الميثاق القومي

أيها المواطنون..
أيها المواطنون أعضاء المؤتمر الوطنى للقوى الشعبية:
النهارده بنبتدى مرحلة هامة وشاقة فى كفاحنا من أجل تحقيق الأمانى التى نتمناها، وأنتم بالذات نيابة عن القوى الشعبية التى انتخبتكم؛ أمامكم مسئولية كبيرة فى هذه المناقشة الكبيرة والتى تبدأ اليوم، مشروع الميثاق طويل لسبب؛ وهو أنى أردت أن أضع فيه حصيلة التجربة الوطنية، من الماضى اللى عشناه إلى المستقبل الذى نريده.
الميثاق عشرة أبواب:
الباب الأول: نظرة عامة
الثانى: فى ضرورة الثورة
الثالث: جذور النضال المصرى
الرابع: درس النكسة
الخامس: عن الديمقراطية السليمة
السادس: فى حتمية الحل الاشتراكى
السابع: الإنتاج والمجتمع
الثامن: مع التطبيق الاشتراكى ومشاكله
التاسع: الوحدة العربية
العاشر: السياسة الخارجية
وقد يقتضى الأمر استراحة بعد الباب الخامس؛ ثم نستأنف بعد هذا تكملة الميثاق.
والآن مشروع الميثاق :

البــاب الأول  

نظـرة عـامـة

إن يوم الثالث والعشرين من يوليو ١٩٥٢ كان بداية مرحلة جديدة، ومجيدة فى تاريخ النضال المتواصل للشعب العربى فى مصر.
إن هذا الشعب فى ذلك اليوم المجيد بدأ تجربة ثورية رائدة فى جميع المجالات؛ وسط ظروف متناهية فى صعوبتها، وظلامها، وأخطارها، وتمكن هذا الشعب بصدقه الثورى، وبإرادة الثورة العنيدة فيه؛ أن يغير حياته تغييراً أساسياً وعميقاً باتجاه آماله الإنسانية الواسعة.
إن إخلاص الشعب المصرى لقضية الثورة، ووضوح الرؤية أمامه، واستمراره الدائب فى مصارعة جميع أنواع التحديات، قد مكنه - دون أدنى شك - من تحقيق نموذج رائع للثورة الوطنية وهى الاستمرار المعاصر لنضال الإنسان الحر عبر التاريخ؛ من أجل حياة أفضل، طليقة من قيود الاستغلال والتخلف فى جميع صورها المادية والمعنوية.
إن الشعب المصرى فى يوم بدء ثورته المجيدة فى٢٣ يوليو سنة ١٩٥٢ أدار ظهره نهائياً لكل الاعتبارات البالية التى كانت تبدد قواه الإيجابية، وداس بأقدامه على كل الرواسب المتخلفة من بقايا قرون الاستبداد والظلم، وأسقط إلى غير ما رجعة جميع السلبيات التى كانت تحد من إرادته فى إعادة تشكيل حياته من جديد.
إن طاقة التغيير الثورى التى فجرها الشعب المصرى يوم ٢٣ يوليو تتجلى بكل القوى العظيمة الكامنة فيها؛ إذا ما عادت إلى الذاكرة كل جحافل الشر والظلام؛ التى كانت تتربص بكل عود أخضر للأمل ينبت على وادى النيل العظيم. لقد كان الغزاة الأجانب يحتلون على أرضه، وبالقرب منها القواعد المدججة بالسلاح؛ ترهب الوطن المصرى وتحطم مقاومته، وكانت الأسرة المالكة الدخيلة تحكم بالمصلحة والهوى، وتفرض المذلة والخنوع.
وكان الإقطاع يملك حقوله، ويحتكر لنفسه خيراتها، ولا يترك لملايين الفلاحين العاملين عليها غير الهشيم الجاف المتخلف بعد الحصاد.
وكان رأس المال يمارس ألواناً من الاستغلال للثروة المصرية؛ بعدما استطاع السيطرة على الحكم وترويضه لخدمته، ولقد ضاعف من خطورة المواجهة الثورية لهذه القوى المتحالفة مع بعضها وضد الشعب؛ أن القيادات السياسية المنظمة لنضال الجماهير قد استسلمت واحدة بعد واحدة، واجتذبتها الامتيازات الطبقية، وامتصت منها كل قدرة على الصمود، بل واستعملتها بعد ذلك فى خداع جماهير الشعب؛ تحت وهم الديمقراطية المزيفة، وحدث نفس الشىء مع الجيش الذى حاولت القوى المسيطرة المعادية لمصالح الشعب أن تضعفه من ناحية، وأن تصرفه - من ناحية أخرى - عن تأييد النضال الوطنى، بل وكادت أن تصل إلى استخدامه فى تهديد هذا النضال وقمعه.
وفى مواجهة هذه الاحتمالات صباح يوم الثالث والعشرين من يوليو سنة ١٩٥٢ رفع الشعب المصرى رأسه بالإيمان والعزة، ومضى فى طريق الثورة مصمماً على مجابهة الصعاب والأخطار والظلام، عاقداً العزم فى غير تردد على إحراز النصر؛ توكيداً لحقه فى الحياة مهما كانت الأعباء والتضحيات.
إن قوة الإرادة الثورية لدى الشعب المصرى تظهر فى أبعادها الحقيقية الهائلة، إذا ما ذكرنا أن هذا الشعب البطل بدأ زحفه الثورى من غير تنظيم سياسى يواجه مشاكل المعركة؛ كذلك فإن هذا الزحف الثورى بدأ من غير نظرية كاملة للتغيير الثورى.
إن إرادة الثورة فى تلك الظروف الحافلة لم تكن تملك من دليل العمل غير المبادئ الستة المشهورة؛ التى نحتتها إرادة الثورة من مطالب النضال الشعبى واحتياجاته، ولقد كان مجرد إعلانها فى حد ذاته فى جو المصاعب والخطر والظلام؛ دليلاً على صلابة إرادة التغيير الثورى، وعنادها الذى لا يلين فى مواجهة جيوش الاحتلال البريطانى الرابضة فى منطقة قناة السويس، كان المبدأ الأول هو القضاء على الاستعمار وأعوانه من الخونة المصريين؛ فى مواجهة تحكم الإقطاع الذى كان يستبد بالأرض ومن عليها.
كان المبدأ الثانى هو القضاء على الإقطاع؛ فى مواجهة تسخير موارد الثروة لخدمة مصالح مجموعة من الرأسماليين.
كان المبدأ الثالث هو القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم؛ فى مواجهة الاستغلال والاستبداد الذى كان نتيجة محتمة لهذا كله. كان المبدأ الرابع هو إقامة عدالة اجتماعية؛ فى مواجهة المؤامرات لإضعاف الجيش، واستخدام ما تبقى من قوته لتهديد الجبهة الداخلية المتحفزة للثورة.
كان الهدف الخامس هو إقامة جيش وطنى قوى؛ وفى مواجهة التزييف السياسى الذى حاول أن يطمس معالم الحقيقة الوطنية؛ كان الهدف السادس هو إقامة حياة ديمقراطية سليمة.
إن هذه المبادئ الستة التى أسلمها النضال الشعبى المتواصل إلى الطلائع الثورية؛ التى جندها لخدمته من داخل الجيش، والطلائع الثورية التى تجاوبت معها تلقائياً، وطبيعياً من خارجه؛ لم تكن نظرية عمل ثورى كاملة، ولكنها كانت - فى تلك الظروف - دليلاً للعمل، يمثل عمق هذه الإرادة الثورية، ويلبى احتياجاتها، ويبرز تصميمها على بلوغ الشوط إلى مداه.. إن الشعب العظيم الذى كتب المبادئ الستة بدم شهدائه، وبنور الأمل الذى أعطوا حياتهم من أجله، والذى دفع بالطلائع الثورية من أبنائه داخل الجيش وخارجه إلى التصدى لمسئولية العمل الثورى؛ على هدى من هذه المبادئ الستة التى تسلمتها أمانة من كفاح الأجيال.. هذا الشعب العظيم مضى بعد ذلك فى تعميق نضاله، وفى توسيع مضمونه.. لقد كان هذا الشعب العظيم هو المعلم الأكبر الذى تحمل على عاتقه - فى أعقاب بدء العمل الثورى فى ٢٣ يوليو سنة ١٩٥٢ - عمليتين تاريخيتين لهما آثارهما الضخمة.إن هذا الشعب المعلم راح أولاً يطور المبادئ الستة، ويحركها بالتجربة والممارسة، وبالتفاعل الحى مع التاريخ القومى؛ تأثراً به وتأثيراً فيه، نحو برنامج تفصيلى يفتح طريق الثورة إلى أهدافها اللامتناهية، ثم إن هذا الشعب المعلم راح ثانياً يلقن طلائعه الثورية أسرار آماله الكبرى، ويربطها دائماً بهذه الآمال، ويوسع دائرتها بأن يمنحها مع كل يوم عناصر جديدة قادرة على المشاركة فى صنع مستقبله.
إن هذا الشعب العظيم لم يكتف بأن يقوم بدور المعلم لطلائعه الثورية؛ وإنما هو فوق ذلك أقام من وعيه حفاظاً عليها، يحميها من شرور الغير، ومن شرور النفس كذلك.
إن الشعب لم يكتف بأن يهزم كل محاولة من أعدائه للنيل من طلائعه الثورية، وإنما قاوم كل الانحرافات التى قد تأتى من النسيان أو الغرور، وظل دائماً يرشد طلائعه الثورية إلى طريق واجبها. إن إرادة الثورة لدى الشعب العربى المصرى، والصدق الذى سلحت نفسها به، حققت مقاييس جديدة للعمل الوطنى، لقد أكدت هذه الإرادة وصدقها أنه لا يمكن أن تقوم عوائق أو قيود على إمكانية التغيير؛ إلا احتياجات الجماهير ومطالبها العادلة. إن المنطق التقليدى فى مثل الظروف التى واجهها نضال الشعب المصرى كان يغرى بطريق المساومات والحلول الوسط، والتفكير الإصلاحى الصادر عن العطاء، والتبرع. لقد كان ذلك بالمنطق التقليدى هو الممكن الوحيد فى مواجهة السيطرة الخارجية المعتدية، والسيطرة الداخلية المستغلة، وفى غيبة تنظيم سياسى مستعد، وبدون نظرية كاملة للعمل؛ لكن إرادة الثورة فى الشعب المصرى وصدقها تحدت هذا المنطق التقليدى، وجابهته بتفجير طاقات مليئة بإمكانيات العمل المبدع الرائد.
إن يوم ٢٣ يوليو سنة ١٩٥٢ كان موعد هذا التفجير الثورى، وفيه استطاع الشعب المصرى أن يعيد اكتشاف نفسه، وأن يفتح بصره على إمكانيات هائلة كامنة فيه. إن هذه الإمكانيات الهائلة حققت تجربة جديدة فى تاريخ الثورات، وإن السنوات التى مضت حتى الآن منذ يوم ٢٣ يوليو سنة ٥٢ سوف تثبت أنها ذخيرة قيمة بالنسبة لنضال شعوب كثيرة. إن هذه التجربة أثبتت أن الشعوب المغلوبة على أمرها قادرة على الثورة، وأكثر من ذلك أنها قادرة على الثورة الشاملة.
إن الشعب المصرى خاض خلال هذه التجربة غمار ثورات كثيرة، تشابكت معاركها وتداخلت مراحلها؛ ثم استطاع فى حقبة قصيرة من الزمان أن يقهر جميع أعداء ثوراته المتعددة، وأن يخرج بقوة اندفاع متزايدة إلى مرحلة الانطلاق نحو التقدم. إن الشعب المصرى فى نضاله ضد الاستعمار استطاع أن يشل فاعليات طبقات من المجتمع القديم؛ كانت قادرة على خداعه بالتظاهر باشتراكها معه فى ضرب الاستعمار، بينما هى فى الواقع متصلة فى مصالحها به.
إن حرب التحرير التى كان يمكن بالمفهوم التقليدى أن تحتاج إلى وحدة جميع الطبقات فى الوطن؛ حققت انتصارها فى الواقع حين حمت نفسها من أى ضربة خائنة فى الظهر.
إن الشعب المصرى خاض معركة التحرير ضد الاستعمار، ولم تخدعه المظاهر، وحرص طول المعركة على أن يعزل عن صفوفه كل الذين ترتبط مع الاستعمار مصالحهم فى مواصلة الاستغلال، وفى نفس الوقت فإن الشعب المصرى وهو يجابه الثورة من أجل التطوير، ويحاول تجميع المدخرات وتشجيعها، وتحريكها فى اتجاه التنمية؛ لم يغب عن باله أن الرأسمالية المحلية الكبيرة، استطاعت فى ظروف ثورات وطنية عديدة أن تحول نتائج الثورة إلى أرباح لها؛ لأنها بامتلاكها للمدخرات القادرة على العمل فى التنمية تستطيع أن تحتل لنفسها مواقع الاحتكار التى تحصل منها على كل فوائد هذه التنمية.
إن الشعب المصرى فى ثوريته الأصيلة ضرب جميع الاحتكارات المحلية، فى نفس الوقت التى تتصور أن حاجته إليها بسبب ضرورات التطوير ماسة وشديدة. إن هذه الثورية الأصيلة هى التى مكنت الشعب المصرى وهو يتجه بكل جهوده إلى الإنتاج أن يتأكد أولاً من سيطرته الكاملة على كل أدوات الإنتاج، وفى نفس الوقت أيضاً فإن الشعب المصرى إبان نضاله ضد الاستعمار.. كذلك إبان نضاله ضد محاولات الرأسمالية أن تستغل الاستقلال الوطنى لخدمة مصالحها؛ تحت ضغط احتياجات التنمية.. فى نفس هذا الوقت فإن الشعب المصرى رفض ديكتاتورية أى طبقة من الطبقات، وصمم على أن يكون تذويب الفوارق بين الطبقات هو طريقه إلى الديمقراطية الكاملة لجميع قوى الشعب العاملة، وفى نفس الوقت أيضاً فإن الشعب المصرى تحت ظروف هذه المعارك الثورية المتشابكة المتداخلة كان مصراً على أن يستخلص للمجتمع الجديد الذى يتطلع إليه علاقات اجتماعية جديدة؛ تقوم عليها قيم أخلاقية جديدة، وتعبر عنها ثقافة وطنية جديدة.
لقد عبر الشعب المصرى مراحل التطور بحيوية وشباب؛ مجتازاً المسافة الشاسعة من رواسب مجتمع إقطاعى بدأ فيه عصر الرأسمالية إلى المرحلة التى بدأ فيها التحول الاشتراكى بدون إراقة دماء.
إن هذه الصور من الثورة الشاملة تكاد فى الواقع أن تكون سلسلة من الثورات، وفى المنطق التقليدى حتى لحركات ذات طابع ثورى سبقت فى التاريخ؛ فإن هذه الثورات كان لابد لها أن تتم فى مراحل مستقلة، يستجمع الجهد الوطنى قواه بعد كل واحدة منها؛ ليواجه المرحلة التالية.. لكن العمل العظيم الذى تمكن الشعب المصرى من إنجازه بالثورة الشاملة، ذات الاتجاهات المتعددة؛ يصنع حتى بمقاييس الثورات العالمية تجربة ثورية جديدة.
إن هذا العمل العظيم تحقق بفضل عدة ضمانات تمكن النضال الشعبى من توفيرها:
أولاً: إرادة تغيير ثورى ترفض أى قيد أو حد إلا حقوق الجماهير ومطالبها.
ثانياً: طليعة ثورية مكنتها إرادة التغيير الثورى من سلطة الدولة؛ لتحويلها من خدمة المصالح القائمة إلى خدمة المصالح صاحبة الحق الطبيعى والشرعى؛ وهى مصالح الجماهير.
ثالثاً: وعى عميق بالتاريخ، وأثره على الإنسان المعاصر من ناحية، ومن ناحية أخرى لقدرة هذا الإنسان بدوره على التأثير فى التاريخ.
رابعاً: فكر مفتوح لكل التجارب الإنسانية؛ يأخذ منها ويعطيها، لا يصدها عنه بالتعصب، ولا يصد نفسه عنها بالعقد.
خامساً: إيمان لا يتزعزع بالله وبرسله، ورسالاته القدسية التى بعثها بالحق والهدى إلى الإنسان فى كل زمان ومكان. وإن أعظم تقدير لنضال الشعب العربى فى مصر، ولتجربته الرائدة؛ هو الدور الذى استطاع أن يؤثر به فى حياة أمته العربية، وخارج حدود وطنه الصغير إلى آفاق وطنه الأكبر، إن تجربة الشعب المصرى أحدثت أصداءاً بعيدة المدى فى نضال أمته العربية. إن ثورة الشعب المصرى حركت احتمالات الثورة فى الأرض العربية كلها، وليس من شك أن هذه الحركة كانت أحد الدوافع القوية التى مكنت من النجاح الثورى فى مصر. إن الأصداء القوية التى أحدثتها ثورة الشعب المصرى فى الأفق العربى كله.. عادت إليه مرة أخرى على شكل قوة محركة تدفع نشاطه، وتمنحه شباباً متجدداً. إن ذلك التفاعل المتبادل يؤكد فى حد ذاته وحدة شعوب الأمة العربية؛ وإذا كانت التجربة الثورية الشاملة قد ألقيت مسئوليتها الأولى على الشعب العربى فى مصر؛ فإن تجاوب بقية شعوب الأمة العربية مع التجربة كان من الأسباب القوية التى مكنت الشعب المصرى أن ينتصر، وليس من شك أن الشعب المصرى مطالب اليوم بأن يجعل انتصاره فى خدمة قضية الثورة الشاملة فى بقية شعوب أمته العربية.
إن أصداء النصر الذى حققه الشعب العربى فى مصر لم تقتصر على آفاق المنطقة العربية؛ وإنما كانت للتجربة الجديدة الرائدة آثارها البعيدة على حركة التحرير فى إفريقيا، وفى آسيا، وفى أمريكا اللاتينية.
إن معركة السويس التى كانت إحدى الذرى البارزة فى التجربة الثورية المصرية لم تكن لحظة اكتشف فيها الشعب المصرى نفسه، أو اكتشفت فيها الأمة العربية إمكانياتها فقط، وإنما كانت هذه اللحظة عالمية الأثر، رأت فيها كل الشعوب المغلوبة على أمرها أن فى نفسها طاقات كامنة لا حدود لها، وأنها تقدر على الثورة، بل إن الثورة هى طريقها الوحيد.

البــاب الثـانى

فى ضرورة الثورة

لقد أثبتت التجربة، وهى مازالت تؤكد كل يوم، أن الثورة هى الطريق الوحيد الذى يستطيع النضال العربى أن يعبر عليه من الماضى إلى المستقبل، فالثورة هى الوسيلة الوحيدة التى تستطيع بها الأمة العربية أن تخلص نفسها من الأغلال التى كبلتها، ومن الرواسب التى أثقلت كاهلها؛ فإن عوامل القهر والاستغلال التى تحكمت فيها طويلاً، ونهبت ثرواتها، لن تستسلم بالرضا، وإنما لابد على القوى الوطنية أن تصرعها، وأن تحقق عليها انتصاراً حاسماً ونهائياً، والثورة هى الوسيلة الوحيدة لمغالبة التخلف الذى أرغمت عليه الأمة العربية؛ كنتيجة طبيعية للقهر والاستغلال؛ فإن وسائل العمل التقليدية لم تعد قادرة على أن تطوى مسافة التخلف الذى طال مداه بين الأمة العربية وبين غيرها من الأمم السابقة فى التقدم، ولابد والأمر كذلك من مواجهة جذرية للأمور؛ تكفل تعبئة جميع الطاقات المعنوية والمادية للأمة لتحمل هذه المسئولية.
والثورة بعد ذلك هى الوسيلة الوحيدة لمقابلة التحدى الكبير الذى ينتظر الأمة العربية، وغيرها من الأمم التى لم تستكمل نموها، ذلك التحدى الذى تسببه الاكتشافات العلمية الهائلة، التى تساعد على مضاعفة الفوارق ما بين التقدم والتخلف؛ فإنها بما توصلت إليه من المعارف تيسر للمتقدمين أن يكونوا أكثر تقدماً، وتفرض على الذين تخلفوا أن يكونوا بالنسبة إليهم أكثر تخلفاً؛ برغم كل ما قد يبذلونه من جهود طيبة لتعويض ما فاتهم.
إن الطريق الثورى هو الجسر الوحيد الذى تتمكن به الأمة العربية من الانتقال بين ما كانت فيه وبين ما تتطلع إليه.
والثورة العربية أداة النضال العربى الآن، وصورته المعاصرة تحتاج إلى أن تسلح نفسها بقدرات ثلاث تستطيع بواسطتها أن تصمد لمعركة المصير التى تخوض غمارها اليوم، وأن تنتزع النصر محققة أهدافها من جانب، ومحطمة جميع الأعداء الذين يعترضون طريقها من جانب آخر، وهذه القدرات الثلاث هى:
أولاً: الوعى القائم على الاقتناع العلمى؛ النابع من الفكر المستنير، والناتج من المناقشة الحرة التى تتمرد على سياط التعصب أو الإرهاب.
ثانياً: الحركة السريعة الطليقة التى تستجيب للظروف المتغيرة التى يجابهها النضال العربى؛ على أن تلتزم هذه الحركة بأهداف النضال وبمثله الأخلاقية.
ثالثاً: الوضوح فى رؤية الأهداف، ومتابعتها باستمرار، وتجنب الانسياق الانفعالى إلى الدروب الفرعية التى تبتعد بالنضال الوطنى عن طريقه، وتهدر جزءاً كبيراً من طاقته.
وإن الحاجة إلى هذه الأسلحة الثلاثة تستمد قيمها الحيوية من الظروف التى تعيشها التجربة الثورية العربية، وتباشر تحت تأثيراتها دورها فى توجيه التاريخ العربى.
إن الثورة العربية مطالبة اليوم بأن تشق طريقاً جديداً أمام أهداف النضال العربى. إن عهوداً طويلة من العذاب والأمل بلورت - فى نهاية المطاف - أهداف النضال العربى ظاهرة واضحة، صادقة فى تعبيرها عن الضمير الوطنى للأمة؛ وهى الحرية والاشتراكية والوحدة، بل إن طول المعاناة من أجل هذه الأهداف كاد أن يفصل مضمونها ويرسم حدودها.
لقد أصبحت الحرية الآن حرية الوطن وحرية المواطن، وأصبحت الاشتراكية وسيلة وغاية.. هى الكفاية، والعدل، وأصبح طريق الوحدة هو الدعوة الجماهيرية لعودة الأمر الطبيعى لأمة واحدة مزقها أعداؤها ضد إرادتها وضد مصالحها، والعمل السلمى من أجل تقريب يوم هذه الوحدة، ثم الإجماع على قبولها تتويجاً للدعوة والعمل معاً.
