الثقافة في الشارع



أعتبر ما يحدث في أروقة الثقافة النخبوية المصرية تاريخياً من عدة جوانب، فمع أنه لا يزال محدود التأثير بشكل كبير، ولا يزال المثقفون والفنانون يتحركون في دائرة قطرها جزيرة الزمالك ذات الماضي البرجوازي، والحاضر الرأسمالي الشرس، إلا أن تأثير تلك الحركة المتمردة غير التقليدية من جانب الفنانين والمثقفين بداية من احتلال مكتب الوزير، والاعتصام، ثم بدء الفعاليات، وتنظيمها على نحو جعل من شارع شجرة الدر مركزاً ثقافياً صغيراً، سوف يترك أثراً عميقاً في نفوس جميع المتورطين في الثورة الجديدة التي تسربت أخيراً إلى حظيرة الثقافة المدجنة.

لا يجب أن تأخذنا السذاجة للتصور بأن "الشعب المصري" يدافع عن ثقافته قبل أن يدافع عن رغيفه كما تبدو الصورة الرومانسية لمجموعة من صفوة الفنانين وقد وقفوا في وجه المدفعية الأخوانية الثقيلة الموجهة إلى أحد قلاع "العلمانية"، و"اليسار"، و"الماركسية" على حد تعبير الصحف والصفحات الأخوانية الجاهلة والرخيصة، فالشعب المصري يعاني من الكبد الوبائي، وشلل الأطفال الذي بدأ يتسرب مرة أخرى بفضل الأخوة المجاهدين الذين جاءوا بدعوة خاصة من فخامة الرئيس شخصياً، الشعب المصري يعاني من قمامة تزكم الأنوف، وتعد بمستقبل مزدهر من الجراثيم والأمراض، ويعاني من ارتفاع في الأسعار نتيجة لارتفاع سعر الدولار الأمريكي، وتبعية اقتصادية مريعة تهوي بالاقتصاد المصري إلى القاع، الشعب المصري يعاني من انفلات أمني جعله لا يأمن على حياته بمجرد خروجه من المنزل، وفتح أمام عينيه بدائل مخيفة للخروج من الأزمة بداية من الاستعانة بالبلطجية بدلاً من الشرطة، وانتهاءً بالاعتماد على الحرس الثوري وميليشيات الجماعة في الخطط المستقبلية للتنظيم المحتل الحاكم للبلاد. 

ومع أن الشعب المصري أبعد ما يكون عن الزمالك، وعن الأوبرا، لكن الزمالك والأوبرا مراكز قوة محددة لهوية الثقافة المصرية التي تستند إلى أركان عديدة من بينها أكاديمية الفنون التي تخرج منها صنيعة الأخوان المسلمين الوزير المتهور/ علاء عبد العزيز، ويتخرج منها سنوياً عشرات الفنانين الذين يمتهنون الفن، ويؤثرون في الحياة الثقافية بشتى الطرق والأساليب، فالوزارة مع كل اختلافاتنا بكل قطاعاتها من قصور ثقافة، وهيئة الكتاب، والمجلس الأعلى، والتنمية الثقافية، والمسرح، والفنون التشكيلية، والأوبرا والعلاقات الخارجية هي هياكل ثقافية هامة للغاية يمكن "استعدالها"، ويمكن "توفيقها" لتتواءم مع أهداف الثورة، ولتدافع عن الشعب الذي بناها بكده وعرقه، بينما استخدمها النظام السابق للترفيه، والتجميل، والبهرجة، و"المنظرة" في حفلات الرئاسة، وفي استقبال الوفود، وكأنها قصر من قصور رئاسة الجمهورية. 

إن ما يدور من أحاديث تافهة لسيادة الوزير حول "الثقافة للشعب" و"تطهير الوزارة من المنتفعين، وفلول النظام القديم، وصبيان فاروق حسني، وأيتام سوزان مبارك" ليس سوى ستار سمج وسخيف لما يخطط له التنظيم السري من الإمساك بالعصا الثقافية الناعمة، وخلق "حظيرة ثقافية" جديدة تحل محل القديمة، دون المساس بأي آليات أو هياكل ثقافية، إنه استبدال فج وصريح كما حدث بالضبط من استبدال الحزب الوطني بحزب الحرية والعدالة، ومحاولة إدارة الدولة بنفس الآليات، ونفس الفساد، بل وأحياناً بنفس الشخصيات والكوادر، فالوزارة كانت ولازالت حتى اللحظة العصا الناعمة في يد النظام لا في يد الشعب، تعمل جنباً إلى جنب مع العصا الأمنية الغليظة للنظام. إلا أن النظام الأخواني لم يلتفت إليها حتى الآن، ولم تنصاع له بعد، ويأتي ارتماء الوزير الساقط في أحضان الشاطر والعريان وحجازي، وخروجه من مسجد رابعة العدوية مناضلاً مدافعاً عن "القدس" عاصمة لفلسطين، في نفس السياق المبتذل لاستبدال الأصنام القديمة بأصنام جديدة، والحظيرة القديمة بحظيرة جديدة، والنظام الاستبدادي القديم بنظام استبدادي حديث ذي صبغة فاشية دينية.

لابد أن نعي أن الوقت الراهن ليس مناسباً لطرح أسئلة من نوع: "ومن كان السبب في تدشين الحظيرة القديمة"، و"هل يتعين علينا المبعدين من حظيرة فاروق حسني أن نقف دفاعاً عنها أمام حظيرة الأخوان"، فنحن أمام جيش التنظيم السري الذي يحشد الرأي العام ضد الثقافة والفن متمثلة في نماذج وشخصيات يصورها للمجتمع على أنها جزء من النظام القديم، وهي المسئولة عن التنظير والدعاية لمص دماء الشعب، إن لم يكن بعضها متورطاً شخصياً في سرقة قوت الكادحين، إن الأخوان من القذارة والخسة والدناءة الأخلاقية بحيث يدّعون أن شهدائنا الأبرار زياد بكير، ومينا دانيال، والشيخ عماد عفت، بل والحسيني أبو ضيف الذي قتلوه بأيديهم عند الاتحادية، هم شهدائهم، شهداء الثورة التي يدافعون عنها. إنهم يكذبون، ويكذبون، ويكذبون حتى يصدقوا ما يقولون، ويحاولون من خلال مرتزقة كوزير الثقافة إعادة كتابة تاريخ الثورة، مستندين إلى صورة معاليه في ميدان التحرير صباح يوم معركة الجمل، إنها الحرب التي يكتشف المعتصمون الثوريون القدامى منهم، والمتورطون حديثاً في الثورة، أنها حرب على الثورة بإسم الثورة، فالأخوان يرفعون أعلام ٢٥ يناير، بعدما كانوا يقفون مع الجيش في محمد محمود، وفي الذكرى الأولى لثورة يناير، يقول الأخوان أنهم مع الثورة في الوقت الذي كانوا فيه أول من جلسوا مع عمر سليمان، ونحن نعتصم في الشوارع، وحسناً يفعل المثقفون والفنانون بلجوءهم إلى الشارع، إلى الشعب، مصدر السلطات، ومصدر الثقافة، والإبداع، فالشارع هو الحصن المنيع للثقافة، والشارع هو المنوط به الدفاع عن مكتسباته حينما يحس أنها ملك له، لا ملك للنظام. 

إن نزول الفنانين من ممارسي الفنون "غير الشعبوية" إلى الشارع، وانتشار العدوى لأنواع مختلفة من الفنون أمر يتخطى اللحظة السياسية الثقافية المتوترة إلى ما هو أبعد من ذلك، إنه فن الثورة الذي بحثنا عنه أثناء الثورة الأولى ولم نجده، إنه الفن الحقيقي المحترف المنظم المؤسسي الذي انتظرناه في الميدان زهاء ثمانية عشر يوماً، ولم يأت.. إنه راقص وراقصة الباليه اللذان يؤكدان على انتمائهما للمجتمع المصري، ولفن الباليه الرفيع في آن واحد، إنه عازف الترومبون في الأوركسترا السيمفوني الذي يؤكد إنتمائه للشعب المصري، وللموسيقى الكلاسيكية في آن واحد، إنها مواهب مصرية محترفة واعدة، افتقدناها بشدة في ثورة الخامس والعشرين من يناير، ولجأنا لأنماط بدائية، ونوايا طيبة من هواة وأنصاف محترفين. هاهي الأوبرا المصرية، والفنانون المصريون يخرجون إلى الشوارع، وننتظر منهم المزيد، حتى يصل الفن، وتصل الثقافة إلى الشارع، إلى الشعب الذي حتماً سيدرك الفرق بين من يأخذ بيده نحو المستقبل، وبين من يجره جراً نحو غياهب القرون الوسطى، بين من يحدثونه بلغة عامية مصرية بسيطة عن همومه ومشاكله، وبين من يحدثونه بلغة مقعرة عن كهوف أفغانستان ومغارات الشيشان.

أخرجوا الثقافة إلى الشاع فهو مكانها العضوي الطبيعي...

Comments

Popular posts from this blog

سوسن

لائحة النحت في أوركسترا أبوحماده السيمفوني

مكالمة جمالات