ثورة التحرير


كانت مفاجأة كبيرة للنظام السابق أن يتمكن الغوغاء – الرعاع – الشعب من الحفاظ على النظام والأمن دون الحاجة إلى أغواتهم وأسواطهم، لطالما دشن النظام المخلوع نظرية العين الحمراء، وأهدر مليارات الدولة على أجهزة وأدوات ومخططات لنزع الإرادة من كل مصري قد يفكر يوماً في أن يمتلكها. فالإرادة كما ظنوا لابد وأن تكون للفرد الواحد الأحد رأس النظام، وحوله الحاشية ترفل في نعيم العطايا والمنح، ويدور الشعب – الرعاع – الغوغاء في ساقية العمل والعرق والدم يروون أرض الوطن بدماء وعرق لا يعرف رائحتها أي من الأغوات أو النخبة الحاكمة.

وفي غمار المعركة (بين السلطة والشعب)، وإيماناً من مفكري النظام بأن النخبة تحتاج إلى النظرية والفكر والفن والثقافة، تم استئناس عدد من المفكرين والمثقفين والكتبة، وإدخالهم إلى حظيرة النعيم، ودشن أولئك نظريات وآليات تؤكد على شرعية التوريث، بل وضرورته، وضرورة التمسك بالحزب الحاكم الأوحد الوحيد ورسموا صوراً لواقع مزيف لحياة لم نعرفها يوماً.

وفي أثناء ذلك كان المصري يدور ويدور، ويتهالك، ويفقد كل أمل ومعه يفقد كل خصائص الإنسانية، وتتحول الطرقات والأسواق وأماكن العمل إلى ساحات تدمير، يدمر فيها كل من يستطيع كل ما يستطيع، وتتصارع الطبقة الوسطى فيما بينها على فتات ما يلقى إليها من موائد الكبار، ومع كل شمس جديدة، يتفسخ المجتمع، وتتشعب طبقاته، وطوائفه، ويلزم كل منها حظيرته المرسومة بعناية، ويصبح الأمان سلعة يحصل عليها الغني بأسوار وأفراد أمن وأجهزة مراقبة، ولايحصل عليها الفقير المعرض ظهره لأسواط أغوات السلطان إذا ما تجرأ بالشكوى، سلعة تحصل عليها كل طائفة داخل أسوارها، وبدفع الأتاوة المفروضة عليها للنظام، وحذاري من الاختلاط...اختلاط المسيحي بالمسلم، الليبرالي بالسلفي، الشيوعي بالأخواني، الغني بالفقير، المرأة بالرجل...لم نكن شعباً واحداً.

في الميدان ذابت كل تلك الحواجز، وتحطمت كل تلك الأسوار، وتعرفنا على بعضنا البعض. ووجد كل مصري في أخيه عوناً وحماية وسلاماً، ووجدنا في داخلنا حباً جارفاً للوطن، حباً حمانا من الجوع والبرد والمطر، حباً لم نكن نعلم عنه أي شيء، دفنوه تحت الجهل والفقر والمرض، دفنوه تحت الهرولة وراء لقمة العيش، تحت الفردية، والأنانية، والتسلق، والانتهازية، والقذارة والعفن.

في الميدان عدنا مصريين نصنع التاريخ من جديد، ندافع عن الوطن بأرواحنا، ونروي الأرض الطاهرة بدمائنا...وتصورنا أن نخرج من الميدان أبطالاً منتصرين بعدما تمكنا من إزاحة كبير اللصوص، ورموز عصابته، وأسقطنا نظامه الفاسد. ولكن الأيام أثبتت وتثبت أن الإرث ثقيل، وأن الحاشية عتيدة في الإجرام، ومتوغلة في أعماق السلطة...عاد المصري إلى هرولته اليومية وراء لقمة عيشه أكثر ضجراً مما كان، وعاد البعض أكثر أنانية، واستغلالاً في بعض الأحيان، بدأت الفوضى من جديد، ولكنها فوضى لا يحدها سوط الأغوات كما في السابق، بل أصبحنا وحدنا في بلدنا نفعل بها ما نشاء...وقفز من السفينة بعض الانتهازيين من رجال الأعمال، وانضم إلى الثورة المضادة عدد منهم إلى جانب قسط كبير من الأغوات، وتتخبط الثورة الآن بين مغامر وانتهازي، وفوضوي وخسيس.

إن ما نحتاج إليه الآن هو التحرير، تحرير الإنسان المصري، تحرير الإنسان قبل الأرض، تحرير الفكر المصري، تحرير الفكر قبل الجسد، تحرير الوطن الذي تجسد داخل كل مصري أثناء الثورة، تحريره من الجهل، من الفقر، من المرض...لقد سقط النظام، ولكنه يستخدمنا...نعم يستخدمنا، يستخدم كل واحد فينا لتزكية نيران الثورة المضادة...فلننزل مرة أخرى إلى الميدان..ميدان العمل، ميدان التعليم، ميدان النضال، فالتحرير أعمق من أن يكون مجرد ميدان، التحرير فكرة، التحرير مفهوم، التحرير قضية آمننا بها جميعاً فكسرنا أغلال القهر والطغيان، فلتكتمل إذن المسيرة ولننزل مرة أخرى إلى الشارع، إلى الشعب، لنستمع لنبضه، ونعي أناته...لقد قام الشعب العظيم بثورته، وآن الأوان أن يمارس كل منا ثورته الخاصة، ثورة على النفس قبل أن تكون على الغير...هذا هو ما نحتاجه.

قال لي أحد الثوار يوماً: إن يوماً في المواصلات العامة في الأسبوع سيغير من إحساسك بالوطن، وبأخوتك في هذا الوطن. وسيساعدك في أن تبحث عن دورك في الثورة.

الثورة مستمرة

Comments

  1. الله ينور عليك ياريس

    ReplyDelete
  2. تعيش مصر الحرة

    ReplyDelete
  3. eiiiih el halaaaawa di??? BRAAAVO... Lana

    ReplyDelete
  4. اكثر من رائع اتمنى لك الاستمرار فى رسالة الابداع والتنوير

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة