موتسارت-يودينا-ستالين

مثلث الكونشيرتو رقم 23

"إن عالم ليوناردو هو عالم متواجد في نفس الوقت ونفس المكان في أكثر من ثقافة مختلفة وأكثر من وعي ذاتي وأكثر من شخصية مستقلة. إنه عالم متواجد في زماننا ومكاننا بنفس قدر الواقعية التي يتواجد بها في إيطاليا القرن الخامس عشر ومع ذلك فإن كل شخصياته تحتفظ بانتمائها للكون وتفردها في الوقت نفسه. إننا نمعن النظر في الجيوكندا ، بينما تمعن هي أيضاً النظر فينا. فبينما يقوم الكاتب بدراسة ليوناردو دا فينشي، يقوم ليوناردو دا فينشي بتغيير دارسه ومعيد تكوينه.إن كل من يبدأ قراءة هذا الكتاب بإمكانه أن يدخل هذا العالم من الخلق المتبادل للأفكار."

(من مقدمة فاديم رابينوفيتش لكتاب "عالم ليوناردو"-يفجيني بوجات)

يبدأ موتسارت في كتابة قداسه الجنائزي الشهير و هو يحس وكأنه يكتب قداساً جنائزياً لنفسه، فكرة حدسية نقلتها له هيئة الرسول الذي أُرسل إليه لتبليغه بالمهمة، أو لعلها فكرة انتابته من واقع مرضه في آونته الأخيرة أو قد تكون أول نغمات كتبها في ذلك القداس هي التي أوحت له بذلك، إن الطاقة المختزنة في ذلك العمل والظروف المحيطة بتأليفه هي ما أضفى عليه طابع الغموض و القدسية. كذلك فإن شخصية موتسارت بشكل عام و قدرته العجيبة على صياغة الأفكار قبل كتابتها على ورق المدونات، بل و الكتابة دائماً بالحبر دون أي تعديل على أي ما يكتب جعله يبدو و كأنه رسول لقوة عليا، تمليه فيكتب دون أن يمر ذلك على عقله.إن بساطة أعمال موتسارت و صدقها و عبقريتها يدفعنا دفعاً للإحساس بأنه من الصعب أن يأتي بذلك بشر دون مساعدة الآلهة على أقل تقدير. وما يؤكد تلك الفكرة هو قدرة تلك الأعمال على السباحة عبر الزمن و القدرة الدائمة على الظهور بنفس العصرية في كل زمان. وهذا يفسر لنا الحالة العاطفية التي سيطرت على المؤلف أثناء تأليفه القداس الجنائزي في مقام ري الصغير و كأنما قد تم إبلاغه (من أعلى!)بأنه يكتب آخر أعماله.

إن الطاقة نفسها و الغموض ذاته هو ما يحيط بعمل من أجمل ما كتب موتسارت للبيانو و هو كونشيرتو البيانو و الأوركسترا رقم 23 في سلم لا الكبير، و الذي تبدو الحركة الثانية فيه و بداية البيانو منفرداً و كأنه إعتراف حميم بالعجز الإنساني عن فهم هذا العالم وطرح موسيقي للأسئلة الوجودية ورغبة صادقة في العثور على المعنى أو القوة أو الإله ، إن صولو البيانو في الحركة الثانية يعبر عن وحدة شديدة وسط هذا العالم الصاخب المزدحم. وإذا كان ذلك الكونشيرتو قد يعني بالنسبة لي أو بالنسبة للبعض حالة من البحث و التساؤل فإنه بالنسبة لماريا يودينا -أحد أهم عازفي البيانو في القرن العشرين في روسيا- حالة من الوجود المكثف –وجود يكاد يكون مرئياً- للحقيقة المطلقة، فقد رأت يودينا الله في الفن! تقول يودينا:"...إنني أعرف طريقاً واحداً لله: الفن"(من مذكرات يودينا)، لقد سمعت يودينا كلمة الله في موتسارت، لقد عزفته بتقوى و ورع يتمشى مع طبيعتها كإنسان، فقد كانت شديدة التدين و لم يمنعها الحظر الذي فرضه ستالين على ممارسة الدين من أن تزور كنيستها بانتظام.بل و تدعو للمسيحية في الوقت الذي كان ستالين يزج بالمتدينين إلى المعتقلات.

أعادت يودينا إحياء ذلك الكونشيرتو (كونشيرتو موتسارت رقم 23 في سلم لا الكبير) ممارسة بذلك "الخلق المتبادل للأفكار" الذي تحدث عنه رابينوفيتش في مقدمته لكتاب "عالم ليوناردو" ليفجيني بوجات، أو دعنا نقول أن يودينا وجدت نبرات المطلق في موسيقى موتسارت و أعادت تلاوتها على مسامعنا.

عزفت ماريا يودينا ذلك الكونشيرتو ذات مرة في حفلة أُذيعت على الهواء في الإذاعة السوفييتية و سمعها ستالين فأعجب بأداء الكونشيرتو و اتصل لتوه بمدير الإذاعة يسأله عن ذلك التسجيل ، و من فرط رهبة الحديث إلى ستالين أجاب مدير الإذاعة :"نعم أيها الرفيق ستالين ، يوجد لدينا تسجيل ليودينا تعزف هذا الكونشيرتو، سوف يكون على مكتبك في الغد" و حينما عاد لموظفيه واكتشف أن ذلك كان نقلاً على الهواء ، قام على الفور بالبحث عن أوركسترا و تم دعوة يودينا و اضطر الأوركسترا أن يعمل مع قائدين اهتزت أيديهم من الذعر فلم يستطعا القيادة قبل أن يسجلوا ذلك الكونشيرتو مع القائد الثالث، و سُجلت نسخة واحدة من تلك الإسطوانة وُضعت بالفعل في اليوم التالي على مكتب ستالين.

أمر ستالين بصرف مبلغ عشرين ألف روبل لماريا يودينا تقديراً لموهبتها المتميزة و كانت تلك ثروة بمعايير تلك الأيام فما كان من يودينا إلا أن قبلت تلك المكافأة وبعثت له بالرسالة التالية: "أشكرك جوزيف فيسسيريونوفيتش على مكافأتك، لقد تبرعت بالنقود جميعها للكنيسة التي أزورها وسوف أصلي من أجلك فأنت ظالم ظلم وطنه و ظلم شعبه لعل الله قد يغفر لك ذنوبك الفظيعة" وحينما بلغت تلك الرسالة ستالين و انتظر الجميع أن يرفع حاجبيه امتعاضاً أو سخريةً من تلك الملتاثة فيما قد تم تحضير أوامر الاعتقال و النفي، فما كان من ستالين إلا أن طوى الرسالة و وضعها في جيبه و لم يعلق على تلك الرسالة أبداً بعد ذلك.

...حينما مات ستالين في مسكنه الريفي وُجدت الاسطوانة التي سجّلتها يودينا للكونشيرتو رقم 23 لموتسارت على جهاز الجراموفون الخاص بستالين، فقد كان موتسارت من خلال يودينا آخر ما سمعه ستالين قبل أن يموت.

Zoltan Kocsis plays the Adagio from Mozart's 23rd Concerto


Comments

  1. الخلود يجد دئما طريقا للمرور ...

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة