سوسن


جارنا الأستاذ شعبان له بنت أخ من دمياط جاءت لزيارته من يومين، فتاة منقبة..تلبس خيمة سوداء تخفي خطوط جسمها الفتان، ولكنها ترسم خطوطاً أخرى ليست أقل جمالاً ولا فتنة، خيمة سوداء رشيقة تميزها عن بقية بنات جنسها وطائفتها من المنقبات، وكانت تلك هي الملاحظة الأولى التي استرعت انتباهي وقد مرت ذات يوم مع بنت عمها. إن طريقة المشي نفسها تختلف من فتاة منقبة لأخرى، وكما لكل إنسان شخصية، وطبيعة صوت، وطبيعة حركة...فلكل منقبة شخصية داخل خيمتها، تعتمد بشكل أساسي على حجم الكتلة والخطوط المحددة للكتلة الصماء وتفاعلها مع الفراغ المفتون بكسرها له بديناميكية تشتق حيويتها من شخصية الفتاة المنقبة ذاتها...ولايقتصر الأمر هنا على الخطوط المتحركة في تمايل وإيقاع مدهشين، ولكنها تلك الطاقة المبهمة التي تشع من الخيمة الرشيقة والتي لا يحجبها حتى اللون الأسود أكثر الألوان حيادية وعزلاً، إنها تلك الكمية الوفيرة من الطاقة الأنثوية الطاغية، التي تعبر عن بركان عاطفي على وشك أن ينفجر في وجهك لو قامت صاحبتنا بخلع ربع غطاء الوجه. ما بالك لو تعرت أجزاء أخرى من جسمها البض؟...حمداً لله وشكراً على نعمة النقاب الذي يحمينا شر الفتن. هكذا رأيت سوسن معشوقتي المنقبة من دمياط.
قابلت الآنسة سوسن بعد ذلك في ذات يوم من الأيام الجميلة في حياتي حينما كانت تنشر غسيلاً في الشرفة المقابلة لشرفتي، وكانت وللمرة الأولى بدون غطاء وجه، ولمحت في عينيها تعبيراً  يشبه:
-           "ما تختشي يا راجل إنت"...
استغربت شديداً وأرجعت الأمر لأن نظراتي كانت من الجرأة والظمأ للجمال بحيث خدشت حيائها العذري البرئ، ولو أنني لم ألمح والحق يقال أي براءة في عينيها، وظننت حينها أنني مخطئ، وما تلك سوى تهيؤات مغرضة. انتهى حفل نشر الغسيل على خير بدون خسائر، ولكنني حينما قصصت الوجه الملائكي الذي رأيته في الشرفة، وأعدت تركيبه على الخيمة السوداء الرشيقة اللي رأيتها منذ يومين، تجسدت أمامي ملكة جمال دمياطية بديعة، وبدأت فعلاً أفكر في أنها كانت على حق "إني لازم اختشي"...يبدو أن نظراتي في الشرفة كانت مفضوحة.. يا للخجل!
بعد يومين، وبينما كنت أنزل السلم قابلتني صدفة، بنفس خيمتها السوداء الرشيقة، ونفس العينين الجريئتين من وراء النقاب الذي بدا لي عاجزاً عن إخفاء جرأة هاتين العينين عجزاً كلياً، وجهت الآنسة سوسن سهام طاقتها نحو عيني وضحكت ضحكة تضج أنوثة وحرية، وقالت لي بالحرف:
-          وعليكم السلام يا عم الحاج، إيه هوه إنتوا هنا في مصر ما بتسلموش على جيرانكو ولا إيه يا أستاذ محمد؟
لم يدهشني في هذه اللحظة معرفتها بإسمي، ولم تدهشني جرأتها، قدر ما تسمرت في مكاني من حرارة الطاقة الأنثوية الطاغية التي تفجرت في كلمات بسيطة دون مضمون، فقدت في تلك اللحظة كل ملكات الإبداع والارتجال، وحاولت أن أرد تحيتها بأي جملة مفهومة وعجزت..فكان الرد خليطاً مبهماً من " العفو، يا افندم، أصل...، أهلاً وسهلاً، سلامو عليكو" فردت بضحكة أكتر خلاعة، وتحركت الخيمة السودا الرشيقة بتمايل أكثر دلالاً.
في اليوم التالي خرجت إلى الشرفة حينما تنامى إلى سمعي أن أحداً فتح الشرفة المقابلة، ووجدتها أمامي، وتلعثمت كعادتي، ووهنت ركبتاي حتى كادتا تعجزان عن حملي، وصرعت لحظتها كل محظورات الجيرة والنقاب والجنس وفارق السن بيني وبينها، وتماديت في مغامرتي بأن رفعت يدي اليمني مشيراً إليها بعلامة الهاتف، تعبيراً عن رغبتي محادثتها تليفونياً. ويعلم الله أنها لو كانت قد رفضت لكانت تلك فضيحة العمر التي لم أكن لأنساها. حصلت نهاية المطاف على رقم هاتفها المحمول، ولكنها اشترطت أن يكون الاتصال بعد الثانية عشر.
ومع كلماتنا الأولى أدركت أنني بصدد مغامرة مثيرة، لا أدري ما الذي يدفعني إليها، ولكنها مغامرة مثيرة لأبعد الحدود، تبين منذ اللحظات الأولى الفارق الجغرافي والاجتماعي والتعليمي، ومع ذلك فقد كانت سيادة الموقف للعلاقة بين الرجل والمرأة، وكانت الأولوية للتوتر الناجم عن الرغبة الدفينة والمحظورات المشتهاة وفارق السن المثير للتحفز والمغامرة، وأضافت العلاقة الافتراضية عبر التليفون كثيراً من اللمسات الرومانسية، والخيال فتخيلتها أميرة رائعة الجمال، وتخيلتني فارساً بديع القوام. تطورت مجريات العلاقة الافتراضية في ظرف يومين واكتشفنا أننا بحاجة لأن نلتقي لقاء الأحبة، فدعوتها للغداء ووافقت، لأجد نفسي للمرة الأولى بصحبة فتاة منقبة.
لقد كانت القضية الأولى في اللقاء المرتقب هي قضية التلاقي الفعلي، فكان علينا أن نتفق على مكان بعيد نلتقي فيه، بعيداً عن أعين الجيران، وتلصص الفضوليين. ومع بعد ذلك الشارع الجانبي الذي تواعدنا على اللقاء فيه، ومع يقيني أن أحداً لم يكن ليراقبنا في ذلك الشارع، ذهبت للمكان الموعود وكلي شغف، وقلق، وتوتر... لقد خلت جميع معارفي قبل ذلك من أي توجهات دينية على الإطلاق، فما بالك بالنقاب شخصياً. في الوقت ذاته امتلأت رأسي بملايين الأسئلة، عما إذا كنت سأحاول أن أمسك يدها في وسط أو نهاية اللقاء، عما كنت سأهم بتقبيلها، هل أحتضنها...هل سأتمكن من استدراجها إلى شقة عازب بعد أن يذهب الأستاذ شعبان إلى النوم...عبث..عبث..جنون، ما هذا الهذيان؟ كيف سيحدث ذلك، وتحت أي مسمى؟ وأي مغامرة حمقاء تلك التي أزج بنفسي في أتونها؟
تلاقينا، وجلست إلى جانبي في السيارة، لأحس بدفء ريفي ساذج جميل، وأضاف عطرها الرخيص جاذبية جنسية غير مبررة، ولفت نظري أسورة زرقاء ضخمة الحجم تلبسها في يدها اليمنى. لم أكن أدرك أن علاقتنا الافتراضية على مدار اليومين الماضيين قد اختصرت المسافات إلى هذا الحد. لقد كنا اقرب لبعضنا البعض مما ظننت في بداية الأمر. لحظات وكنت أشعر بالسلطة الذكورية الملهمة، وكان أعجب ما في الأمر - حينما خرجنا نتمشى قليلاً في المول الذي اعتزمنا الغداء فيه- هو المباركة الضمنية التي كنت أشعر بها حولي، لم تعد النظرات تقلقني، وتعودت على اللون الأسود، والنقاب الرشيق الذي أحياناً ما كان يتقاطع مع حركتي بجانبها، كذلك أثارتني يدها التي أحياناً ما كانت تلمس يدي، عن عمد كما أردت أن أقنع نفسي، لذا افتعلت الأسباب كي أمسك بيدها، ولسبب ما كانت كل تلك الدعابات البسيطة أكثر إثارة وقوة وشبقاً من جميع مثيلاتها السابقة مع أي فتاة سافرة.
على باب المطعم كان في انتظارنا الجرسون، ورأيت في عينيه احتراماً لشخصي، وتعففاً عن النظر إلى فتاتي المنقبة، التي سوف تكون على حد اعتقاده زوجتي أو خطيبتي أو قريبتي في الأعم الأغلب. من ذا الذي سيجاهر بالخروج مع قريبة جاره بعدما تصيدها من الشرفة أثناء حفل غسيل؟! أو لعلها هي التي تصيدته! تسمر ثلاثتنا أمام باب المطعم انتظاراً لشئ ما كنت أحاول أن أفعله، انتظر ثلاثتنا من يمسك بزمام المبادرة في الدخول إلى المطعم، فكنت في بداية الأمر أود أن أفسح لها الطريق اتساقاً مع قواعد الإيتيكيت التي كنت أتبعها في السابق, في الوقت الذي انتظر فيه الجرسون المبادرة من جانبي. وكانت سوسن تنتظر أيضاً أن أبادر أنا بالدخول إلى المطعم بوصفي الرجل، وكانت تلك الحقيقة الأولى التي أحسست معها ببداية جديدة لعلاقة من نوع جديد، تحركت بلعثمة إلى داخل المطعم فتبعتني على الفور، وفهمت سر اللعبة الجديدة.
كانت هناك تفصيلة أخرى لم ألق إليها بالاً في بداية الأمر، ولم أفهمها سوى بعد أن شرحتها لي سوسن. فقد أرشدنا الجرسون إلى طاولة في ركن بعيد، وجلست سوسن في مقعد مواجه لركن من أركان المطعم، فكان ظهرها لبقية الزبائن، وكان الركن مختفياً عن الأنظار، موفراً قدر من الخصوصية لا يتاح إلا لعاشقين، وحينما تسائلت أمامها عن السر في ذلك، وعما كان الجرسون قد تعمد ذلك لكونه أحس أننا عاشقين نبغي الخصوصية، فأوضحت لي أن الجرسون يعرف أنها سوف تكشف عن وجهها بغرض الأكل، لذلك فقد فضل لها أن لا تنكشف على أحد سواي...يا ألطاف الرحمن، لقد أحسست ساعتها أنني أدخل عالماً جديداً بأبجدية جديدة، ومفردات جديدة. ولكن ومع كل ذلك، ظلت سوسن امرأة مثل اي امرأة، وظللت رجلاً مثل أي رجل، أشتهيها، وأرغب في الاقتراب منها، ولمسها كلما سنحت الظروف، ولم تكن تمانع في حدود اللياقة بالنسبة لمكان عام. ولكن أكثر ما أثار دهشتي كانت الثقة العمياء التي أولاها لنا المجتمع لمجرد أن أحدنا ارتدى زياً مختلف...تماماً كما يفعل المجتمع مع رجال الشرطة أو رجال الجيش. مدهشة هي تلك المغامرة.
انتهى أول موعد غرامي مع أول فتاة منقبة بحالة رومانسية شديدة الوجد، وأمسكت بيدها إمساكاً صريحاً في طريق العودة إلى المنزل، وافترقنا في نفس الشارع الجانبي الذي التقينا فيه، وهممت بتقبيلها، ولكنها تمنعت، وأحسست حينها بالذنب، وافترقنا وقد تعلمت درساً أن المنقبات فتيات عاديات شأنهم شأن الأخريات ولكنهن يرتدين زياً مختلفاً فرضته الظروف أو الأماكن أو القناعات التي قد لا تصمد أمام الرغبة الإنسانية الفطرية في معرفة الآخر، وسبر أغواره، بل واشتهاءه. المرأة تظل هي المرأة، والرجل هو الرجل، والرغبة هي الرغبة.
في اليوم التالي اختفت سوسن، وخمنت أنها عادت أدراجها إلى دمياط، ولم أتمكن من الاتصال بها لأن هاتفها كان مغلقاً طوال الوقت. وانتابتني مشاعر مختلطة بين الذنب والرغبة والحنق لكوني تسرعت في الهجوم عليها. افتقدتها كثيراً، وافتقدت أحاديثنا التافهة عن اللاشئ، افتقدت ضحكتها، وأسورتها الزرقاء، وعطرها الرخيص، وخيمتها السوداء الرشيقة. ولكنها لم تظهر لأسبوعين أو يزيد.
لمحت طيفها وأنا عائد للمنزل ذات يوم، فعلمت أنها في زيارة جديدة إلى القاهرة، وحاولت الاتصال بعد الثانية عشرة، وردت ببعض الجفاء، فاعتذرت لها عن تسرعي، وهجومي عليها، وتأسفت عن جهلي الشديد بطبيعة العلاقة مع فتاة منقبة، وكان ردها، أن ذلك لم يكن سبباً، ولكنها هنا في مهمة لقضاء بعض الحاجات، وعليها العودة في غضون أيام إلى دمياط، وليس لديها وقت لأنها سوف تستيقظ في الصباح الباكر.
في اليوم التالي وأثناء عودتي في المساء، طافت بذهني ذكريات اللقاء المثير الذي جرى بيننا في الشارع الجانبي فقررت أن أمر به لأتذكر تلك الحالة الرومانسية القلقة، كان الظلام قد هبط، ولمحت شاباً فتياً يصطحب في يده فتاة منقبة، وقد تبدت ملامح التصاقهما الشديد ببعضهما البعض، وإمساكه بيدها وضحكاتها معه، فتذكرت تجربتي وحالي، وعلاقتي وفتاتي المنقبة. ولكن شيئاً غريباً ظهر في الجو، طاقة غريبة، فكرة مجنونة لمعت في ذهني شدتني لنقاب الفتاة، لقد لمحت نفس الرشاقة التي كانت تتحرك بها سوسن. وما إن أضأت أنوار السيارة لأتأكد من تفصيلة أخرى كانت تقلقني، حتى لمحت الأسورة الزرقاء الشهيرة، في نفس اليد اليمنى، وفي ومضة قصيرة، بينما التفتت نحوي تلك الفتاة المنقبة، التقت عيناي بعيني سوسن.

Comments

  1. و هكذا ندخل مرحلة الايروتيكا في المجتمع المحافظ القادم
    سيذكر لك التاريخ هذا الفتح
    تدوينة ممتازة

    ReplyDelete
  2. ليس كل المنتقبات كذلك بل هناك منتقبات حافظات لأنفسهن ولفروجهن لايتخذن النقاب مجرد زي بل انه عندهن عقيدة راسخة وعفة كامنة ...لله الحمد والمنة ...هناك الكثير من المنتقبات ملتزمات دينيا وأخلاقيا وإيمانيا ولايسمحن لأحد بالاقتراب منهن الا أزواجهن وهذة هي حقيقة النقاب وليس ما تقول ....إنه ثوب العفة ورداء أمهات المؤمنين ....رداء عائشة وخديجة وأم سلمة وأسماء بنت أبي بكر وفاطمة وزوجات الصحابة....رضي الله عنهن جميعا...وسيبقي النقاب ثوب العفة مهما تطاول المغرضون

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة