الشريحة الطفيلية


إن حسني مبارك ليس شخص أو عائلة، بل شريحة طفيلية بأكملها تتكون في الأغلب من رجال أعمال ذوي مصالح عابرة للقارات، ورؤساء عشائر وقبائل ريفية ترتبط مصالحها وخلفيتها العائلية مع العائلة الحاكمة وحاشيتها وكذلك نخبة رجال الأمن ممن ترتبط مصالحهم برجال الأعمال والسلطة الحاكمة. امتصت تلك الشريحة على مدار السنوات الأخيرة كد وعرق المصريين، وتمكنت من إنشاء خطوط دفاع متينة لنفسها تتمثل في الترابط الكامل لمصالح تلك الشريحة مع بعضها البعض، وعلاقة تلك الشريحة  بالاقتصاد الدولي من خلال الاستثمارات المهولة (الغربية والخليجية) التي تدفقت على مصر في السنوات الأخيرة، بحيث أصبحت مصر هي المصدر الرئيسي للعمولات والتربح والثروات المتضخمة لوسطاء وطفيليات من جنسيات أخرى، فالفساد هو دين الطبقة الحاكمة، والقانون يحمي تلك الشريحة والمتعاملين معها، لأن المشرع الذي وضع ذلك القانون ينتمي هو الآخر لتلك الشريحة. كذلك فقد أصبحت الدول المرتبطة بمصر من خلال تلك الشريحة متورطة في الاقتصاد المصري، وأصبحت السياسة المصرية والاقتصاد المصري عوامل مؤثرة في استثمار ومستثمري تلك الدول.

وكانت الشرطة قبل الجيش هي الدرع الواقي الحامي لتلك الشريحة الطفيلية، بينما كان الجيش يحصل على نسبه المقررة من موازنة الدولة، دون أن تكون له اليد العليا في اتخاذ القرار، ولكن الجيش كان ولازال دولة داخل الدولة، ومع اعتراضه على معظم ما كان يحدث في أروقة السياسة، إلا أنه لم يكن يتدخل، ما لم يؤثر ذلك على الأمن القومي للبلاد. وبحلول الثورة ساندها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فمنح الشعب الثقة في ثورته، وانتظر الشعب أن يتولى المجلس الذي تبوأ منصب الحاكم للبلاد نيابة عن تلك الثورة مهمة الدفاع عن تلك الثورة، ويطيح بكل الرموز، ويبدأ عهداً جديداً للحرية والتغيير والعدالة الاجتماعية.

ولكن المجلس بدا مكبلاً، مرتجف اليد ومتردداً في معظم الأحيان، ولا يقدم على خطوات جذرية سوى بضغط شعبي، وفي ظل البلبلة وعدم وضوح الرؤيا بدأت الإشاعات في التسرب، ومنها دعم إسرائيل وأمريكا والسعودية للرئيس المخلوع، وتهديد السعودية بإعادة المصريين العاملين فيها إذا ما حوكم الرئيس، وعدم إمكانية استرداد الثروات المنهوبة إذا ما كانت المحاكمة عسكرية أو ثورية. كذلك بدأت شريحة مبارك (بشقيها الأمني والاقتصادي) في اللعب بالجزرة والعصا، فكلما هدأ الوضع، ظهرت الجزرة، وكلما لاح الأمل ببراءة أو العفو عن المخلوع وعصابته، كلما استتب الأمر، وعاد الأمن، وبدأت تتسرب بعض الأخبار عن استثمارات بالملايين تتدفق إلى اقتصاد الوطن، وكلما ظهرت على السطح المطالب الشرعية التي قامت من أجلها الثورة، ظهرت العصا، ولاحت في الأفق توابع الانفلات الأمني، وتراجعت البورصة.

إن تلك الشريحة تخيف المجلس الأعلى، وتجعل منه أقرب للمفعول به منه إلى الفاعل، ففي بداية الثورة، بدت الأمور وكأن تلك الشريحة قد توصلت لاتفاق ما مع المجلس الأعلى، لارتباط المصالح، بتهدئة الأمور حتى يعود الثوار إلى منازلهم، ويبدأ التعامل مع الظواهر الجديدة تباعاً، وكان الجيش وقتها هو الفاعل، والمؤثر، ومن وراءه الشعب كقوة ضاغطة عظيمة التأثير. وما إن عاد الثوار، تغيرت الأدوار، وغيرت الشريحة من أزيائها (ولكنها لم تتمكن من تغيير استراتيجياتها البليدة)، وبدأت اللعب في عمق الثورة، فهي تارة تلعب بورقة الأخوان، أو السلفيين، وتارة تلعب بورقة 6 أبريل والعمالة الخارجية مع مباركة من الجيش، وتارة ثالثة تلعب بالخطر الإسرائيلي المحدق على الحدود الشرقية، وفي كثير من الأحيان يبدو المجلس الحاكم وكأنه يتصنع الحيادية، ويلقي بالكرة في ملعب "الشعب"، متناسياً أنه نصّب نفسه في بداية اللعبة كمدافع عن دماء الشرفاء، ومدافع عن الثورة. وإذا ما حسنت النوايا، فإن الجيش قد أرهقته الألعاب السياسية للشريحة الطفيلية التي تسمح لها مواردها الاقتصادية الضخمة (الداخلية والخارجية) بممارسة اللعب إلى ما لا نهاية، وفي أوقات كثيرة فهو لم يعد يعرف من يلبس زي من! وإذا ما ساء الظن، فإن المجلس متورط مع تلك الشريحة في مصالح واتفاقات، ولا يتمكن باستيفاء استحقاقاتها خوفاً من غضب الشارع. (في الوقت الذي ينقسم الشارع فيه إما بسبب الظمأ لمناخ الحرية الذي فوجئ به منذ ثمانية أشهر، أو بسبب تمويلات ودعم لانشقاقات من قبل الشريحة).

في كل الأحوال فالشريحة الطفيلية المباركية تضع الجيش الآن أمام حقيقة أن الاقتصاد هو المحرك الرئيسي للسياسة وليس العكس، ويبدو الجيش الآن مشتتاً بين خيارين صعبين، فإما أن ينحاز (وتبدو الصورة في الشهور الأخيرة بهذا الطيف من الألوان) ناحية الشريحة الطفيلية المباركية (الفلول)، أو ينحاز إلى الشعب الذي وعده أن يحمي ثورته. والخيار الأخير قد يبدو صعباً، خاصة وأن عصا الشريحة الطفيلية غليظة، وسيهرب رأس المال الجبان من خزانة الدولة، وسوف يندلع عنف من جانب الجناح الأمني للشريحة، ولكنه الخيار الذي يحقق استدامة التنمية والخروج من عنق الزجاجة، بينما يحقق الخيار الأول هدنة قصيرة حتى تبدأ تلك الشريحة في تأمين مواردها الاقتصادية بشكل أفضل، وتبني سياجاً أمنية أعلى حول قصورها، وتشحذ من همم اغواتها حتى يجهزوا على القوى الثورية، ولكن المشكلة تكمن في أن القوى الثورية في حالة الشعب المصري، هي الشعب المصري ذاته، فموارد الشريحة الطفيلية، وقدراتها، واستراتيجياتها لا ولن تنصب على مصلحة المواطن البسيط يوماً قدر سعيها الدائم والمحموم نحو الربح. والمواطن البسيط المطحون قد عرف الطريق إلى التحرير، ولم تعد تخيفه هراوات الأمن، أوالرصاص المطاطي، أو الحي.

Comments

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة