المواطن-الكنبة-الأمل

كان الأمل يدغدغ مشاعر حزب الكنبة ممن وقّعوا على وثيقة التمرد، وممن كانوا يرغبون في أن يقوم آخرون عنهم بالمهمة، مهمة التخلص من الأخوان الممثلين لحكم ديني فاشي، يبدو كأخطبوط على وشك أن يمسك بزمام الدولة ليحولها إلى إمارة، أو عاصمة لخلافة وهمية برعاية السيد الأمريكي وتابعه الإسرائيلي اللذان يريان في دماء العرب وقوداً ملهماً لمزيد من الدماء، ومزيد من القتل والدمار والتقسيم في الجسد العربي الجريح. أقول أن الكنبة، وعموم الشعب المصري، وقد قام بتوريط نفسه وكتابة رقم بطاقته وتوقيعه على وثيقة التمرد، ظن أنه بذلك قد قام بدوره، وأدى ما عليه، وجاء دور حماة الشرعية من المؤسسات السيادية التي يتغنى كثيراً بالتحاق أبنائه بها، فكم منا لم يفاخر بأن إبنه مقدم في الشرطة أو رائد في الجيش، أو يعمل في جهة سيادية غامضة تنقل إليه من داخل الجهاز معلومات خطيرة غير متاحة للعامة من الشعب.

كان المواطن التقليدي من العامة، من الكنبة، من الجمهور قد تعود على استقاء معلوماته وتشجيع فريق الكرة الخاص به من على كنبة وسط الصالة في انتظار قنبلة مدوية تثير شهية فضوله، أو مؤامرة سياسية كبيرة، يشبع من خلالها غريزة القتال، التي لم يعد يمارسها سوى مع أولاده أو أحفاده متفرجاً في معظم الأحيان على ألعاب افتراضية يلعبونها على شاشات التليفزيون، كان صاحبنا ينتظر تلك اللحظة التي سينتفض فيها مهللاً: “تحيا مصر!” أو “يسقط يسقط حكم المرشد” أو حتى "الجيش والشعب إيد واحدة" حينما يستمع إلى القبض على عناصر خطيرة من تنظيم الأخوان المسلمين الخطير الإرهابي الذي عاث في مصر فساداً على مدار عام كامل، كان صاحبنا في انتظار تلك الأنباء اللاهثة المتتابعة، التي تحكي عن أوراق ومستندات وتواطؤات وبيع وشراء، طالما أراد المواطن البسيط أن يتشفّى في ذلك التافه الذي حكمه عاماً بالكامل دون وجه حق، أراد المواطن الضعيف العاجز أن يتشفى في تلك الجماعة الكاذبة التي أشبعته نصباً وخداعاً، وأوجعته أزمات وانحطاط. أراد المواطن العادي أن يكتفي بمخزون اللب والسوداني، أن يحتضن أولاده وأحفاده في غرفة واحدة مكيفة تضمهم، تقيهم قيظ الحر، وخسة المولوتوڤ، وعذاب التوتر. أراد أن يتفرج كيف يدافع الشباب باستثناء أولاده وأحفاده، عن العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، أراد أن يتحسر على شهداء آخرين غير ابنه وبنته، ولا مانع من أن يشارك معنوياً بالمواساة والتكاتف، وربما كتابة بعض الكلمات على شبكات التواصل الاجتماعي، أو الصحف ما كان له إلى ذلك سبيلاً.

حينما طفت على السطح إشاعات تدخل الجيش، أحس المواطن بارتياح عام، ومع عدم ارتياحه لدور الجيش في المرحلة الانتقالية، وعنفه، وتلطخ مجلسه بالدم، إلا أن الجيش قد أصبح وبعد كل شئ الملاذ الوحيد، للتخلص من الكابوس الذي يجثم على جسد الوطن، لذا لم يدعم صاحبنا نزول الجيش، ولكنه أيضاً لم يشجبه، إلا أن دعوات الأنقياء من الثوار، ممن كانوا جنباً إلى جنب مع الشهداء الذين ماتوا برصاص الجيش، بالهتاف ضد الجيش أيضاً، جاءت لتؤكد له أن المعركة ليست معركته، فالوضع معقد، والمواطن البسيط لا يفهم في أفضل الأحوال ربع التحليلات المتاحة لديه عبر الفضائيات المنقسمة، فجميعهم يتصارعون في الفضاء وفي الشارع بعيداً عنه، وما يجب عليه فعله الآن إغلاق باب شقته بكل المفاتيح والأقفال، تماماً مثلما فعل أجداده المصريين بإغلاق بوابات القاهرة حتى يقتتل المماليك فيؤيدون المنتصر بعد انتهاء القتال، ليذهب كل إلى عمله صباح اليوم التالي في ظل السلطة الجديدة أياً كانت هذه السلطة، فرحاً بفتات الفتات مما يلقونه إليه، وببقائه وبقاد أبنائه أحياءً لم يمسهم سوء.

في هذا السياق خرج على الشعب أحد أبطال المشهد الدرامي المعبر للراحل عمر سليمان، ولم يكن ذلك الرجل سوى تلك الشخصية الكاريكاتيرية التي ظهرت في جميع مواقع التواصل الاجتماعي بوصفها "الراجل اللي ورا عمر سليمان"، وحتى مع أننا أصبحنا ندرك إسمه، إلا أنه وبالنسبة للغالبية العظمى ظل الرجل الذي كان موجوداً وراء اللواء عمر سليمان في خطابه الشهير بتنحي رئيس الجمهورية. أقول أن الرجل خرج عن صمته، وليته ما خرج، فمع كل نظرة مخابراتية بكل ما تحمله الكلمة من رفع للحواجب ونظارة الـ"راي بان" المميزة للجهات السيادية في الدولة، كانت صورة العبث الذي نعانيه تكتمل لدى المواطن، ومع كل كلمة كان يتفوه بها صاحبنا، كانت هيبة جهاز المخابرات العظيم تذهب إلى غير رجعة، وكان لسان حالنا بينما شهدنا المهزلة: "إذا كان رجلاً كهذا يشغل منصباً رفيعاً كهذا، فما بال من يتبعونه من ضباط وضباط صف وخلافه؟!" وما أن انتهى الحوار حتى تبدت لنا تماماً عبثية المشهد، والرسائل التي تبعث إلينا بها "الجهات السيادية" التي طالما امتلأنا فخراً بانتماء أبنائنا إليها.

لم تمض على تلك الواقعة أربع وعشرون ساعة، حتى كان رئيس الجمهورية شخصياً يطل علينا من شاشات التليفزيون في خطاب انتظره الجميع عله يحمل جديداً لا نعرفه، انتظرناه ظناً منا أن هناك في مكان ما في أحد أركان الرئاسة أو الإرشاد أو الأجهزة السيادية أو الدواوين رجل رشيد، يمكن أن يوقف حافلة الدمار من رحلتها المؤكدة نحو الهاوية. وبينما كنا نظن من وراء عمر سليمان هو تجسيد لنظام راحل مهترئ، يتحدث في عجرفة وتعالٍ غير مبررين، جاءنا من يتحدث في سادية واختيال لا منطق لهما، فقد تفهم نصف الشعب التركي ما يقوله أردوغان، لأنهم يلمسون ما جاء به من إصلاح اقتصادي، ونسب نمو واضحة، ومشاكل محلولة لا تخطؤها العين المجردة، مع كل اختلافنا مع حزب العدالة والتنمية، وخط أردوغان السياسي، إلا أن الثقة التي غلفت نبرة الرئيس، وحديثه الكاذب عن التنمية، وعن الأرقام، وعن الإعفاءات، وعن المشاكل التي تم التعامل معها، لا نجد لها مبرراً وحيداً.
ثم تتابعت الكوارث في الخطاب المأساوي بكل ما تحمله الكلمة من معاني، فانحدر "فخامة" الرئيس ليسمّي مكرم محمد أحمد، وكنا قد نسيناه، ونسينا دوره في ثورة الخامس والعشرين من يناير، ويتهكم عما إذا كان من الثوار، ليطفو مكرم محمد أحمد على السطح، ونتعاطف معه، على الرغم من كل مساوئه، وكل اختلافتنا السياسية معه، ثم انحدر علاوة على ذلك في هجومه على المرشح المنافس له في الانتخابات الرئاسية التي مر عليها عام، وكأنه الخاسر لا المنتصر، وتحدث عن قضايا جديدة يحضرها للإجهاز عليه، تخص صفقة لعشر طيارات (اتضح فيما بعد أنها إثنا عشر)، تكلفة الواحدة منها ٩٨ مليون دولار، اشتراها شفيق بـ ١٤٨ مليون دولار، لتخرج شركة بوينج في اليوم التالي وتكذب ما قال الرئيس. وبصرف النظر عمّا إذا كان أحمد شفيق مختلساً من عدمه، فإن الانحدار في لغة الحوار، ومحاولة التأثير على القضاء الذي يدعي الرئيس أنه لا يحاول التأثير عليه، عشية النطق بالحكم في قضية هو خصم فيها، لا يعبر سوى عن إفلاس أخلاقي، وتدنٍ إنساني غير مسبوق. ثم يستمر الرئيس في سقوطه بينما يتحدث عن القاضي الذي يحكم في قضية شفيق، ويتهمه على الهواء مباشرة بأنه القاضي الذي تخاصم معه في دعوى تعود لانتخابات عام ٢٠٠٥، ويسمي القاضي بالإسم...أي أن الرئيس بعد خوضه معارك طواحين الهواء مع صحفي، ومرشح للرئاسة ينقض على قاض، بينما يتغنى بنزاهة القضاء. ولا ينتهي مسلسل السقوط هنا، بل يستمر ليشمل حديث الرئيس عن محرضي البلطجة، والبلطجية بالإسم والمكان، وهو أمر إن دل على شئ فإنما يدل على أن الرئيس من لحظة إعلانه تلك يعتزم النزول إلى الشارع بنفسه ليبحث "شخصياً" عن الأصابع العابثة في مؤخرة الحزب والجماعة والوطن.

شاهد كل ذلك العبث صاحبنا المواطن الغلبان، ظناً منه أن الجيش سوف يخلصه من هؤلاء وحده، دون الحاجة لتدخله، وظن للحظة أن الجيش إنما يتحالف مع الفلول ضد الأخوان، فتغاضى عن العبث الذي سمعه في الخطاب الأول للأجهزة السيادية، ثم ظن في الخطاب الثاني استناداً لتصفيق السيسي لكلمات الرئيس، أن الجيش سوف يتحالف مع الأخوان لمطاردة الفلول، فتعاطف مع الكلمات العابثة لرئيس فاشل، لكن الحقيقة أن كلاهما وجهان لعملة واحدة، والجيش سيقف مع القوي، وأن الجيش يحتاج لذلك المواطن "الكنبة"كي ينزل إلى الشارع ليحدد موقفه أكثر من احتياج المواطن له، ولا تقف الأمور عند هذا الحد، بل إن الجيش سوف يأتمر بأمر ذلك المواطن، إذا ما رأى أن واجبه أن يوفر الحماية لستة أشهر انتقالية تتم خلالها صياغة دستور توافقي، يسمح للجميع بالمشاركة، وأن الحكم النهائي في ذلك الموقف ليس الخطاب السيادي الأول بكل ما يحمل من مهاترات عصر مضى، ولا الخطاب الثاني بكل ما يحمل من غباء وعنة عصر راهن، وإنما خطاب المستقبل الذي يصوغه مواطن "الكنبة" العظيم بنفسه يوم الثلاثين من يونيو عام ٢٠١٣، يوم الثورة المصرية التي سوف تؤكد على أن الشعب المصري حي، وعلى أن الشعب المصري قادر على الفعل، وأن الشعب المصري من الآن فصاعداً فاعل لا مفعول به.

يحيا الشعب المصري
عاشت مصر حرة مستقلة

Comments

Popular posts from this blog

سوسن

لائحة النحت في أوركسترا أبوحماده السيمفوني

مكالمة جمالات