أمريكا



كنت في غاية السعادة حينما وصلني خطاب جامعة كونيتيكت من أمريكا، ومع أني أنهيت دراستي في روسيا الاتحادية (الاتحاد السوڤييتي السابق العظيم)، إلا أنني تصورت أن قليلاً من "الحرية" يلزمني حتى أتعرف على العالم من شتى جوانبه. كتبوا لي أنهم قبلوني، وأن مرتبي كمعيد في الجامعة سوف يكون كذا، وأن صندوق المراسلات الخاص بالمعيدين موجود بالطابق الفلاني، ونصحوني بمحاولة الإسراع بالوقوف في طابور الحصول على السكن الجامعي، لأن الزحام عادة ما يكون شديداً، وتفاصيل أخرى لا أذكرها. كانت كلها تفاصيل بعيدة، ولوهلة أحسست، وكأن التفاصيل لم تكن لي، للطلبة والمعيدين القادمين من دول أخرى.

كانت تلك المراسلات الصيفية تتم من خلال صديقي الحميم فيليب الأمريكي، ويرسلها لي كلما تجمعت. وفي أحد المراسلات طلبوا مني الإسراع بالحضور، لأن إجتماعات المعيدين والطلبة الأجانب على وشك أن تبدأ.
وهكذا كنت على أول طائرة في طريقي إلى نيويورك، ومنها بالقطار إلى نيوهيڤين التي يقطن بها صديقي فيليب، ومعي حقيبة سفر واحدة كبيرة، بها أمتعتي التي يمكن أن تكفيني لسنة دراسية. استقبلني الصديق، وبدأنا في التخطيط للرحلة في الغد، سألته عن القطار إلى مدينة ستورز الصغيرة للغاية التي تضم الجامعة، وتقع في وسط الغابات الشمالية الشرقية لولاية كونيتيكت. فرد الصديق أنه لا توجد قطارات، وأن القطارات في أمريكا موجودة بين نقاط محددة، تكثر الحركة بينها، ثم قال لي عبارته الشهيرة: “في أمريكا، نحن إما نطير أو نقود"
In America we either drive or fly

كان أمراً جديداً علي، فبدأنا نتقصى عن حافلات النقل العام التي يمكن أن تنقلني من نيوهيڤين إلى ستورز، فوجدنا أن هناك حافلة واحدة تستغرق حوالى الأربع ساعات ولها موعدين فقط (الطريق بالسيارة يستغرق ساعتين)، هناك أيضاً حافلات إلى هارتفورد، وهي عاصمة ولاية كونيتكت، ومنها إلى ستورز، وذلك يستغرق وقتاً أطول، ولكن المواعيد أكثر.
قال لي فيليب: أستطيع أن آخذك في اتجاه واحد فقط إلى ستورز، لارتباطي بالجامعة، ولكن عليك أن تعتمد على نفسك هناك، فلن يكون هناك طريق للعودة، وقد كان. وصلت إلى الشارع الرئيسي أمام مبنى قسم الموسيقى بجامعة ولاية كونيتكت (ولا تظن عزيزي القارئ أن كلمتي "الرئيسي" و"جامعة الولاية" ) تعنيان ما يمكن أن تعنيانه في القاهرة مثلاً، الطريق الرئيسي طريق صغير على جانب منه توجد بعض المحلات والمقاهي وبار صغير، والناحية الأخرى مبنى من دورين به قسم الموسيقى، لم تكن المرة الأولى التي أزور فيها الجامعة، فقد جئت لاختبار القبول منذ بضعة شهور، وأعجبتني بشدة الطبيعة والبحيرات والغابات التي تحيط بالجامعة من كل الجوانب، وكنت أظن أن ذلك هو الهدوء الذي أنشد، بعد صخب الحياة في بطرسبورغ الروسية.

لم يكن الجمال هو ما شد اهتمامي في تلك المرة، ولكنه التحدي الذي يقف أمامي للحصول على مكان للمبيت تلك الليلة. ولكني لسبب ما كنت مطمئناً، لأن القسم لابد، وأن يكون قد وضع ترتيباته لاستقبالي. دخلت إلى القسم وأنا أحمل حقيبة سفري الكبيرة، وقابلتني سكرتيرة القسم "بيتي"، وهي امرأة في الخمسينات من عمرها، لم تكن مكترثة أو متعاطفة على الإطلاق، أرشدتني إلى مكان المراسلات لأعضاء هيئة التدريس والمعيدين، ورأيت صندوقاً يحمل إسمي.
إحساس غريب أن تجد إسمك بلغة أجنبية على صندوق بريد في جامعة تبعد آلاف الأميال عن وطنك، وما هو أغرب أن تجده ملئ بالخطابات من الجامعة، وأنت لا تعلم ما يتحدثون عنه...خطابات بشأن إجتماعات، وعن أوراق يجب أن تستوفى، وكشوف طبية، وخطابات من الإدارة الطبية، وإجتماعات للقسم. أحسست وكأنني أركب قطار إنطلق لتوه، وعلي أن ألحق به أولاً ثم أحاول الصعود، بعد أن أرمي بحقيبة سفري داخله، كانت المعلومات التي أتلقاها كثيرة للغاية، والمساحة الزمنية قصيرة جداً، وكل ما كان يشغلني في تلك اللحظة، هي المكان الذي سوف أبيت فيه ليلتي. سألت بيتي السكرتيرة، فأجابت أن هناك إدارة السكن في الجامعة، هل وقفت في الطابور؟ هل قدمت طلباً: “لا"، عليك أن تحاول، ولكن لا أعتقد أنه يمكنك اللحاق الآن لأن الطلبة بدأوا في الوصول، هناك أيضاً فندق يبعد عن هنا حوالى ٥٠ كيلومتراً يمكنك أن تقضي فيه الليلة، واتصلت بهم مشكورة، فعرفنا أن الغرفة تتكلف ١٢٠ دولاراً، وأن التاكسي (لعدم وجود مواصلات سوى حافلة واحدة على الطريق كل ساعة، ولمدة محدودة في اليوم) يتكلف حوالى ٣٠ دولاراً. في تلك اللحظة بدأت أخاف بالفعل، فكل ما كان بجيبي هو ٦٠٠ دولار، وكنت أظن بتفكيري الريفي الساذج، أن تلك النقود كافية حتى أقبض مرتبي من الجامعة. الآن على ما يبدو أن تلك الأموال لا شئ على الإطلاق.
نصحتني بيتي بأن أترك الحقيبة، وأن أذهب إلى الإدارة السكنية أولاً، حتى أقرأ الإعلانات هناك، وأتحدث مع أحد، حتى يمكنهم أن يساعدونني في مسألة السكن.
كان ما أقلقني أكثر من أي شئ آخر، هو عدم اكتراث بيتي وإدارة القسم بقضيتي، لقد قابلني بالصدفة رئيس القسم، وحياني ثم إنطلق لعمله، وكأننا التقينا لتونا بالأمس، لم تكن المرة الأولى التي أسافر فيها، فقد قضيت ست سنوات في الاتحاد السوڤيتي، في أحلك أوقاته، وحينما تحول من "إتحاد سوڤييتي" إلى "روسيا الاتحادية"، وحينما وصلت إلى هناك كان ذلك في العام ١٩٩٠، ولم أكن أعرف الروسية، وكان ما أملكه من نقود أقل بكثير، وكنت في بيئة أغرب بكثير عن تلك التي أنا بصدد الدخول فيها. ولكن الأمر المدهش أن إحساس الغربة كان أقل بكثير.

هنا أنا أعرف الإنجليزية جيداً، وتخطيت اختبار التويفل بجدارة تسمح لي بالعمل معيداً بالجامعة، وأنا أدرك تماماً كل ما يحدث حولي، ولكنني أحس بغربة شديدة، ووحدة من اللحظة الأولى، وقدر هائل من عدم التعاطف، وعدم الاكتراث، من جانب الإدارة، التي هي وفي واقع الأمر تصرف علي أموالاً طائلة، وتضعني في برامج تأمين صحي، وبرامج تربوية وتعليمية متطورة للغاية.

ذهبت إلى إدارة الإسكان بعد أن تفضلت بيتي مشكورة بالسماح لي أن أترك الحقيبة في الإدارة ريثما أحل مشاكلي الأخرى، فوجدت كماً جديداً من المعلومات عن طريقة التقديم، وشروط التقديم، وكذلك وجدت إعلانات كثيرة لم أفهم من أي منها أي شئ، إعلانات عن منح دراسية، وعن توصيل، وعن سكن، وعن كل شئ. توجهت للشباك، فوجدت زنجية شديدة اللطف، استقبلتني بحفاوة، وكانت الشخص الأول الذي أشعر أنه متعاطف مع مشكلتي، وقالت أنه من المستحيل أن أحصل على السكن الجامعي الآن، لأن الطابور بالفعل طويل، ولكن هناك حلول أخرى، فهناك فندق بالجامعة، وأجرة السكن فيه ١٣ دولاراً فقط (وهنا تنفست الصعداء لأول مرة في ذلك اليوم، حينما علمت أن هناك مكان يمكن أن أقضي فيه ليلتي)، ولكن علي أولاً أن أسجل نفسي في الجامعة، وأستخرج كارنيه الجامعة، وأن أستوفي الأوراق، وأعود إليها بعد ذلك.

عدة رحلات إلى عدد من المكاتب، بما في ذلك التصوير الرقمي على كارنيه الجامعة (وكان ذلك وقتها أمر جليل)، وأصبحت معيداً بجامعة كونيتكت في لمح البصر، وعدت إلى صديقتي الزنجية، وأنا أتفحص الكارنيه الجديد بكل فخر واعتزاز، وقامت بعمل تليفون للفندق، وحجزت لي، وأكدت لي أن هناك فرصاً للحصول على مسكن، ولكن الأفضل أن يكون المسكن داخل الجامعة، لعدم امتلاكي سيارة، تذكرت كلمة صديقي فيليب، وفهمت أن معظم الطلبة يتحركون بسياراتهم.

عدت إلى قسم الموسيقى، وحملت حقيبتي وذهبت إلى الفندق لحين حل لمشكلة السكن، التي اتضح أنها عويصة. وحينما وصلت إلى الفندق، سألني الموظف (الذي هو في واقع الأمر طالب في الجامعة، ويعمل عملاً إضافياً) عما إذا كنت أنا محمد، وحينما أجبته بالإيجاب، طلب إدارة الإسكان، وقال لي أن الموظفة التي أتعامل معها تريد أن أتحدث إليها، وحينما تحدثت معها، قالت أنها استطاعت أن توفر لي غرفة في السكن الجامعي، وعلي أن أعود إليها على الفور. عدت إليها بحقيبتي، لأعلم أن إيجار غرفة الجامعة أكثر من ٣٠٠ دولار في الشهر، ومعنى ذلك أنه سوف يقتطع ما يفوق نصف مرتبي على أقل تقدير. وأن القسط الذي يجب دفعه هو قسط لثلاثة أشهر مقدمة، وحينما رأت الموظفة تغير لون وجهي، قالت لي: لا تقلق، إن كل تلك أمور إدارية، يمكنك أن تثبت أنك معيد، وتحصل على مرتب، فيقتطعون منك كل شهر، ولن تدفع أي شئ الآن، فقط وقع الأوراق الآن، واحصل على المستندات التالية، واذهب بحقيبتك إلى غرفتك الجديدة، واعتبر أنك محظوظ للغاية في أن تحصل على غرفة في ذلك الوقت القياسي.

ذهبت إلى غرفتي الجديدة، لم تكن تتعدى الستة أمتار، مجرد سرير، وأمامه دولاب، وفي الركن مكتب حشر حشراً .. كانت غرفة صغيرة نظيفة، بها نافذة صغيرة أيضاً، ولكنها للنوم والاستذكار فقط، وليست للحياة، هناك في الخارج صالون يشترك فيه الدور، وهناك مطبخ أسفل المبنى يشترك فيه الجميع، وغرفة للغسيل.
كان النظام جديداً علي، وللحظة أحسست أن ما أراه أمامي مما يندرج تحت مسمى "حرية" لا يعبر عن معناها المستقر في وجداني. كذلك أحسست أن ما يدفعني للشعور بشئ من القسوة، هو كم القولبة والتنميط والبيروقراطية (ولا أعني بالضرورة تعميم السلبية على تلك المفاهيم، التي تكرس النظام، وهو أمر حميد)، إنني أدخل نظاماً ناجحاً، كل شئ فيه يعمل، وبكفاءة شديدة، ولكنه نظام على كل إنسان فيه أن يعتني بمشاكله الخاصة، دون اللجوء إلى الإدارة، والإدارة تتعامل معه كعميل أو "زبون" يمكن بيعه أو تأجيره لفنادق وشركات ومتاجر أخرى، هذا ما تأكد لي، حينما علمت أن المتجر داخل الجامعة أغلى من المتاجر العادية، وأن السكن الجامعي أغلى من السكن خارج الجامعة، وأن الحرية تعني أن الجميع أحرار...فأنا حر في تحركاتي وتصرفاتي، وأنت أيضاً حر في أن تستغل عدم قدرتي على الحركة، أو عدم معرفتي أو عدم قدرتي على التصرف.

كذلك ما أدهشني هو الجهل التام بطبيعة الآخر، ومع أنه من الطبيعي أن يصطبغ الوافد الجديد بصبغة النظام الجديد الذي هو بصدد الولوج فيه، وأن يتعلم قواعده وقوانينه، إلا أن حداً أدنى -كنت أتصوره موجوداً- من معرفة الآخر، الوافد الجديد من ثقافة وحضارة بعيدة. لازالت صورتي منطبعة في ذاكرتي وأنا قادم من أفريقيا بحقيبة سفر كبيرة، وأنا أدخل إلى قسم الموسيقى بجامعة كونيتكت، وأقول لهم: أنا محمد من مصر-أفريقيا، فيردون التحية بكل برود وطبيعية، ويروني صندوق البريد الذي سوف يراسلونني من خلاله.

بعد مرور سنة دراسية في الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى الرغم من نجاحات شخصية تحققت هناك، رأيت أن أمريكا ضيقة على الرغم من اتساعها، وأنها فقيرة على الرغم من غناها بالموارد، وأنها غبية على الرغم من تعاملي مع أذكى من قابلت في حياتي ووجود أذكى الخبراء على أرضها، وأنها محدودة على الرغم من أنها أرض الأحلام والفرص. بعد عشرة أشهر من وجودي في الولايات المتحدة، علمت قطعاً أن "حريتي" غير موجودة هناك، ومع ذلك فكثير من الناس يبحثون عن الحرية هناك.

Comments

Popular posts from this blog

مكالمة جمالات

لائحة النحت في أوركسترا أبوحماده السيمفوني

سوسن