة ودائرية تطير فوق عشوائيات تناسينا وجودها. ربما يحق لنا اليوم أن ننظر بعين ناقدة في مسألة طبقية ثورتنا والتي لم تقم مثلاً على استقطاب العمال (ربما لأسباب عملية أو سياسية إذ تقبع الطبقة الكادحة تحت سيطرة نقابة فاسدة) وقيامها بالبديل على شباب قادر على شراء كمبيوتر ويتصل ببعضه عبر الشبكات المجتمعية.

    يبدو أثر ذلك جلياً اليوم مع استمرار تهميش فئات بعينها، في ظل استمرار مخططين بعينهم أذكرهم هنا للمثال وليس الحصر: مشروع القاهرة 2050 والذي تبنته الحكومة السابقة ويهدف لإنهاء مركزية القاهرة وبناء مجتمعات على أطرافها وإعادة صياغة مساحاتها الخضراء عن طريق تحويل مناطق مثل القرافة مثلا إلى مساحات خضراء غير سكنية في تهديد صريح ل60 ألف إلى 500 ألف نسمة من قاطني القبور.

    المخطط الثاني والأوضح هو مشروع تطوير وسط المدينة، والذي لا يزال الجدل حوله قائما وإن استمرت أعمال شراء المباني وطرد السكان القدامى ورفع أسعار الأراضي والإيجار بما لا يتحمل ساكني وسط المدينة الحاليين، وهم بالطبع الطبقة المراد التخلص منها واستبدالها بشريحة طبقية قادرة على رعاية التاريخ الحضري والمعماري لوسط المدينة. مخططان شفافان إلى حد السذاجة ويملأهما الشر والجشع إلى حد العبث.

    قد لا يفاجئنا بزوخ مثل هذه المبادئ المفرطة في لا أخلاقية رأس المال في مصر ما قبل 2011، ولكن يبقى التساؤل متى سنواجه رأسمالية يرفضها السواد الأعظم من المصريين؟

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

لائحة النحت في أوركسترا أبوحماده السيمفوني

مكالمة جمالات

سوسن