أوليجاركية الرأسماليين الأخوان وديمقراطية الدولة


الأوليجاركية هي كلمة ذات أصل يوناني من كلمة oligos وتعني "قليل"، وكلمة archo وتعني السلطة أو الحكم، أي أن الأوليجاركية تعني حكم الأقلية أو سلطة الأقلية والأوليجاركية هي صورة من صور هياكل السلطة، التي تتركز فيها قوة السلطة على نحو فاعل في يد حفنة قليلة من البشر. وهؤلاء قد يكونوا في أعلى هرم السلطة لأسباب ملكية، مادية، روابط عائلية، معرفية، بسبب شركات ضخمة، أو سيطرة عسكرية. وتقود السلطة في الدول التي تتبع أنظمة كهذه عائلات بارزة، تورث سلطتها من جيل إلى جيل. وتتميز تلك السلطات عبر التاريخ بلجوئها للطغيان (معتمدة على العبودية وإذلال الأغلبية من الجماهير للبقاء)، أو قد تكون أقل وطأة نسبياً في ظل نظم شبه جمهورية تعتمد دساتير تبدو على الورق متسقة مع الديمقرطية وحقوق الإنسان وتداول السلطة، بينما تكرس في الواقع لحكم أقلية عسكرية أو اقتصادية. وقد استخدم أرسطو ذلك المصطلح ليعبر عن "سلطة الأغنياء"، ولكن السلطة قد لا تحكمها المادة وحدها، ويمكن أن تكون في يد مجموعة مميزة مرتبطة بروابط عائلية مثل الملكية على سبيل المثال.

وفيما يبدو أن مصر تحولت نحو أوليجاركية رأسمالية تحكمها مجموعة من المقربين من جمال مبارك "مفجر ثورة التغيير والتحديث" في منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، وانفصل وقتها شباب "المستقبل"، وأصحاب "الفكر الجديد" عن الحرس القديم في الحزب الوطني، وانطلقوا لتقليص دور الدولة في الاقتصاد، ومنح القطاع الخاص كل الحرية التي يبغيها من أجل العبور بمصر نحو المستقبل كما يرونه من نوافذ السيارات الفارهة، وفي ملاعب جولف الضواحي الجديدة. لقد تزاوج وقتها رأس المال مع السلطات الممنوحة لجمال مبارك، ويبدو أنها كانت واسعة للغاية، فتوسعت حيتان الأعمال في طول البلاد وعرضها، وكان مبارك الكهل يتابع ذلك في كسل، ويلقي ببعض الخطابات المفروضة عليها هنا وهناك، ويبقي على الجيش بعيداً عن مستنقع السياسة التي بدأت تؤثر بشكل كبير على المواطن المنسحق تحت آلة الرأسمالية الشرسة، التي كانت تلتهم أي زيادة في المرتبات أو المكافآت أو الحوافز.

وكانت الذراع الأمنية هي صمام الأمان الذي تركن إليه الأوليجاركية الرأسمالية، لذلك تضخم جهاز الشرطة، وتضخم دور مباحث أمن الدولة، حيث كان دور تلك الذراع حماية المنجزات الرأسمالية، والاستثمارات الأجنبية التي تدر ملايين الجنيهات، وتتيح فرص العمل لمئات الآلاف من العاطلين.

في النهاية ظلت تلك الأوليجاركية بعيدة عن الواقع، ولم تتصور أن كل استثماراتهم، وكل إنجازاتهم، ليست سوى قشور رقيقة على إناء يغلي بمشاكل أكبر وأعمق بكثير، من مجرد توفير فرص عمل في مجالات استهلاكية لخريجي الجامعة، وإهدار موارد الدولة في تعليم لم يعد له قيمة في سوق العمل. وحينما قامت الثورة، قفزت المؤسسة العسكرية لتزيح شبح التوريث، ولتزيح كابوس جمال مبارك ومقربيه من المشهد السياسي، ولكن النخب العسكرية هي الأخرى متورطة في العديد من الصفقات والأعمال المرتبطة بتحرير الاقتصاد، ورأس المال العابر للقارات، والشركات متعددة الجنسيات إلخ إلخ، لذلك كان المجلس العسكري بصدد عملية جراحية يريد فيها أن يستأصل وجوه النظام، على أن يبقي على النظام بهيئته وكيانه كما هو، على أن يقوم بعمليات تجميل في المستقبل. وهنا ظهر الأخوان المسلمون كقوة سياسية منظمة، تتحرق شوقاً للعب دور في مشهد ما بعد الثورة، ولأن الأخوان المسلمين يتبنون الاقتصاد الحر والتجارة ورأس المال العابر للقارات كرؤية وحيدة للخروج من المأزق الاقتصادي، واكمال مسيرة "التغيير والتحديث" التي بدأها مبارك الإبن، فقد التقى الغريمان العسكر والأخوان، لكل منهما أچندته الخاصة بينما يتفقان على الرؤية الاقتصادية للخروج.

فالعسكر من جانبهم يريدون خروجاً آمناً، لا ينال من شرفهم، نظراً للتضحية التي قاموا بها، وكانت كفيلة بأن توردهم موارد التهلكة حال لم تنجح الثورة، ولم يسقط النظام. كذلك يريد العسكر ألا يتدخل أحد في ميزانياتهم، وفي هياكلهم، حتى يظل الجيش دولة موازية قادرة دائماً على حماية الدولة، وتنفيذ بعض الأدوار الإقليمية، ولعب أدوار سياسية محدودة إذا ما لزم الأمر.

والأخوان يريدون التأكد من أن نخب النظام السابق، ورجال الحزب الوطني المنحل غير قادرين على العودة للحياة السياسية مرة أخرى، حتى يأمنوا لأنفسهم أرضية مبدأية يتمكنون من خلالها فرش الأرضية الأوسع للتمكين، كذلك يريدون فتح أبواب الشرق حتي يتمكنوا من التواصل اللوچيستي مع الأخوة في حماس وسوريا وربما باكستان وماليزيا وأفغانستان في المستقبل.

بضمان أمريكي كان للأخوان ما طلبوا، إلا أن الشره السياسي، والعته الإعلامي الذي مارسه الأخوان ممثلاً في تصريحات المرشد (السابق والحالي على حد سواء)، وفي مكتب الإرشاد، ونزولاً حتى رئيس الجمهورية والمتحدث بإسمه فرئيس الوزراء الطفل المعجزة، كل ذلك جعل المخطط الأخواني ينفضح سريعاً، وتظهر ملامح التمكين، التي لا تقل "تحديثاً" ولا "تغييراً" عن ثورة التحديث والتغيير لمفجرها جمال مبارك.

في القانون الحديدي للأوليجاركية، وهو نظرية سياسية، أنشأها المتخصص في علم الاجتماع، والنقابي روبرت ميشيلز عام ١٩١١ في كتابه الأحزاب السياسية وجد أن ظهور الأوليجاركية مرتبط بالطبيعة التكوينية للمنظمات. فالعصر الحديث الليبرالي والديمقراطي الذي سمح بتكوين المنظمات بأهداف مبتكرة وثورية، يجعل تلك المنظمات، تصبح أقل ديمقراطية وثورية كلما زاد تعقيدها،. وصاغ ميشيلز قانونه الحديدي للأوليجاركية: إن من يقول منظمة، فإنه يقول أوليجاركية.

أقول أن أوليجاركية الأخوان المسلمين المتمثلة في الشاطر والبرنس، ورجال الأعمال من الأخوان، أو من النظام السابق الذين يعتزمون التصالح معهم، لا تقل ضرراً، ولا تقل خطورة عن أوليجاركية مجموعة جمال مبارك التي ظهرت قبل الثورة وكانت أحد الأسباب الرئيسية في قيام الثورة، كل ما هنالك أن هياكل الأخوان المنتشرة في الريف المصري والصعيد، تحاول عبثاً أن تصور نفسها، وكأنها نصيرة الفقراء والمحرومين، وهي أبعد ما تكون بسياساتها الاقتصادية عن ذلك، فهي نخبوية أكثر من الحزب الوطني نفسه، بل تزيد عن الحزب الوطني في نخبويتها الدينية، وامتلاكها للحقائق الإلهية المطلقة بما يتبع ذلك من صكوك الغفران، ومواصفات الجنة، والطريق إليها، وقوائم اللعنات والملعونين.

ها هي الذراع الأمنية تظهر من جديد، ها هي وزارة الداخلية لحكومة "الثورة" ترفع أسلحتها تجاه المتظاهرين العزل، وترديهم قتلى، وهاهو الرئيس المؤمن الثوري الخاشع العادل يركب نفس المواكب، ويدلي بتصريحات باهتة كالحة متلعثمة يمليها عليه الرجل الأول في الجماعة السرية. وبينما يدور الصراع يتسرب أعضاء التنظيم السري إلى أجهزة الدولة في مخطط للسيطرة الكاملة على الدولة التي يجهلون أبعادها تماماً،
يتابع روبرت ميشيلز: إن أي منظمة ضخمة لابد لها من أن تنشئ بيروقراطية للحفاظ على فعاليتها وتستمر في النمو، ولا يتسنى في تلك الظروف اتخاذ القرارات اليومية بواسطة عدد كبير من الأعضاء غير المنظمين. وحتى تتمكن المنظمة من العمل بفعالية، لابد وأن تكون هناك مركزية، وسوف تنتهي السلطة لتكون في يد فئة قليلة. وهذه الفئة "الأوليجاركية" سوف تستخدم جميع الطرق الضرورية لاستمرارها وتوسعها في السلطة.

وعلى نطاق أوسع فإن الشعب لا يتمكن من اتخاذ قراراته من خلال ديمقراطية المشاركة. لتعذر اجتماع الشعب، وعدم توفر إمكانية فتح نقاش شعبي موسع بشأن القرارات المختلفة. لذلك تشعر الشعوب بحاجتها إلى القيادة. والقيادة تحتاج إلى تخصص، وإلى تطوير القواعد المعرفية والمهارات والموارد داخل أجهزة القيادة، مما يؤدي لاحقاً إلى خروج القيادات من الميادين ومن بين الجماهير إلى المكاتب والأروقة.

تؤدي البيروقراطية إلى تركيز السلطة في يد القيادات. وتسيطر القيادات على المنح والمنع. فتمنح يشاركها التوجهات والقناعات، مما يؤدي إلى تكريس حكم الأوليجاركية. فالقيادات تحصل على أماكنها لأنها تتمتع بمهارات سياسية فوق المعتادة (من بينها الكاريزما السلطوية). وبينما يصعدون سلم السلطة، تتزايد القوة التي يحوزونها، كما يرتفع وضعهم الاجتماعي. والقيادة تسيطر على المعلومات التي تتسرب إلى أسفل لمستوى الميادين والشوارع، فيمنعون ما يرونه مكدر للأمن العام أو مثير للقلاقل، ويشكلون بذلك الرأي العام.
وهكذا تلجأ الأوليجاركية الأخوانية (اليمينية، الرأسمالية، المحافظة) إلى الصندوق وإلى الإنتخابات الآن، بعدما تمكنوا من أحكام سيطرة لابأس بها على مفاصل العملية الإنتخابية، مما سيضمن لهم مجلساً للشعب بأغلبية أخوانية، حتى يبدءوا المخطط الأوسع في أخونة قوانين الدولة، ومن ثم تغيير هوية الدولة المصرية إلى الأبد.

لا أعتقد أن الأخوان ومعهم من معهم من الإسلاميين قادرون على إدارة ذلك الصراع على النحو الذي يرومونه، فحينما كتب روبرت ميشيلز كتابه عن الأحزاب السياسية كان ذلك في مطلع القرن العشرين، وكانت السلطة أو القيادة قادرة على التحكم في المعلومات التي تهبط من أعلى إلى أسفل في الدولة، بينما أصبحت المعلومات الآن في الألفية الثالثة بعد الميلاد، تسبح في الفضاء، وتتوجه لا فقط من مكان لمكان في الدولة دونما اتجاه محدد، ولكن من ركن من أركان الكرة الأرضية إلى الركن المقابل في أقل من الثانية، وتلك سلطة جديدة تمتلكها الشعوب.

كذلك فإنه حينما كتب ميشيلز قانونه ذلك فقد كان وقتها نقابي – أناركي. ولكنه هجر فيما بعد قناعاته الاشتراكية وأصبح أحد أهم المنظرين لنظام بينيتو موسوليني في إيطاليا.

تسقط الفاشية الدينية
يسقط الفاشي الأخواني

Comments

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة