فقدان الذاكرة

منذ ثمان سنوات أصيبت أحدى زميلاتنا الروسيات إصابة مروعة إثر حادث سيارة، وتطلبت حالتها عمليتي تربنة في المخ في خلال أربع وعشرين ساعة. وفقدت الذاكرة لبضعة أسابيع، وكانت كمن بدأ الحياة من الصفر. وكانت أكبر المشاكل كما شرح لنا الطبيب النفسي وقتها أن الذاكرة البعيدة المرتبطة بالأهل والمدرسة (وهو الجزء الخاص بالحياة في روسيا) هي الأقرب للتعافي، ثم تبدأ الأجزاء الأبعد فالأقرب تاريخياً في التعافي.




وكان من أكثر المشاهد التي آلمتني وأثرّت فيّ رغبتها في الخروج من المنزل لزيارة والديها، ظناً منها أنها لا تزال في روسيا. وحينما كنا نحاول أن نشرح لها أننا الآن في مصر ، وأن والديها في روسيا، وأنهما بعيدين كل البعد، لم تكن تصدق، وكانت تسخر منا وتقول أن والديها على بعد محطتي ترام من هنا، وليس علينا سوى أن نستقل الترام من أمام المنزل.



وبعد شد وجذب قررت أنا وأختها أن ننزل بها إلى الشارع لكي تتأكد أن الشارع ليس به ترام، وأننا في مصر. ولن أنسى ما حييت انطباع وجهها حينما رأت الشارع وأحست بالخديعة الكبرى. لقد كانت تعبيرات وجهها تشبه من تمت خيانته من قبل الجميع. لقد بدت وكأنها هبطت على كوكب آخر ولا تعرف كيف وأين ومتى ومن!!! لقد أحست المسكينة للحظة أنها ترى مشاهد لا تتمكن من استيعابها، ولا تعلم ما الذي أتى بها إلى هنا؟ ومن هؤلاء؟ وأين الترام؟ ولماذا يلبس الناس ما يلبسون؟ وأين والديها؟ ومتى تم اختطافها؟ ومن اختطفها؟ لقد كانت غريبة في مكان غريب مع غرباء لا تتذكر كيف أصبحت بينهم. وبدأت في الشك في الجميع وعلى رأسهم أنا وأختها ولم تعد هناك سوى حقيقة أكيدة واقعة لابد من التعامل معها الآن...أنها الآن هنا.



هذا تحديداً ما أحسه الآن بصدد مصر ما بعد الثورة، ومصر ما بعد مبارك. لقد تكشفت حقائق وأرقام وأشخاص لم أكن أعرفها، وأصبحت أرى العالم وكأني أراه للمرة الأولى. لقد أثبتت الأيام السابقة أننا شعب طيب، حمول، صبور بل وساذج. لقد كنّا نصدّق، يتعطف علينا الأب الرئيس بالفتات فنصدقه، يمنح إبنه وزوجته صلاحيات في العبث في مقدراتنا، ونسمح له. يكفينا أن نراه أربع مرات في السنة، ليثلج صدورنا بخطاب نعلم أنه كذب وكنّا مع ذلك نصدقه. يكفينا أن يخرج علينا رئيسنا في العمل ويطلق وعوداً لا تنفّذ، ونعود لنعمل، آملين أن يفرجها الله. كنا نرى أن الرئيس لا يسرق، بل يسرق من حوله، ورئيسنا في العمل لا يسرق بل يسرق من حوله. ولم نكن نجرؤ على تخيّل أن رئيسنا المباشر ومن فوقه ومن فوقه ومن فوقه لصوص. فأن تسمع عن سرقة ذلك أمر، وأن تعيش مع سارق طوال العمر أمر آخر. لم نكن ندرك في أحلك افكارنا التآمرية كمّ النقود المنهوبة، لم نسمع يوماً عن المليار الواحد، فما بالك بعشرات أو مئات المليارات. إن كل يوم يأتي لنا بمصر جديدة لم نكن نعرفها، وكان فخامة الرئيس يشرح لنا أننا نتوالد كالأرانب، لذلك لا تكفينا الموارد. وكان رؤسائنا صمام الأمان الذي يبلغ الإدارة العليا عن أي اضطرابات تجري على السطح ليتم التعامل معها أمنياً تارة، ومالياً تارة أخرى. بينما يرفل السادة المسؤولون في الحرير ويتحركون بالطائرات الخاصة ويلعبون الجولف.



لقد كانت قضية فساد أيمن عبد المنعم المشرف السابق على صندوق التنمية الثقافية ملء السمع والبصر، وظننا وقتها أنه نال جزائه لفساده وسرقته ورشوته واختلاسه...ليبدو لنا الآن أيمن عبد المنعم حملاً وديعاً ولصاً صغيراً، لا يرقى مجموع ما سرقه إلى واحد على ألف أو عشرة آلاف مما كان يتم سرقته بالفعل. وتألّم وقتها الوزير الفنان فاروق حسني على الإطاحة بساعده الأيمن، لعله كان يعلم أن بضعة ملايين في الوطن المنهوب عن بكرة أبيه لا تمثل أي مشكلة أخلاقية.



ومع مرور الأيام ينتابني ذلك الإحساس الذي انتاب زميلتي الروسية المصابة الفاقدة للذاكرة، أنزل إلى الشارع، إلى العمل، وأقابل أناساً لم أكن أعرفهم من قبل...أعمل في مؤسسة لم أكن أعرفها من قبل، أعيش في دولة لم أكن أعرفها من قبل. وأتذكر وجه رئيس الجمهورية المخلوع وينتابني ألم رهيب من حجم ومدى الفساد والدمار الذي خلفتها ثلاثون سنة من حكمه وهو يحترف الكذب والخداع. إنني واثق من أن الذاكرة ستعود يوماً للوطن الجريح...الأبعد فالأقرب تاريخياً، ينبغي علينا فقط في تلك اللحظات أن نتجنب التفكير في الماضي ونفكر في المستقبل قدر استطاعتنا

Comments

  1. This wonderful article should be posted in a major newspaper. It has the hallmarks or great editorial writing worthy of ant world-class newspaper.
    Raouf Zaidan and Ashraf Sewailam

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة