لحظة ضعف


كيف ومتى وجد نفسه في ذلك الدرك الأسفل، لا يذكر...كيف حدثت تلك الكارثة؟ لا يذكر...إنها ساعات قليلة تفصله عن أعلى مراتب الفضيلة والتبتل والتقوى والخشوع...بل قل إنها ساعات تفصله عن أعلى مراتب السياسة والإعلام ...كيف يغير الله حال الإنسان بين طرفة عين وانتباهتها ..هو ذاك السؤال الذي يبدو أنه سيتعرف على إجابته في الساعات القليلة القادمة
ساعات قليلة ويستيقظ أإبنه الوحيد على كارثة مدوية، فضيحة مرعبة تهز أركان بيته وعائلته وقريته، وقد تهز أركان جماعته السلفية التي ائتمنته على أمانة فرّط فيها، وربما يمتد أثرها لأجزاء أبعد من الوطن الذي أقسم أن يعمل في خدمته بما لا يخالف شرع الله.
ساعات قليلة ويستيقظ معاذ إبنه وتلبسه أمه زيه المدرسي في طريقه إلى امتحانات نهاية العام الدراسي..سوف يحتضنه اليوم أقوى من أي يوم مضى، لقد خانه قبل أن يخون أمه.
قد يبرر خيانة زوجته باكتنازها المفاجئ وعدم اهتمامها به، وارتباطها بأمواله وشهرته أكثر من خوفها عليه وحبها له. ولكن ما ذنب الطفل البرئ، ما ذنبه أن يصحو على الخيانة والغدر، وتلوكه الألسن طوال حياته بأنه إبن ذلك النائب عن الحزب السلفي الذي وجدوه متلبساً في وضع مخل مع فتاة في عمر ابنته! ما ذنبه أن يذهب إلي المدرسة العام المقبل وقد ذاع صيت والده، وعرف الجميع إسمه...ذلك النائب إياه. ما ذنبه أن ضعفاً إنسانياً يضرب الرجال في تلك المرحلة من أعمارهم فيقدمون على أغبى الحماقات فينسفون كل الأشياء في لحظة مجنونة.
تطلع إلي زوجته المكتنزة وقد تهدل صدرها وخرج لحمها الخمري خارج قميص النوم، والتوى وجهها فأصبح أشد قبحاً من وجهها المقرف أصلاً. فكر أنها السبب في كل المصائب، لولا خناقة الأمس لما ذهب إلى عبير الفتاة التي التحقت مؤخراً بالعمل في أحد المكتبات التي يملكها، ولم يكن ليعرض عليها أن يوصلها لقريتها بسيارته، لولا غباء زوجته، تلك المخلوقة الدميمة التي تنام وتشخر ملء حنجرتها الآن، لكان مستلقياً إلى جانبها في تلك اللحظة يشخر هو الآخر، ويوقظه ولده الحبيب بقبلة الصباح...
إن حجراً ثقيلاً يصعد في هذه اللحظة إلى حلقه ويدفعه دفعاً إلى البكاء، يود أن يبكي، أن يصرخ، أو يوقف الزمن، أن يعيده أربع ساعات فقط للوراء، يود أن ينتحر، يود أن تنتهي حياته الآن وهنا.."يارب اجعل لي الموت راحة من ذلك العذاب العظيم"
فتح جهاز حاسوبه، ووجد ما توقعه في طريقه إلى المنزل، توقع أن تسبقه الأنباء "السارة" إلى الإنترنت قبل أن يقوم أي مسئول رسمي بأي إجراء، لقد لمح على شفتي نقيب الشرطة الداعر، ابتسامة تهكم، وهو يرى ولا يمنع المارة من التصوير، وهو يعلم تماماً مصير تلك الفيديوهات التي صورها له أعضاء من أحزاب علمانية وليبرالية كافرة يتابعونه طوال الوقت ويتصيدون له خطأً..هاهو يقع في الخطأ، ويصبح في لحظة محط أنظار الجميع. يا شماتة الليبراليين، والعلمانيين، والكفرة والزناديق من أعداء الإسلام.
يا شماتة العدوين فيك يا محمود، يا خراب بيتك يا محمود...يعني كان لازم الليلة تخرج من دارك؟ ما كنت مرزوع جنب الهبابة مراتك، وبتساعد الواد في مذاكرته، إيه اللي خرجك يا حمار؟

ألا إن كيدهن عظيم حقاً (فعلاً رسول الله كان عنده حق!!! هو كان حديث ده ولا قرآن).. عند هذه النقطة استغرق النائب المحترم محمود البلبيسي في تلك التفصيلة، ونسي لبضع دقائق هول المصيبة التي حطت عليه. لحظات وعاد اللحن الأول الذي لا يبارحه، تذكر الواقعة بتفاصيلها.
خناقة في البيت، ثم خرج على أثر تلك الخناقة خروج الأبطال من المنزل، ولم ينس أن "يرزع" الباب ورائه صائحاً في زوجته، أنها بما فعلته تقترب درجات من المعاصي، لعصيانها زوجها وهو ما نهى رسول الله عنه

(الآن يتذكر كلماته بوضوح!! هههه... رسول الله؟ رسول الله يا هلّاس يا بتاع النسوان؟؟؟ الآن تبدو كلماته محرجة إلى أقصى الحدود، كيف سيستقبل امرأته بعد أن تطير إليها الأنباء صباح اليوم).

يعود فيتذكر الجانب الرومانسي من الكارثة، يذهب بعد الخناقة إلى أحد مكتباته التي تعمل بها عبير، الفتاة المنقبة التي أوصاه بتشغيلها الحاج منصور صديقه في المسجد، بنت يتيمة تعيش مع خالتها في قرية قريبة بعدما ماتت والدتها وكان والدها قد تركهم وهي رضيعة منذ عشرين عاماً. تنهي عملها في السابعة وتستقل الميكروباس إلى قريتها. كان يلاحظ شيئاً ما كلما تكلم معها، شرار ينبعث من عينيها، وطاقة دفينة من تحت ذلك النقاب، فيستعيذ بالله، وما إن سمع صوتها يوماً حتى أدرك أنها تثيره أكثر من أي امرأة سمع بها... إنها تثيره أكثر من هند رستم التي يتذكر أنها كانت تثيره بجنون أيام مراهقته قبل أن يهديه الله لسواء السبيل.
ذهب إلى عبير متلككاً بمراجعة الحسابات، وما أن بدأ المراجعة، حتى أيقن أن هناك شيئاً متبادلاً بينهما، وأغرته ضحكة تمتلئ أنوثة طاغية بأن يمد يده مصافحاً إياها احتفاءً بنكتة...فما كان منها إلا أن بادلته الكف بكف، فعلم آنذاك أنه وقع في حب تلك الفتاة، ويجب عليه أن يحفظ فرجه بالزواج منها قريباً، يتيمة، وتعمل عنده، والحاج منصور يضمنها طالما كان هو من زكاها لديه.
تتابعت النكات، والتلميحات، وحينما آن أوان عودة عبير لقريتها، عرض عليها النائب المحترم توصيلها بسيارته بدلاً عن بهدلة المواصلات، في ذلك الوقت المتأخر، ومع الأخذ في الاعتبار عواقب الانفلات الأمني الذي يدأب على علاجه مجلس الشعب الذي هو عضو من أعضائه، وهو مسئول مباشر عن تقديم الاستجوابات للداخلية الخ الخ الخ (كانت ذلك محور حديثه لها أثناء إغلاقهم المكتبة)، ومع كل نظرة إعجاب يجدها من الفتاة الغضة كان يذوب في أنوثتها أكثر، ويحس بتسلل غريب للشيطان داخل نفسه الأمارة بالسوء...وكلما استعاذ داخله بالله من الشيطان الرچيم، كلما إزدادت عدائية الشيطان الرچيم، فيريه مفاتن أكثر لعبير، التي خرجت أمامه ليغلق المكتبة، وكادت تتعثر فأمسك بذراعها، وعلم ساعتها أنه قد سقط في الفتنة بالفعل، وأنه يريدها الآن وليس غداً، في تلك اللحظة بعينها، تضائلت أمام عينيه كل مباهج الحياة الأخرى، نسي فرحته بمقعد مجلس الشعب، نسي نشوته وهو يتحدث كزعيم ملهم مفوه أمام أنصاره في المسجد، نسي فرحته بأول لقاء تليفزيوني مع مذيع شهير معقباً على فضيحة نائب آخر أجرى عملية تجميل لأنفه، نسي إبنه معاذ فرحة عمره وأمله في هذه الدنيا، نسي كل الأشياء وكل الأحداث، ودخل في دوامة مجنونة لا يعرف أين ستنتهي.
في السيارة وبينما استمرت النكات والمصافحة بالأيدي بعد كل نكتة، أمسك بكفها، وتهدجت أنفاسه، وتمكن من ملاحظة نظرة شهوانية خجلة من جانبها، طلب منها أن تخلع نقابها حتى يرى وجهها ففعلت، وساعتها أوقف السيارة ولم يتمكن من أن يقف آمام ذلك الجمال، والأنوثة، وطزاجة الجسد...تباً لزوجته الدميمة، وما إن تدللت عبير بين يديه ووجدها تتمايل في محاولة يائسة للفرار من قبضته حتى تملكته الرغبة الحيوانية التي تعمي الإنسان عن أي من المتغيرات المحيطة...وبالفعل فقد صاحبنا النائب المحترم السيد/ محمود البلبيسي وعيه ورشده وحيائه بل وحياته في آن واحد.
لا يذكر كم استغرقت تلك اللحظات، ولا يذكر كيف استقرت الآنسة عبير على حجره، بل إنه لا يذكر إلى أين امتدت يداه حينما أحاطتهما في لحظة غادرة أعين القرية والشرطة والعالم أجمع. لا يذكر كيف خرج وأخرجها من السيارة، ولا يذكر أياً من الكلمات التي تفوه بها آنذاك..ولكنه يذكر جيداً أنه وقف أمام نقيب الشرطة محاولاً الخروج من الموقف بكل حجج المنطق وألاعيب النقاش التي تعلمها في السنوات الأخيرة، ولكن محاولاته جميعاً باءت بالفشل

...


ساعات قليلة وتستيقظ القرية، وتستيقظ مصر بأكملها على فضيحة رفع الحصانة عن النائب المحترم محمود البلبيسي لاتاحة الفرصة للتحقيق معه في الواقعة المنسوبة إليه بفعل فاضح في الطريق العام.


في تلك اللحظة اتصل به منسق حملته الانتخابية والعضو القيادي في جماعته وسأله عن أقواله التي صرح بها للشرطة، وما إذا تم تصويره من عدمه، ومدى تورطه في الفعل الخادش للحياء. أخبره بألا يخرج من بيته حتى يتصل به المحامي الخاص بالجماعة والذي يمتلك الأدلة على أن كل هذه الحادثة كانت بالفعل مدبرة من أمن الدولة حتى يشوهون سمعة التيار السلفي، لمصلحة مرشح الفلول.

بعد تلك المكالمة أعاد سيادة النائب المحترم النظر إلى القصة برمتها، وراجع تفاصيل الأحداث، وتخيل المؤامرة وحبكتها، وتذكر ما تفوهت به عبير، والمكان الذي وقفوا به، وأجهزة المحمول التي التقطت صوره وفيديوهاته، وبدأ خياله الخصب ينسج خيوط المؤامرة المحاكة ضده وضد التيار السلفي وضد الإسلام والمسلمين، نظر إلى امرأته الدميمة المستلقية وقد فاحت منها رائحة شخيرها العطن، وبدأ في استعادة الأمل في الحياة، وأخذ يفكر في القصة التي سيلقنها لمعاذ حينما يستيقظ، ويسمع في المدرسة عن فضيحة والده.  

Comments

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة