ثمانين مليون لحية

في أتوبيس هيئة النقل العام الأحمر الجديد المتجه إلى ميدان عبد المنعم رياض، صعدت فتاة محجبة تلبس ملابس طبيعية  بيضاء اللون يمكن أن تراها في أي مكان في شوارع مصر، لم يكن البنطلون مثيراً ولكنه كان أبيض اللون وبدت من خلاله خطوط السيقان، ولم تكن الألوان فاقعة، ولم يكن "البودي" ملتصقاً بجسدها، لم يكن هناك شيء مميز سوى أنها فتاة تبلغ من العمر حوالى العشرون عاماً، وارتدت ما تظن أنه جميل، وما تظن أنه يليق بقناعاتها ومبادئها ورؤيتها لنفسها وللعالم من حولها.
تابعتها بأعين قلقة فتاة أخرى ارتدت ملابس فضفاضة زرقاء، وبدى من نظراتها أنها مقدمة على أمر جلل. لم يتضح ذلك الأمر إلا حينما جاءت الفتاة الزرقاء ووقفت إلى جانب الفتاة الأولى وخاطبتها وكأنها تقوم بتسويق منتج ما، ولكن واقع خطابها كان مختلفاً:
-          متحجبة بقالك كتير
-          يعني
-          طيب يا أختي ما تبقيش تلبسي بنطلونات محزّقة كده
-          طيب طيب طيب (قالتها الأخت صاحبة البنطلون، في عجالة وإهمال، ولم تكترث كثيراً بما قالت الأخرى، وأخذت تنظر في هاتفها المحمول)
كنت أراقب المشهد من بدايته، وهممت بالتدخل، وطرح قضية رأي عام بهذا الصدد على مرأى ومسمع من الأتوبيس بأكمله، ولكن هاجساً منعني، خاصة أنني أقلعت عن ركوب أتوبيسات هيئة النقل العام بكثافة منذ فترة طويلة، ولم أعد أقدّر رد الفعل الأجيال الجديدة، خاصة في الظروف الراهنة. التزمت الصمت وأخذت أنظر ملياً في الفتاة ذات الزي الفضفاض، ماذا عساها تفكر؟ لماذا تتدخل في زي أختها المواطنة؟ لماذا تعطي لنفسها حق النصيحة، وتخترق خصوصيتها بهذه الطريقة الفجة؟ هل أصبحت الدولة معبداً كبيراً ينقسم إلى طوائف وشيع، تنفرد فيه كل طائفة بركن من الأركان، وتحاول جاهدة أن ترسي دعائم الحقيقة المطلقة التي تمتلكها؟
تذكرت ما قرأته يوم أمس عن أمنية أحد شيوخ السلفيين في حديث له أن يرى في مصر ثمانين مليون لحية قبل رمضان، ثم تذكرت عدد الأطفال والنساء، فتوصلت إلى استنتاج أن صاحبنا لم يفكر في أي آخر...وليست المشكلة في المسيحيين فحسب وهم عشرة ملايين، بل إنه لم يفكر حتى في النساء والأطفال...طبعاً كان التصريح رمزياً، أعلم ذلك، ولكن فكرة أن يعتقد المرء أن الجميع على شاكلته، ولابد أن يكونوا على شاكلته، ومن ليس شاكلته فواجب دعوته، أو تغييره الحسنى أو بغيرها.
التزمت مقعدي، والتزمت الصمت، ثم طرأت فكرة بأن أفسح لفتاة البنطلون مكاني، في إعلان عن تضامني معها في حقها في ارتداء ما تراه مناسباً، ولكنني تخوفت أن يكون في الأمر شبهة، وأن يتحول الموقف إلى ابتذال لقضية رأيتها هامة ومؤثرة. أقول أنني التزمت الصمت وتابعت الفتاة الزرقاء الناصحة، التي لم تكف عن النظر بين الفينة والأخرى إلى الفتاة الأخرى، ثم عادت قليلاً إلى الوراء، وصوبت نظرة شديدة القذارة والتشفي إلى مؤخرة الأخرى، وكأنها تتغزل في التزامها واستقامتها الشخصية على حساب تهتك وإثارة وسقوط الأخرى، وكانت النظرة من القوة، بحيث لم أحتمل السكوت لحظة بعد ذلك، فغمزت الأخت ذات البنطال:
-          اتفضلي هنا يا أختي.
وتعمدت أن تكون كلمة أختي واضحة، وأن يبدو الأمر وكأنه إعلان تضامن، ونظرت شزراً للأخرى التي فضلت الاتجاه إلى مقدمة الأتوبيس، وانتهت القصة عند هذا الحد.
إن طبيعة الشعب المصري الوسطية والتحايل، لقد رأيت كيف تحايلت الفتاة البيضاء على ضغط المجتمع، والبيئة المحيطة بالحجاب، فارتدت ما رأته يحقق الأمرين: الحجاب والزينة في ذات الوقت، وأظهرت بعض مفاتنها دون أن تخترق أياً من الحدود المفروضة عليها رغماً عنها. ومع كل ذلك فإن قوى تطوعية (أتصور أن تزداد بعد الثورة) تضغط عليها نحو حدود أكثر ضيقاً، وأكثر صرامة. إن الأمر على تفاهته رمزي للغاية، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هيئة شعبية من المجتمع، تفرض قواعد تظن أنها تتمشى مع ما تظنه الحقيقة والعدل والأخلاق، ميليشيات تنظم حدود الدين لمن يتخطاها. لا أرى أننا نحتاج لذلك، بل نحتاج لميليشيات من نوع آخر، ميليشيات تنظم حركة المرور، تمنع سائقي الميكروباص من التعدي على قواعد السير، ميليشيات تحرس الطرق السريعة، ميليشيات تقبض على البلطجية، وتوفر الأمان الذي تعجز عن توفيره شرطتنا مباركية الهوى (والتي لاتزال تحصل على مرتباتها من جيوبنا!).

Comments

  1. صح جدا ... غير ان ميليشيات تنظيم الانحراف الدينى - لان المتكلم يضع نفسه دائما مقياسا - فى تنظيم الافكار و العواطف و اللغة و الافضليات و الاكل و تربيةالعيال و كل مل يخصنى انا شخصيا و لا دخل لأحد به بينما كما اشرت بوضوح يهمل كل ما هو عام و احتمال لا قدر الله يكون مفيد .بل انه تعدى الى تغاضيه عن مظاهرالاعوجاج الكامل للمجتمع - و ده بمقاييس اى حد - الى التحايل عليها و ايجاد المخارج و الفتاوى المشرعة له و التى تسمح باستمراره بل و تفاقمه على اساس ان المجتمع ابن ستين فى سبعين و يستاهل كل اللى يجرى له

    ReplyDelete
  2. ومن طبيعة الشعب المصري أيضاً التدخل في شئون الغير. إذا كنت من سكان أو من روادي الأقاليم وخاصةً الأرياف فأنت تدرك تماماً ما اعنيه. يظل يتدخل الجميع في من تزوج ومن تشاجر ومن انجب وماذا فعل فلان لعلان، والمسلسلات العربية مليئة بتلك المواقف.
    وعندما زاد التيار الديني، سواء التدين الحقيقي أو الشكلي، ظهر ونما التدخل في الشئون الدينية بحياة الآخرين.
    ففي رأيي ما فعلته تلك الفتاة، ذات البنطال الفضفاض، وما يفعلة الكثيرون له أصول تمتد جذورها إلى طبيعة المصريين الفضولية، أكثر من كونها نوع من الإلتزام أو التدين.

    ReplyDelete
  3. «.. إنّ القبول بالنعرة البلدية يعني القبول بكل مستتبعات السيطرة الإمبريالية: كل الانقسامات العرقية والدينية والسياسية التي فرضتها الإمبريالية هي ذاتها. إنّ مغادرة العالم التاريخي لمصلحة غيبيات الجواهر مثل النعرة الزنجية أو الايرلندية أو الكاثوليكية تعني مغادرة التاريخ لمصلحة نعرات جوهرانية تحمل الطاقة على استعداء البشر بعضهم ضد بعض» (إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية، ٢٧٦).

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة