حكاية حمادة


نكتة مصرية تحمل فلسفة عميقة تعلمها خيرت الشاطر في محبسه الذي استمر إجمالاً إثني عشر عاماً بداية من ١٩٦٨ في عهد الزعيم جمال عبد الناصر لاشتراكه في مظاهرات الطلبة (أربعة أشهر، ثم فُصِل من جامعة الإسكندرية، وجُنّد في القوات المسلحة المصرية في حرب الاستنزاف)، ومروراً بقضية "مجلس شورى الجماعة" عام ١٩٩٥ في القضية رقم ٨ لعام ١٩٩٥ (خمس سنوات بتهمة إعادة إحياء جماعة محظورة)، ثم عام ٢٠٠١ لمدة عام، وانتهاء بقضية العرض العسكري بجامعة الأزهر (حكم سبع سنوات ومصادرة الأموال)، حيث أفرج عنه بعد الثورة في مساومة شهيرة مع اللواء عمر سليمان...

تقول النكتة: أن حسني مبارك كان راغباً في الترشح في أحد المرات لرئاسة الجمهورية، ويريد دعماً استثنائياً من الشعب، فطلب المشورة من العادلي، وكانت نصيحة العادلي أن تصدر الداخلية قراراً تعسفياً، فيلغيه الرئيس نزولاً على رغبة الشعب، واحتياجاته، فيخرج الشعب لتأييده، وحينما سأل مبارك عن القرار، أجاب العادلي: نفرض رسماً لصعود المركبات الملاكي على كوبري ٦ آكتوبر بكل ما يمثله الكوبري كشريان محوري للحياة في القاهرة، وليكن الرسم خمسة جنيهات، فتشتكي الناس وتلغي فخامتكم الرسم، فيدعمك الشعب!

مرت الأيام ولم يشتك أحد

حينما سأل مبارك العادلي عن أخبار الشكوى، أجاب العادلي مستغرباً: لم يشتك أحد، ولكن لدينا ما هو أنكى وأشد فخامة الرئيس لا تقلق: سوف نفرض رسماً آخر لنزول الكوبري من جميع مخارجه، يعادل رسم الصعود، وبذلك، يصبح على المواطن أن يتكبد يومياً عشرة جنيهات لمجرد مروره على الكوبري.

مرت الأيام ولم يشتك المواطنين، واضطرت الحاجة بعضهم، للبحث عن طرق أخرى مجانية، للذهاب إلى أعمالهم، ومصالحهم.

حينما سأل مبارك عن التطورات، أجاب العادلي مرة أخرى: لا شيء سيدي الرئيس، ولكن لدينا حلاً عبقرياً لن يفشل أبداً، حل يمس الشرف والكرامة، فبعد أن يدفع السائق رسم الصعود، سوف نضع كميناً دائماً وسط الكوبري تليه كابينة واحدة بها صول أو عسكري يتناوبان، فما أن يمر سائق الملاكي بالكمين، عليه أن يترك السيارة، ويسدل بنطاله، فينكحه العسكري أو الصول، ثم يلبس البنطال، ويركب سيارته وينطلق نحو المخرج يدفع رسم النزول، ومن المؤكد أن أمراً كهذا، سوف يدفع السائقين، والشعب إلى التذمر من طغيان الداخلية، وتجئ فخامتكم فتلغي كل ذلك العبث، فيكون المجد، والتقدير، والدعم لسيادتكم.

مرت الأيام، وتعود السائقون على الخمسة جنيهات، فالكابينة، ثم الخمسة جنيهات، وسمع آخرون بما يحدث فحسبنوا وحوقلوا، ومضوا إلى أعمالهم راضين بقسمة الله.

حينما علم مبارك بالأمر، طلب من العادلي أن يجمع الشعب في استاد كبير كي يخطب فيهم ويسألهم عما يؤرقهم، لعل أحدهم يإن بالشكوى مما يصيبهم كل يوم على الكوبري...

وفي اليوم الموعود سأل مبارك شعبه: هل هناك أي شئ تشتكون منه

فما كان منهم سوى الصمت

فعاود السؤال: هل تنغص المشاكل معاشكم، صارحوني، فأنا رئيسكم وقادر على تذليل مصاعبكم؟

فما كان منهم سوى الهمهمة والصمت

فعاود السؤال: هل تؤذيكم أي اختناقات مرورية، هي هناك من مشاكل في الكباري أو الأنفاق

فانطلق صوت من بين الجمع: أيوه يا ريس، أنا لازم أقول لك يا ريس... كوبري ستة اكتوبر يا ريس

فتهللت أسارير مبارك، فهاهي اللحظة الموعودة: ماله يا إبني كوبري ستة أكتوبر؟

فأكمل المواطن: يا ريس كوبري ستة أكتوبر فيه كمين، وبعديه كابينة واحدة مافيهاش غير عسكري وصول، والدنيا بتتزحم عليهم يعني حضرتك فاهم، فلو ممكن يعني كنا نزود عدد الكباين، وأفراد الأمن علشان الدنيا تمشي.


إنتهت النكتة، وهي كما رأيت عزيزي القارئ نكتة حزينة، تؤلم أكثر مما تضحك...ولكنها تعبر عن الدروس التي يبدو أن المهندس ورجل الأعمال محمد خيرت الشاطر تعلمها عبر رحلته الطويلة من منظمة الشباب الاشتراكي أثناء دراسته الثانوية، وانخراطه في العمل الإسلامي، فالأخوان المسلمين في ١٩٧٤...

لقد تعلم الشاطر من جلاديه، ولم يكونوا جلادين بالمعنى الحرفي، فالمهندس ورجل الأعمال كما نرى من بنيته لم يفقد وزناً أو صحة أثناء محبسه، مما يدل على أن محبسه لم يكن بالقسوة التي كانت عليها محبس آبائه وأخوته الأكبر سناً في التنظيم، أو في التنظيمات اليسارية في الخمسينات.. تعلم الشاطر من الضباط الذين عاشرهم، كيفية التعامل مع الشعب، تعلم أن الشعب طبقات، ورتب، وقبائل، وعائلات، تعلم أن القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود، تعلم أن الشرطة ليست في خدمة الشعب أو القانون، بل إن الشرطة في خدمة رأس المال، تعلم أن الشرطة طيعة مرنة، قادرة على تنفيذ كل مخططات النظام القمعية، أي نـظام، طالما تعلم أبجدية العمل، وأبجدية السلطة، وأبجدية الشعب.

تعلم الشاطر أن العقبة في الجيش، ومصالح الجيش مع النظام، فإذا ما تم ضمان مصالح الجيش، أضحت عصا الشرطة تحت أمر من يجلس على العرش، كذلك درس الشاطر تجربة مبارك، درسها من داخل السجن، ما الذي كان سيفعله مبارك في تنظيم الأخوان فيشل حركته، ما الذي كان يفعله الأخوان ليتجنبوا ضربات النظام...تعلم الشاطر من يناير ٢٠١١ كيفية قمع الثورة، خيرت الشاطر لم يكن، ولا يدعي الثورية، خيرت الشاطر رأسمالي، والأخوان تيار إصلاحي (إذا كان من الممكن إطلاق لفظ كهذا، بعد تجربتهم الفاشلة بكل المقاييس!) لا يمت للثورة أو الثورية بأي صلة، بل إن إدعاء الأخوان للثورية هو محض عبث فلسفي، وأخلاقي، ولغوي غير مسبوق... كيف يمكن أن يكون الإصلاحي المحافظ ثورياً!! خيرت الشاطر هو امتداد طبيعي لاقتصاد السوق الحر، والرأسمالية المتوحشة، وتزاوج السلطة ورأس المال، المفاهيم التي ثارت عليها ثورة الخامس والعشرين من يناير، ومع هذا يصدر الشاطر والأخوان نفسهم وكأنهم حماة الثورة، ومحققي أهدافها...

يعاني الأخوان من عقدة الهولوكوست، فقد مارس النظام السابق تجاههم التعذيب، والسجن، والقهر.. فخرجوا من رحم تلك المعاناة، تنظيماً محكماً متكاتفاً، ولكنه في الوقت نفسه سري، لا يعلم أحد عن تمويله، أو هياكله، أو ميليشياته شيئاً، وهو جزء من الفوبيا الذي يرغب في زرعها في المجتمع وفي الإقليم، بل وفي العالم... إنه تنظيم مصمت، غير شفاف، لا يعرف أعضائه أنفسهم عن مكتب الإرشاد كل شئ، كل يعلم قدرما يتاح له، ولا يسأل أو يجادل، والكل يتبع مبدأ السمع والطاعة..أقول أنه من رحم المعاناة، خرج الأخوان بعقدة الهولوكوست، يبتزون الوطن بسجونهم، وتعذيبهم، وقهرهم، ويطلبون مستقبل مصر فداءً لما دفعوه، يطلبون من شعب مصر أن يذعن، ويقبل بكل شروطهم، لمجرد أنهم منحوا الوطن بضع عشرات من السنين في السجن والتعذيب... تماماً كما يطلب اليهود من العالم أن يدفع ثمن تعذيبهم، وقتلهم في الهولوكوست..في نفس الوقت الذي ينكر فيه الأخوان الهولوكوست، ويعادون الصهاينة الذين يشبهونهم شديد الشبه.

إن مشاهد التعذيب النكراء التي رأيناها بالأمس، لا تنطلق إلا من نظام فاسد، فقد أعصابه، ولا ينكرها سوى نفوس مريضة تحتاج لإعادة تأهيل، والأمر لا علاقة له بالمولوتوڤ، والأشجار، والنباتات، والقصر، وهيبة الرئاسة وكل هذا الغثاء الذي سمعناه، ونسمعه من الأخوان...الأمر له علاقة بالموقف من هذا الشعب، له علاقة بالموقف من الإنسان المصري على اختلاف انتمائه الطبقي: المهمشين، والعشوائيات، والأرزقية (نفس الأرزقية الذين تحدث عنهم بسخف محمد مرسي حينما فاز في انتخابات الرئاسة)..إنها فوقية وعنصرية بغيضة يمارسها الشاطر من خلال عصاه الجديدة (الداخلية)، يختبر صلادتها، ويختبر تأثيرها على الرعاع، على الدهماء...

حتى إذا كان المواطن المصري حمادة صابر إرهابياً خطيراً، ومسجل خطر، وعلى صلة بتنظيم القاعدة، وتم القبض عليه، والتحفظ على كل ما لديه، فما السبب الذي يدعو لسحله، والتنكيل به؟! وإذا كانت الشرطة قد وجدت ١٨ زجاجة مولوتوڤ مع المواطن، وقبضت عليه، وسحلته كما رأينا ورأى العالم، ثم حاول النظام تجميل الواقعة من خلال إبداعات بعض السلفيين بأن المواطن له ميول جنسية مثلية، وكان راغباً في مضاجعة عساكر الأمن المركزي، وكان يتلوى عارياً أمامهم، بعد خلعه لملابسه بمحض إرادته، فبأي وجه يطالعنا الإعلام الرسمي للدولة اليوم، وقد بدا المواطن الشريف حمادة صابر، ويتحدث عنه دكتور مستشفى الشرطة، ويخبرنا عن الأشعة المقطعية، والأشعات التي تم التقاطها لحمادة، وحالته الصحية، ويظهر مساعد وزير الداخلية، فيؤكد على مدونة سلوك الشرطة، والتي تلتزم بحقوق الإنسان، ويحرص عليها جميع الضباط...

هل هناك عبث بعد هذا العبث...العبث لا يطال الإعلام بالكذب والتضليل والخداع والنصب الذي يمارسه النظام الأخواني على الشعب المصري، ولكنه يطال عمق الإنسان المصري، وكرامته، التي يؤكد الأخوان كل يوم أنها للبيع، شأنها شأن صوت المواطن المصري الذي يشترونه بالزيت والسكر، والمستوصف والطبيب...هل تلك هي الثورية؟ هل تلك هي مبادئ الثورة؟ إن تعري المواطن المصري حمادة صابر اليوم (ولا لوم عليه على الإطلاق، فهو ضحية مسكينة لنظام عفن، وكثير منا سيفعل ما فعله تماماً) أفظع وأبشع من تعريه بالأمس على يد الشرطة الهمجية والنظام المجرم، بالأمس تعرت الشرطة والنظام، واليوم تعرى معهم الإعلام والطب وكل وزير يقبل أن يلعب كومبارس في تلك المسرحية الهزلية السخيفة من إخراج الشاطر وبقية صقور الأخوان.

إنها نفس النكتة المباركية الحزينة، ولكنها في هذه المرة سمجة، وسخيفة، وخالية من أي دعابة أو إبداع

يسقط الكذب
يسقط الغباء
يسقط الأخوان

Comments

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية