قداس جنائزي لموتسارت


ليلة جديدة في ذلك القبو المعتم، في قلعة بعيدة، زماناً ومكاناً... ...سالييري وحيد مع حارسه الأبكم، يتلفع بالماضي البعيد الذي يرفض أن يفارقه. لقد أصبح ذلك الماضي جزءاً منه، طبقة من جلد سميك لا تنزعها أكثر الخناجر حدة، ولا تتمكن من إذابتها أي من المساحيق أو المحاليل الكيميائية...من قال أن الماء يمحو الدم؟ لايمحو الماء سوى أثر الدم فحسب، فالدم سريع النفاذ للداخل، وينفذ في اتجاه واحد ليتحد بدم القاتل، ويجري ويمرح في عقله وكيانه ووجوده كله، ولايبرحه سوى مع خروج الروح نفسها من ذلك الجسد اللآثم...

أحياناً ما يصعب علينا معاندة أقدارنا، إنك تندفع نحو القدر اندفاع كرة الثلج نحو هوة سحيقة، كرة الثلج التي تكتسب إلى جانب القصور الذاتي كتلة أكبر ووزناً أثقل مع كل خطوة جديدة من الدحرجة نحو الأسفل، ومع أنك تعلم أنه الهلاك، إلا أنك تعجز لسبب ما عن التوقف، إنها هيستيريا اللذة، أي لذة...لذة السلطة، لذة المال، لذة الجنس بل ولذة القتل أحياناً. بل إن الصورة التي يرسمها لك خيالك المريض أو نصف أو ربع المريض تبدو عادلة لأقصى الحدود...فأي عدل هناك، حينما تختارك الآلهة لتكون لعبة للتسلية أو للعبرة في لحظة من الوجود قد تمتد مئة عام؟ أي عدل هناك حينما تكون العبقرية اختياراً عشوائياً، والموهبة المقدسة منحة لمن لا يستحق؟ أي عدل هناك في أن يكون سبب وجودك على الأرض أن تستمتع بنفحات العبقرية والموهبة التي تبثها الآلهة من شخص آخر، تعلم أنه لا يستحق...وأن ترى عجزك في كل نغمة من نغماته، وترى صورة الآلهة الساخرة في كل لحن من ألحانه؟ أي عدل في وجود موتسارت التافه الأخرق العربيد، أي فائدة تجنيها البشرية من حياته التافهة العربيدة...وقد وهبت عمرك كله قرباناً لتلك الآلهة.

إن القدر قد دعا سالييري لممارسة العدل، دعاه للدفاع عن الفن المقدس، من دنس العشوائية، واعتباطية الإبداع...إن موتسارت لا يمثل مدرسة موسيقية، إن موتسارت ظاهرة عابرة طارئة لا تلبث أن تختفي، ولابد أن تختفي، وقد ارتضى سالييري لنفسه دور المخلص الأسمى، لا دفاعاً عن نفسه فحسب، وإنما عن كل الرهبان في معبد الموسيقى...

...في تلك اللحظة المقدسة، المتناهية، في تلك النظرة الحزينة الراحلة...ترى هل رأى سالييري العدل؟ العدل المطلق السرمدي يطل من عيني موتسارت المتهالك؟ هل كان البلسم الشافي يطهر روح سالييري المعذبة في الوقت الذي ينزع عن موتسارت الحق في الحياة، والحق في الإبداع، والحق في أن يكون رسولاً لآلهة الموسيقى؟

فجر جديد يبزغ...سالييري وحده في ذلك القبو المعتم.. بصحبة حارسه الأبكم ...يعزف لموتسارت..لم يختف موتسارت، بعد كل تلك السنوات، لم يختف...إنها لعنته تتجدد كل ليلة في طقس متكرر من العذاب الذي لا ينتهي...تماماً كما لم تنته يوماً نغمات الكونشيرتو الأخير لموتسارت...

Comments

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة