كوب قديروف
إن الإسلام في جوهره حسبما أعرف، لم يقم على الرمزية. أو الوساطة بين الإنسان والرب من خلال كاهن أو مؤسسة أو رمز. وبناء عليه فقد انتشر انتشاراً جغرافياً واسعاً بين ثقافات شديدة التنوع، وحضارات شديدة الثراء، وأصبح في وقت من الأوقات من خلال لغته العربية التي نزل بها القرآن وعاءً حضارياً جامعاً، فلم يكن حد السيف وحده ليحافظ على ذلك القدر من الاستدامة، والازدهار.
وبوصفه وعاءً جامعاً، فقد استوعب حضارات كثيرة، برموزها وأساطيرها وفنها وثقافتها، وانطبع لون الإسلام نفسه بالكثير من تلك الرموز والأساطير والفنون، فوصل لكل منطقة جغرافية على شكل يغاير، أو يتناقض في بعض الأحيان مع الجوهر الأصلي للعقيدة. ولم تكن الوهابية سوى الجولة الأخيرة لشبه الجزيرة حتى تحاول استعادة مركزية الديانة الإسلامية إلى مهدها الأساسي، لا من خلال طقس الحج والكعبة والحجر الأسود إلخ، ولكن من خلال دعوة صارمة للعودة لأصول الأشياء، والتخلي عن كل ما وصلت إليه الحضارة الإسلامية بتنوعها الجغرافي الشاسع، وتلونها المدهش بألوان الثقافات التي امتزجت بها.
في الشيشان يحتدم صراع حضاري مرير، بين السلطة الرسمية في جمهورية الشيشان التابعة لجمهورية روسيا الاتحادية، والتي يجلس على رأسها رمضان قديروف (34 عاماً)، وهو إبن الرئيس السابق الحاج/ أحمد قديروف الذي اغتيل من قبل المجاهدين في مايو 2004، وكلاهما موال للحكومة الروسية، وبين المجاهدين الشيشان الذين لايزالوا يختبأون في الجبال، ويقومون ببعض العمليات النوعية، ولو أن وتيرة الصراع قد خفت حدتها بالمقارنة بمرحلة التسعينات، حينما قامت القوات الروسية بدك العاصمة الشيشانية جروزني.
إن مشهد وصول كوب النبي محمد، إلى العاصمة الشيشانية جروزني مشهد درامي مؤثر، حيث انتشرت المادة الإعلامية عن ذلك الحدث المهيب في جميع وسائل الإعلام الروسية على نحو إيجابي للغاية، فهؤلاء هم أخوتنا في الوطن، المسلمون الروس ذوي الأعراق المختلفة عن العرق السلافي. فهل كانت الرمزية المفرطة في التعامل مع الكوب نوعاً من التسطيح الثقافي للآخر بغرض إدماجه في حضارات موازية أكبر، بمعنى هل خبر كهذا بالنسبة للمواطن الروسي الأرثوذكسي، يجعل من الإسلام في صورته هذه، ديانة رمزية شأنها شأن المسيحية، ويثير المشهد الأسطوري لقديروف، وقد انخرط في البكاء وهو يقبل الكوب، تعاطف المواطن الروسي العادي الذي تصطبغ مسيحيته هو الآخر ببعض الأصول الوثنية للثقافة الروسية قبل المسيحية؟
جوهر دوداييف |
خاض الإمام الحاج/ أحمد قديروف والد الرئيس الحالي الحرب الشيشانية الأولى إلى جانب جوهر دوداييف كقائد لأحد الميليشيات الإنفصالية بعد إعلان استقلال جمهورية الشيشان (سميت بجمهورية إتشكيريا الشيشانية) من طرف واحد في أكتوبر 1991 (كان انفصال الاتحاد السوفييتي في أغسطس من نفس العام)، وبينما كانت الحرب الشيشانية الأولى هي حرب قومية، بين الحكومة المركزية في روسيا الاتحادية وبين جمهورية إتشكيريا (الشيشان)، كانت الحرب الثانية حرباً مختلفة اختلافاً جذرياً، فقد ظهر الكثير من المجاهدين العرب في الشيشان، والتمويل الوهابي القادم من شبه الجزيرة العربية، وأعلنت عام 1998 جمهورية إتشكيريا الإسلامية التي تطبق الشريعة الإسلامية. في ذلك الوقت كان الإمام قديروف مفتي الجمهورية آنذاك، من المناهضين للوهابية، وعرض انضمامه إلى الروس عام 1999 في الحرب الشيشانية الثانية (التي لم تكن سوى جهاداً إسلامياً ممولاً ضد الكفرة، لإنشاء إمارات إسلامية في بطن روسيا الرخو). وأزاحه أصلان مسخادوف الرئيس الشيشاني (جاء بعد مقتل دوداييف في 1996).
أحمد قديروف |
يبدو رمضان قديروف الخليفة لوالده بمشهد الزعيم الشاب القوي الذي كان يمارس في السابق رياضة الملاكمة، وفي ذات الوقت حاصل على عضوية فخرية في الأكاديمية الروسية للعلوم البحتة، ووسام الشجاعة روسيا الإتحادية، فقد كان الرئيس قديروف قائداً لأحد الميليشيات الموالية للقوات الفيدرالية الروسية للأمن القومي، التي كانت تقوم بعمليات ضد المجاهدين. وتتغاضى روسيا عن العديد من المؤاخذات التي تؤخذ على الرئيس التي من ضمنها عنفه الشديد مع معارضيه (حيث يواجه الرئيس قديروف العديد من التهم بانتهاك حقوق الإنسان من قبل منظمات حقوق الإنسان الدولية)، أو قضية تعدد الزوجات داخل جمهوريته، أو بعض فضائحه. تتغاضى روسيا عن كل هذا في سبيل الأمن النسبي الذي تحقق في الشيشان.
وفي خطة تحسين صورة الإبن البار لروسيا الأم الحنون (الحاضنة لكل الأعراق والديانات)، يأتي الخبر الأسطوري لوصول كوب النبي محمد، في محاولة لوضع الدين المعتدل الأسطوري الرمزي الأقرب للفهم والتقبل من الروس، مقابل الدين المتطرف الأصولي الوهابي الإرهابي، بصرف النظر عن أي أخطاء في البنية الأساسية في جوهر العقيدة.
هذا ما يحدث حينما يتشابك الدين مع السياسة، فتستخدمه السياسة تارة، ويستخدم السياسة تارة أخرى، وتظهر في وسائل الإعلام مشاهد درامية حميمة من هذا النوع، لا تتصل من قريب أو بعيد بأصالة قضية الوجود، وبحث الإنسان المستمر والمضني عن المطلق والحقيقة والسلام...
رمضان قديروف |
Comments
Post a Comment