منّص

-1-
لم يكن شديد القسوة على حماره لطبيعة في شخصيته، ولكنها الظروف..وطبيعة العلاقة بين الإنسان المصري والحمار، كثيراً ما صادف تعليقات من أقربائه، وأصدقائه، بل ومن مارة في الطريق..ولكنه لم يكن يوماً يعبأ بذلك. "منّص" كان يعلم مدى حبه له (كان يدعو حماره منتصر، ويدلّلـه بـ "منّص")، وكثيراً ما وقف "منّص" إلى جانبه في أحلك الظروف، ولن ينس عبده العربجي ما حدث يوماً عند مطلع كوبري السيدة عائشة، وفي عز الظهر، وقد تعالت أصوات الأبواق الغاضبة، ولم يضطر يومها أن يلهب ظهر "منّص" سوى بعشرة لسعات خفيفة من سواطه الحنون، ذكريات صعبة، ولكن "منص" كما كان عبده دائماً يقول "قدّها وقدود".
في ذلك اليوم لم يكن منّص على طبيعته، كان هزيلاً بعض الشيء ولم يأخذ كفايته من النوم أو البرسيم على ما يبدو. واختلف عبده وصبيّه بسبب الحمار، فعبده كان يرى أن منّص يتمارض، وكان يرى أن الحل لا يكمن سوى في لسوعته بمزيد من الضرب الذي لا يعرف كلاهما سواه، بينما كان صبيه يرى أن عليهما العودة بمنّص كي يستريح، فاليوم ليس يومه...وأثارت تلك الكلمات عبده إلى أقصى الحدود، فصب جام غضبه على رفيقيه منّص والصبي...ويبدو أن المشاكل لا تأتي تباعاً، بل تهطل جميعاً في وقت واحد، ففي تلك اللحظة، انزلقت حدوة منّص في زيت على جانب الطريق، وفجأة وبدون أي مقدمات وقع منّص، واستلقى على جانبه، وفزع كلا من عبده وصبيه، وقاما على الفور بنزع كل ما تبقى من الأربطة بين الكارو والحمار، ولم يكن من عبده سوى أن أمسك بسوطه، وأخذ يضرب منّص كي ينهض، بينما كان منّص يتلوى من الألم، على مرأى ومشهد من الشارع.
-2-
من الشارع جاءت الأصوات تحمل حدثاً مهمّاً، فهرعا إلى الشرفة يستطلعان الحدث الذي جذب انتباه كل الجيران. لم تحتمل "كارينا" زوجته الروسية الحامل في شهرها الرابع مشهد ضرب صاحب الحمار لحماره، فبدأت في الصراخ ونهرها، ثم حاولت النزول للدفاع عن الحمار أمام إصراره على أن ما تفعله هو محض عبث، وحاول جاهداً إقناعها أن تدخلها لن يجلب سوى تعقيداً أكثر للأمور بدلاً من حلها. احتدت كارينا، واتهمته بأبشع التهم، ووصفته بأقذع الألفاظ، وبدأت وصلتها الشهيرة "إنكم هنا في مصر...."، كم يكره ذلك التعبير، يكره التعميم، والشوفينية، والقوالب الجاهزة المصممة خصيصاً لإثبات التفوق الأزلي للشمال الأبيض المتحضر أمام تخلف الجنوب الأسود...لم يتمالك أعصابه، وسبّها مقتبساً بعض المفردات المصرية التي كان يستخدمها العربجي المصري، مع بعض من أصوات الخنازير الروسية. أجهشت البكاء، وهرعت إلى غرفة النوم، بينما تابع هو بقية المشهد الدارمي المؤثّر.
-3-
كان المشهد درامياً مؤثراً بحق، ولكنه انتهى على خير، ونهض منّص في نهاية الأمر، ومشى عبده وصبيه إلى جانبه، حتى وصل الجميع  بسلام إلى البيت.
جلس عبده بجانب منّص في المساء...كان يمسح على ظهره بخرقة بالية، وكان منّص ينظر إليه بشيء من الأسى والحزن، وكأنه لم يتوقع منه أن يصب عليه كل تلك اللعنات صباح اليوم...ويضربه كل هذا الضرب.
-4-
هذا الضرب لم يكن ضرباً..لم يكن يضربه، لم تكن الضربات موجهة إليه.. لقد استشعر في الجو طاقة الموت، فأرعبته، لقد اشتم في الهواء رائحة النهاية، ففزع، ولم يكن منه سوى أن تملكته تلك القوة الخارقة التي تتملك أي كائن حي، في اللحظة الأخيرة، دفاعاً عن بقاءه حياً، كان يدافع عنه.. لقد كان يصارع الموت، كان يصارع موت رفيقه الحمار، "انهض...أتوسل إليك أن تنهض...أتوسل إليك ألاّ تموت..أحبك أيها الأحمق"، ولم يمتلك في تلك اللحظة سوى سوط في يده، وقوة خارقة يدفع بها الموت عن صاحبه، لقد كان يستفز بسوطه كل ما تبقى من الحياة في ذلك الجسد الهزيل، لقد كان يلهب ظهره بالسوط كي يمنح كل عظمة من عظامه التي برزت من فرط هزاله طاقة حياة تعينه على البقاء، لقد كان يصارع ذلك الوحش الخرافي المجهول، كان يحاول أن يسد بسوطه كل منفذ يمكن للروح أن تخرج منه، كان يحاول أن يؤلم الحمار ...صديقه ورفيق عمره كي لا يموت، كي ينسى الموت من فرط الألم، ويعود من الممر العابر بين الحياة والموت..
لقد كان وجهه خائفاً ومخيفاً في ذات الوقت، كان يعلم أن تخاذله في تلك اللحظة قد يعني فقدان حماره العزيز منّص، وفقدان مصدر الرزق، والحياة، وبعض الأمان الذي كان يوفره له. لقد ارتبطت حياته شخصياً بحياة الحمار، ولم يعد يعرف أيهما أهم، حياته أم حياة الحمار، لقد ارتبط مصيره بمصير الحمار...إنه يعلم الآن في تلك اللحظة بعينها، أن الحمار هو أهم ما يملك، ولم يعد أمامه سوى أن يدافع عما يملك حتى القطرة الأخيرة. إنها قضية حياة أو موت، أكون أو لا أكون...
-5-
أكون أو لا أكون...هكذا تبين له مشهد الحمار المستلقي على جانبه وهو يتلقى الضربات من صاحبه، وهكذا تبدت له المناقشات العقيمة الممتدة مع زوجته في ذلك الوقت..إنه الفارق الثقافي بين من يستطيع أن ينفذ إلى عمق الأشياء فيرى جوهرها، وبين من يكتفي بالمشاهد والظواهر فيحكم بناءً على لون قشرة رقيقة على السطح..وما أثاره أكثر من أي شئ هو التعميم...نحن وأنتم، عندنا في روسيا...عندكم في مصر..
كان مشهد حزم الأمتعة هو أكثر المشاهد إيلاماً، كان يعلم أنها لن تعود...لم يكن فراقها هو ما يقلقه، قدر ما أقلقه فراق إبنه الذي لم يره بعد. كان الاتفاق أن تلد المولود في روسيا، لتكون والدتها بجانبها، ثم تعود فور تمكنها من ذلك بصحبة الطفل. ولكنه يعلم في قرارة نفسه أنها لن تعود.
حاول مداعبتها بسخف، ألّا تأخذ مشهد الحمار الشهير، وخناقتهما بهذا الصدد منذ ثلاثة أشهر على محمل الجد، فحبه لها، وعلاقتهما أكبر من كل تلك التفاهات. أكدّت له أنها نسيت ذلك الموضوع ونسيت كل المناقشات، ولكنه كان يعلم أنها تكذب...كان يرى ذلك يقيناً في عينيها...إنها لم تنس كلمة واحدة، ولا تفصيلة صغيرة...فمواقف دقيقة كهذه، تصبغ المستقبل بألوان جديدة..

Comments

Popular posts from this blog

سوسن

لائحة النحت في أوركسترا أبوحماده السيمفوني

ثلاث مكالمات..