مصطفى المسلماني - تمنيت لو كنت معنا

لسبب ما تذكرت مصطفى، لعلها المياه الجديدة التي أصبحت تجري في النهر، ووددت لو كان معنا فيشاركنا حماس الثورة، وقلق المجهول، وعذوبة الأمل....لعلها رسالة من عالم آخر...لا أدري! ولا يهم..المهم أنني تذكرته، وتذكرت معرضه الأخير ولقاءه الأخير..رحمة الله عليك يا أعز الأصدقاء

"لقد شعرت أنه مقالٌ في تأبيني، كانت الكلمات عميقة مؤثرة حتى أنني بكيت من شدة التأثر "...مصطفى المسلماني متحدثاً منذ أيام عن مقال محمد المخزنجي في "البديل" عن معرضه الذي أقيم مؤخراً.

إنها عادة الفنانين الملهمين حينما تتراءى لهم النهاية فتخرج كلماتهم وأعمالهم صادقة عميقة معبرة عن مزيج من حالة الحنين والتساؤلات الوجودية وعبث الهرولة اليومية وراء الأحداث والمجريات..حينما دخلت معرضه الأخير (لكم تبدو تلك الكلمة قاسية وغريبة وكأنها جزء من دعابة سخيفة) انتابتني حالة رومانسية حالمة، كرستها الموسيقى التي اختارها لتصاحب معرضه، حالة من الحنين المتحرك بين الوسائط، بين الورق والقماش والكنبة وعجلة الطفولة وبيننا...لقد شاركنا مصطفى معه في تلك الحالة، لم يعتل منصة يعلمنا من عليائها كيف يكون العالم، لم يصعد على خشبة مسرح كي يدلو بدلوه فيما يراه من وجهة نظر في الفن أو في الحياة...بل تسرب إلينا في تواضع وصدق ليلمس أعمق الجوانب في أرواحنا، فجمعنا حوله، وجعلنا نطرح نحن الأسئلة ونبحث عن إجاباتها وبين هذا الطرح وتلك الإجابات كانت الفكرة العبقرية(ولا أخاف تلك الكلمة وأنا أتحدث عن المسلماني رحمه الله) في المشاركة بين المتلقي والمبدع في خلق الحالة الفنية، الحالة المدهشة الموجودة بين استاتيكية الفن التشكيلي و ديناميكية الموسيقى المسموعة والإضاءة المرئية وعجلة الطفولة بكل ما تحملها من طاقة مختزنة وحنين ومعاني وحركة في الوقت ذاته...أقول أننا شاركناه تلك الحالة بل لعل الأصح أنه سمح لنا بمشاركته عالمه الرائع المكون من تلك الأشياء البسيطة المبهرة التي نراها جميعاً في كل لحظة ولكنها لا تعني لنا ما عنته له، لقد فتح لنا المسلماني عالمه الحميم فدخلنا جميعاً داخل هذا العالم لنصبح أسرته، أصبحنا جميعاً أقرباء له، أقرباء لبعضنا البعض، لقد شعرنا جميعاً في معرضه الأخير أننا التقينا حول فكرة ما، جمعتنا روح لامرئية لم نعلم سرها أو سر تلك الحالة التي وقعنا في أسرها...وجاءت مقالة المخزنجي لتشعر مصطفى أنه استطاع بصدقه وبساطته وعفويته ومهاراته وخبرته المكتسبة من سنين الدراسة الطويلة أن يمس أرواحاً أخرى كثيرة ويجمعها جميعاً حوله، لذلك أحس أنه قال كلمته وآن له أن يرحل، وكانت الرسالة التي قرأها في مقال المخزنجي تأكيداً لذلك المعنى، فشعر وكأنه يقرأ تأبينه...



لقد جمعنا المسلماني، ووقفنا اليوم نواريه الثرى ولم يكن هناك فرق بين من يعزي ومن يتلقى التعازي، بل أننا كثيراً ما طرحنا وطرح أهله أسئلة صامتة عمن يكون هذا أو ذاك، لقد جمعنا مصطفى مرة أخرى دون أن نشعر من منّا يبدع ومن يتلقى...من يعزي ومن يتلقى العزاء...مرة أخرى تلك الحالة التي شعرنا بها في معرضه ونحن نجتمع حول فكره، حول فنه، حول وجوده...الآن تجمعنا حول روحه...أليس ذلك رائعاً؟!!!...روحه باقية راسخة تؤثر في كل فرد منّا على حدة كما تؤثر فينا جميعاً وتصبغ وجودنا على هذه الأرض بصبغة لم تكن لتوجد لو لم يوجد مصطفى المسلماني في حياتنا، هكذا افترقنا اليوم ...ولكننا حتماً سنجتمع وسيظل وجوده راسخاً في كياننا وحياتنا وإبداعاتنا ما دامت قلوبنا تنبض






مقال الكاتب الكبير: محمد المخزنجي عن معرض مصطفى المسلماني 

نسمة عمر

أباريق تتوسط فضاء بلون الرمل. ودراجة طفل وردية تلم ظلها الخفيف. قط يتوثب في ومضة. وإطار من زهور بلدية سخية تحتضن كل المفردات. ورق وقماش مطبوع وجواش. بساطة وديعة لكنني أعرف كل غناك الذي يتواري خلفها يا مصفي الحبيب. أنت لست مجرد فنان لوحة ونسيج. أنت نسمة عمر في عمر كل من عرفوك وأنا أحدهم يا مصطفي. يا مسلماني. أنا أحد تلاميذ فن الحياة وحياة الفن في صحبتك الغالية. جرار الطبخ المصري التي لا أعرف من أي سر أخرجتها لتولم لنا في بلاد الثلج والحدائق

. «كييف» شاهدة علي اكتشافاتك المدهشة التي كنت تقودني إليها برغم أنني كنت أقدم منك هناك. أسواق عجيبة يبيعون فيها الدببة والعصافير والثعابين والأسماك الملونة والثعالب والسناجب. مطاعم سحرية من خشب البلوط الباذخ علي قمم التلال الخضر. أوقات عبث رائع العذوبة بين تلال العاصمة الأوكرانية وخلجان نهر الدنيبر. وجنون كل الألوان لبشر تجمعوا في مسكن طلابي من كل قارات الأرض ليصخبوا في رأس سنة جديدة. ما أجملك وما أغناك يا صاحب العمر. يا نسمة الوقت الجميل. فنان الذي يبدع تواضعه ليخفي غني روحه. مصطفي خليل المسلماني. القاعة التي علي يسار المدخل في أتيليه القاهرة. سليل جده الانجليزي توماس بارتليت الذي عشق مصر فخلع عنه كل ما يربطه ببريطانيا وصار مصريا مسلمانيا أكثر وأعمق من أعرق المصريين. أورث المسلماني الجد هواه المصري لحفيده فكان خبيرا بالنخل وطرمبة الماء والعوم في الترع وشد أنفاس الجوزة. ودار قليوب مشرعة أبواب القلب لمئات الأصحاب. له ألف صاحب وصاحب. كان يقودني فاكتشف قاهرة أخري في القاهرة. مقاه في فنادق لم تغير جلدها من القرن التاسع عشر وممرات سرية بين العمائر الجاثمة تتمايل في عبق الدخان المعطر. أركان سحرية في بيوت وسراديب تحت شوارع القاهرة. خبير خبايا كأنه عاش مائة عام. مائة مائة عام. ياكل ببطء كأنه يتذوق كل ذرة من نعمة الله. ويضحك ضحكة عابثة ساخرة شقية.

قهقهة عجوز وصبي وشاب في وقت واحد. وجميل في كل الأحوال. صعلكتي وإياه في رحاب معهد الفنون في كييف ألهمتني موضوع بحث أكاديمية جمالي في الطب. وفي النفس. وزيارته لي في مستشفي بافلوف ربما جعلته يرسم جمالا تطير فوق قباب الكاتدرائيات المذهبة. وعمر المودة الفنانة يتراءي لي في سرحة المستحمات الورديات الفاتنات اللائي أخفاهن عن الأنظار في معرضه الأخير. يجلس مستقبلا زواره كقط وديع. قط بديع. كل آلام الجسد لاتستطيع أن تنال من راحة الروح فيه. ما انبلك يا مصطفي.. ترسم ولا تشكو. تلون ولا تثير الرماد. تفضلوا. ها أنذا قد أعطيتكم بعضا من مفاتيح خزائن هذا الفنان الحبيب. لا تغرنكم المفردات البسيطة والورد المطبوع علي قماش يحتضن الورق. فوراء لمسة الجواش الخجول مخلوق بديع. معرض الفنان مصطفي خليل الأتيليه. القاعة علي يسار المدخل. اللوحات علي الحائط. والنسمة في القلب

Comments

Post a Comment

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة