استمناء ثقافي
في
نفس الركن المنزوي من نفس الحانة "بار
الحرية" (يا
له من إسم)،
وبنفس تفاصيل المشهد التقى الصديقان في
موعدهما الأسبوعي المحدد، عصر الأحد.
لا
يعلم أحد على وجه التحديد، من أو كيف أو
لماذا أختارا المكان والزمان، ولكنها
عادة قديمة تمتد لشهور خلت، بعد رحلة
طويلة من البحث عن المكان الأمثل لممارسة
عادتهما السرية الأسبوعية الرذيلة:
الاستمناء
الثقافي... أو
هكذا أسموها، واستقر الإسم على اللقاء
الأسبوعي ليصبح "لقاء
الاستمناء الثقافي"..أو
"ندوة
الاستمناء الثقافي" أو
"مؤتمر
الاستمناء الثقافي"
إذا
ما شاركهم فيها بعض الأصدقاء من مثقفي
العهد القديم.
يتشابه
الاستمناء الثقافي مع الاستمناء بمعناه
الفسيولوچي الجنسي في عجز كليهما عن ولادة
طفل، أو لعلها عدم الرغبة في التخصيب،
والاكتفاء بالذات، والنرجسية ...ولكن
الفرق بينهما أن الاستمناء الثقافي دائماً
ما كان يحدث تخصيباً ما، فيخرج المرء من
الحانة وكأن بأحشائه جنيناً ما، ينتظر
أن يتحول يوماً إلى طفل، ولكنه جنين يضمر
مع الوقت، جنين لا يكسبه الزمن إلا تحللاً،
ولا تكسبه الظروف المحيطة إلا مزيداً من
الانزواء في تلك البقعة الجغرافية التافهة،
في ذلك الركن من تلك الحانة التي تشهد كل
أسبوع ميلاداً جديداً لجنين جديد مبتسر،
يزول بنهاية اللقاء الأسبوعي.
ولكن
تظل حالة الترقب شبه الجنسية لذلك اللقاء،
وكأن الصديقان يعتزمان اليوم وهنا، دوناً
عن كل الأسابيع الماضية، أن يبدءا عهداً
جديداً، أن ينشئا اليوم نظرية جديدة،
قانوناً جديداً، فكرة جديدة، تؤسس لتيار
ثقافي، أو ربما سياسي جديد، يبقى أيضاً
مع ذلك الترقب، الحنين لذلك الصوت العذب،
صوت النادل "مينا"
وهو
يفتح زجاجات البيرة الباردة بطريقة
بهلوانية:
"بيرة
ساقعة لأجدع اتنين فنانين فيكي يا بلد"...-
مينا
يكذب شأنه شأن بقية أقرانه في المهنة، أو
شأنه شأن نسبة كبيرة من الشعب المصري في
السنوات الأخيرة..ولكنه
كذب "أبيض"،
كذب يدغدغ مشاعر نرجسية عند الصديقين،
ويضفي على اللقاء حالة من النجومية
والاحترام، وكأن ميلاد كان ينتظرهما
أسبوعاً كاملاً..بعض
ذلك الكذب البرئ يصلح المعدة، ويكرس لحنين
أسبوعي لنفس الركن، في نفس الحانة، لمناقشة
نفس القضايا.
“فنانة
الشعب، معبودة جماهير الفن الراقي
الكلاسيكي، تحيي حفلاً كبيراً على المسرح
الكبير في دار الأوبرا"
كان
ذلك عنوان جلسة الاستمناء الأخيرة...
- امبارح رحت الأوبرا
- رحت لها؟
- مش ليها تحديداً، بس كان عندي فضول أعرف الانهيار الثقافي والفني بيتحرك بأي سرعة، نحو أي عمق
- وانبسطت
- في صحتك
- في صحتك
- انبسطت؟؟ والله مش عارف يا أمير، زمان كنت باعرف أضحك، وأعرف أهزر، في المواقف اللي زي كده، وأحياناً زي ما انت عارف كنت باكتب، وأقعد اتريق، ونقعد نلعب، ونناول بعض النكت والإفيهات...دلوقتي ما بقيتش قادر، حصلت حاجة امبارح أثرت فيا جداً.
- خير؟
- عزفت السلام الجمهوري
- نعم؟
- زي ما باقول لك كده، بعد الكونشيرتو عزفت السلام الجمهوري
- مش فاهم
- الأنكور بتاعها، البيس يعني... المقطوعة الإضافية كانت "بلادي بلادي بلادي"
- وده إزاي كده، بلاش إزاي... ليه؟
- علشان ستة أكتوبر بقى والمشاعر الوطنية الجياشة، والحنين للتراب الوطني وسينا وخط بارليف وكده
- أنا باتكلم بجد، إيه معنى التصرف ده؟
- معناها إننا في التلت الأخراني من البرميل يا أمير، بس مش هنا القضية كمان... الأوركسترا قام وقف، بقيادة رائد الأوركسترا، وده معناه إن كان فيه زي ما تقول اتفاق مسبق...السلام الجمهوري، على البيانو...والشعب من وراء معبودة الجماهير، يقف للسلام الجمهوري...
- وإيه علاقة ده بالأوركسترا
- قول إيه علاقة ده ببيتهوڤن، إيه علاقة ده بالكونشيرتو، إيه علاقة الباذنجان بالكرواسون
- يا عم ما تبقاش فوقي ونخبوي بقه
- أنا مش فوقي يا أمير، ما احنا يا عم أهوه على يدك قاعدين ناكل باذنجان في بار رخيص، الفكرة مش هنا، الفكرة إن لكل مقام مقال، وما ينفعش أنا وأنت ناخد الباذنجان معانا الصبح نفطر بيه مع كباية القهوة والكرواسان في الماريوت... لا ده أعلى من ده، ولا ده أحسن من ده، الفكرة إن دي حاجة ودي حاجة تانية. لما كانوا بيعزفوا لنا، ويخلونا نعزف السلام الجمهوري زمان في المدرسة، ده كان يستهدف خلق تقديس للعلم، وللموسيقى المصاحبة للعلم، اللي بيعبروا مع بعض عن معنى الانتماء، الانتماء للأرض وللوطن. وده كان بسبب إننا عيال صغيرة، ومش هنقدر نفهم مفاهيم زي الانتماء، الأرض، الوطن، القومية، وحدة المصير، وحدة الثقافة... كل المفاهيم دي كانوا بيبسطوها لنا علشان نقدر ناخدها في كبسولة، ونفهم مع الوقت، بعد ما يتركز في قاع الوعي بتاعنا شكل العلم، وصوت الموسيقى، وكلام السلام الجمهوري. لما كبرنا وبقينا متعلمين، ومثقفين، والمفترض فينا الرقي بمشاعر الجمهور، ما ينفعش نبتذل المعنى الوطني الموجود في السلام الجمهوري، ونبيعه على إنه منتج ثقافي عالمي... لأنه مش منتج ثقافي عالمي، ده منتج ثقافي وطني، قومي، بيكرس الروح الوطنية الشعبية، استخدامه على هذا النحو مجرد ابتزاز عاطفي رخيص، بمفردات ضحلة وتافهة، بطريقة مسفة ومبتذلة وكأننا وإحنا يفترض مننا إننا نكون على "قدر من الثقافة والوعي" بنرجع للمفردات البدائية، وكأن رحلة الثقافة والفن، انتهت في النهاية بلاشئ...بعد بيتهوڤن، بعد الثورة الفرنسية، بعد قالب السوناتا، بعد التوزيع الأوركسترالي، بعد الكوترابنط، قدام كل الموسيقيين المحترفين الموجودين على المسرح، ومعظمهم من الشباب الواعد، اللي بيدور على قدوة، بيدور على فكرة، وعلى قضية...بعد كل ده، نرجع المدرسة الابتدائي، ونعزف السلام الجمهوري، تعبيراً عن مدى انتمائنا للأرض وللوطن.
- يعني بعد لما خرجنا لعالم الإنسانية، وترجمنا بيتهوڤن، واتكلمنا عن مفاهيم الحرية والعدل والحق والفضيلة والجمال والسعادة للبشرية، نرجع تاني لقضايا القومية والانتماء والوطنية، بنفس المفردات الساذجة بتاعة المدرسة الابتدائي...
- مش بس كده، لما ده يطلع من فنان ثوري، وبيمارس فن شعبي، أو فن جماهيري حقيقي، كان ممكن الواحد يفهمه، ويشوف العلاقة بين الوطنية والحماسة الحنجورية، في لحظة من لحظات تجلي مشاعر الثورة.. إنما لما يطلع ده من فنانة بتتعمد تحية الجمهور النخبوي بتاعها بالـ "ريڤيرانس"وكل زباينها من الطبقة الحاكمة وأصحاب الأعمال والبيزنس، والقاعة كلها من أولاد الذوات، والمتعلقين بأهداب الملكية المندثرة، ويحصل ده في مكان قافل مدخل محطة المترو اللي فيه علشان "الشوارعية" ما يدخلوش الأوبرا، وما يعدوش من الأوبرا، ولدواعي أمنية..يبقى أقل ما يوصف بيه اللي بيحصل هو الانفصام الثقافي الحاد.
- همه لسة قافلين مدخل محطة المترو اللي في الأوبرا
- مدخل المحطة اللي في الأوبرا ده يا بني اتصرف عليه ملايين، وكان المفروض إنه يبقى مفتوح على الأوبرا والمعارض الموجودة، علشان الناس العادية، تدخل الأوبرا، وعلشان الناس أحياناً تعدي فتشوف معرض تعدي تسمع حتة مزيكا شغالة في الساحة اللي جوا الأوبرا، حد يغلط فيروح شاري تذكرة أوبرا فيسمع ...قفلوه من كام سنة "لدواعي أمنية"، وقال لك علشان الناس بقت بتعدي من الأوبرا... وواخدينها تعدية على النادي الأهلي، ووسط البلد، وطبعاً لازم يجيب لك في النص التهديدات الأمنية.. ده طبعاً على أساس إن اللي عايز يعمل حاجة، مضطر يستخدم المترو، ومضطر يعدي من المدخل ده. بس في الواقع كل ده علشان يقللوا تكلفة التأمين، وما يعملوش نقطة أمن زيادة، وعلشان يشتغلوا أقل.
- والدخول أصلاً بالملابس الرسمية...يعني المكان متصمم على طبقة بعينها
- وبعد كل ده يطلع يقول لك الأوبرا تواكب مطالب الثورة...وإحنا عاملين ومسويين علشان الثورة
- يعني بياخدوا مني ومنك ضرايب علشان يبنوا لنا مدخل المترو، وعلشان يعملوا فن وثقافة وأوركسترا، ولما نيجي ندخل يقول لك، ممنوع، ده مش ليك، ده للي بيلبس بدلة وكراڤتة بس. في نفس الوقت اللي المرتب بتاع اللي بيمنعك ده من جيبك ومن قوت عيالك.
- وبعد كل ده وده، تيجي الفنانة المرموقة، وتعزف لك السلام الجمهوري، وييجي مش عارف مين يقول لك الشهدا، والثورة وحق الشهدا والمصابين...نفس البشر اللي إيديها كانت ممدودة ومتورطة مع سوزان مبارك وجمال وعلاء، نفس البشر اللي عمرها ما فكرت في يوم في مينا دانيال ولا في زياد بكير ولا في عماد عفت ولا في أنس... نفس الناس اللي قالت علينا بلطجية، وشوارعية، وأچندات أجنبية، وقلة مندسة...النهاردة بيحطوا إيديهم في إيد الأخوان، وبيضربوا دقون وحجاب، ويعزفوا سلامات جمهورية، وبيحطوا التريد مارك بتاع الثورة، علشان يمشوا الشغل، ويرجعوا ينهبوني وينهبوك تاني
- هو الواد مينا اتأخر ليه؟
- على رأيك...إنت ياااض يا مينا
على
الجانب الآخر من الحانة، كان مينا يمسك
بزجاجات البيرة الباردة، وقود الاستمناء
الثقافي كما يسميه الصديقين، ويتحرك في
حماسة نحو الفنانين المنزويين في ركن
الحانة
- وأحلى اتنين بيرة ساقعة لأجدع فنانين في الشرق الأوسط
كذب
لطيف هو ما يداعب غرورك وكبريائك، ولكنك
تعتبره كذباً أبيض، يختلف عن كل الكذب
الأسود الذي يحيطك من كل جانب، ولكنك
أيضاً جزء من هذا الكذب، أبيضاً كان أم
أسود، أنت نفسك جزء من تلك المنظومة
الفاسدة بانزوائك في ركن في حانة رخيصة،
أنت نفسك داعم لذلك الهراء الثقافي،
باستمنائك الثقافي الأسبوعي الذي لا
يتمخض سوى عن أفكار لا تلبث أن تتطاير،
مثلما يتطاير الكحول في البيرة المفتوحة
دون غطاء.
فكر
صاحبنا في تلك الفكرة بينما توقف التاكسي
أمام "بار
الحرية"..
- أوبرا يا اسطى
- الأوبرا الأوبرا؟ ولا أوبرا عايدة
- لأ أوبرا عايدة
حقاً
هناك أشياء لا تبنى مرتين...
حتى
سائق التاكسي يعرف أن هناك أوبرا قديمة
حقيقية وأخرى جديدة مزيفة...
أكتر من رائع
ReplyDeleteأهنئك يا صديقي.
نتقابل في الحرية الأسبوع الجاي ولا زي النوبة اللي فاتت؟