لقد كانت هذه الأهداف نداءات مستمرة للنضال العربى، ولكن الثورة العربية الآن تواجه مسئولية شق طريق جديداً أمام هذه الأهداف، والحاجة إلى طريق جديد لا تصدر عن رغبة فى التجديد لذاته، ولا تصدر بدافع الكرامة الوطنية، وإنما لأن الثورة العربية تواجه ظروفاً جديدة، ولابد لها فى مواجهة هذه الظروف الجديدة أن تجد الحلول الملائمة لها؛ ومن ثم فإن التجربة الثورية العربية لا تستطيع أن تنقل ما توصل إليه غيرها، ومع أن خصائص الشعوب، ومقومات الشخصية الوطنية؛ تفرض خلافاً فى منهاج كل منها لحل مشاكله، إلا أن الخلاف الأكبر هو ما تفرضه الظروف المتغيرة التى تسود العالم كله وتحكمه؛ خصوصاً هذه التغييرات البعيدة المدى التى طرأت على العالم بعد الحرب العالمية الثانية من سنة ١٩٣٩ إلى ١٩٤٥، إن هذه الظروف تأتى بتغييرات شاملة وعميقة على الجو الذى يجرى فيه النضال الوطنى لكل الأمم، وليس معنى ذلك أن النضال الوطنى للشعوب، وللأمم مطالب اليوم بأن يخترع مفاهيم جديدة لأهدافه الكبرى؛ ولكن معناه أنه مطالب اليوم بأن يجد الأساليب المسايرة لاتجاه التطور العام، والمتفقة مع طبيعة العالم المتغير.
إن أبرز التغييرات التى طرأت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يمكن تلخيصها فيما يلى:
أولاً: تعاظم قوة الحركات الوطنية فى آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية؛ حتى استطاعت هذه الحركات أن تخوض معارك عديدة ومنتصرة ضد القوى الاستعمارية، ومن ثم أصبح لهذه الحركات الوطنية تأثير عالمى فعال.
ثانياً: ظهور المعسكر الشيوعى كقوة كبيرة يتزايد وزنها المادى والمعنوى يوماً بعد يوم فى مواجهة المعسكر الرأسمالى.
ثالثاً: التقدم العلمى الهائل الذى حقق طفرة فى وسائل الإنتاج؛ فتحت آفاقاً غير محدودة أمام محاولات التطوير، كما أنه حقق طفرة فى أسلحة الحرب؛ بلغت خطورتها إلى حد أنها أصبحت رادعاً يحول دون نشوبها؛ بسبب ما تقدر على إلحاقه من الأهوال بجميع الأطراف فى أى معركة، هذا فضلاً عن التغيير الأساسى المذهل الذى حققه هذا التقدم العلمى فى وسائل المواصلات؛ لدرجة أن تلاشت المسافات وسقطت الحواجز، التى كانت تفصل ما بين الأمم فعلياً وفكرياً.
رابعاً: نتائج هذا كله فى محيط العلاقات الدولية، وأهمها زيادة تأثير القوى المعنوية فى العالم؛ كالأمم المتحدة والدول غير المنحازة، وقوة الرأى العام العالمى، وفى نفس الوقت اضطرار الاستعمار تحت هذه الظروف إلى الاتجاه نحو وسائل العمل غير المباشر؛ عن طريق غزو الشعوب، والسيطرة عليها من الداخل، وعن طريق التكتلات الاقتصادية الاحتكارية، وعن طريق الحرب الباردة التى تدخل فى نطاقها محاولة تشكيك الأمم الصغيرة فى قدرتها على تطوير نفسها، وعلى الإسهام الإيجابى المتكافئ فى خدمة المجتمع الإنسانى.
إن هذه التغييرات الضخمة فى العالم تأتى معها بظروف جديدة تؤثر تأثيراً لا جدال فيه على العمل من أجل أهداف النضال الوطنى لكل الأمم؛ بما فى ذلك أهداف الأمة العربية، وإذا كانت أهداف النضال العربى هى الحرية والاشتراكية والوحدة؛ فإن التغييرات العالمية حملت تأثيرها إلى وسائل العمل من أجلها، بتفاعل هذه التغييرات العالمية مع إرادة الثورة الوطنية.. لم يعد أسلوب المصالحة مع الاستعمار ومساومته هو طريق الحرية؛ فإن الشعب العربى فى مصر تمكن من أن يحمل السلاح بنجاح فى بورسعيد؛ دفاعاً عن الحرية، واستطاع أن يحقق سنة ١٩٥٦ انتصاراً حاسماً مازالت تتردد أصداؤه.
كما تمكن الشعب العربى فى الجزائر من مواصلة الحرب المسلحة أكثر من سبع سنوات؛ إصراراً على الحرية؛ كذلك فإن العمل الاشتراكى لم يعد حتماً عليه أن يلتزم التزاماً حرفياً بقوانين جرت صياغتها فى القرن التاسع عشر.
إن تقدم وسائل الإنتاج، ونمو الحركات الوطنية والعمالية فى مواجهة سيطرة الاستعمار، والاحتكارات، وازدياد فرص السلام فى العالم بتأثير القوى المعنوية، وبتأثير ميزان الرعب الذرى فى نفس الوقت؛ يخلق ظروفاً جديدة أمام التجارب الاشتراكية تختلف تماماً عن الظروف السابقة، بل إنها تستوجب هذا الاختلاف وتحتمه كضرورة؛ والأمر كذلك فى تجربة الوحدة، فإن النماذج السابقة لها فى القرن التاسع عشر، وأبرزها تجربة الوحدة الألمانية، وتجربة الوحدة الإيطالية، لم تعد تقبل التكرار.
وإن اشتراط الدعوة السلمية واشتراط الإجماع الشعبى ليسا مجرد تمسك بأسلوب مثالى فى العمل الوطنى، وإنما هو فوق كل ذلك ومعه ضرورة لازمة للحفاظ على الوحدة الوطنية للشعوب العربية فى ظروف العمل من أجل الوحدة القومية للأمة العربية كلها، وضد أعدائها الذين مازالت قواعدهم على الأرض العربية ذاتها؛ سواء أكانت هذه القواعد فى قصور الرجعية المتعاونة مع الاستعمار لضمان مصالحها، أو كانت فى مستعمرات الحركة العنصرية الصهيونية التى يستخدمها الاستعمار مراكز للتهديد العسكرى.
والثورة العربية وهى تواجه هذا العالم لابد لها أن تواجهه بفكر جديد لا يحبس نفسه فى نظريات مغلقة؛ يقيد بها طاقته، وإن كان فى نفس الوقت لا ينعزل عن التجارب الغنية التى حصلت عليها الشعوب المناضلة بكفاحها. إن التجارب الاجتماعية لا تعيش فى عزلة عن بعضها، وإنما التجارب الاجتماعية كجزء من الحضارة الإنسانية تعيش بالانتقال الخصب وبالتفاعل الخلاق. إن مشعل الحضارة انتقل من بلد إلى بلد، لكنه فى كل بلد جديد كان يحصل على زيت جديد يقوى به ضوءه على امتداد الزمان، وكذلك التجارب الاجتماعية.. إنها قابلة للانتقال، لكنها ليست قابلة لمجرد النقل، قابلة للدراسة المفيدة، لكنها ليست قابلة لمجرد الحفظ عن طريق التكرار، وهذه أولى مسئوليات القيادات الشعبية الثورية للأمة العربية، ومعنى ذلك أن هذا العمل الثورى الطليعى لابد أن تتحمل القسط الأكبر منه القيادات الشعبية الثورية فى الجمهورية العربية المتحدة؛ التى فرضت عليها الظروف الطبيعية والتاريخية مسئولية أن تكون الدولة النواة فى طلب الحرية والاشتراكية والوحدة للأمة العربية.
إن هذه القيادات الشعبية مطالبة الآن أن تتأمل تاريخها، وأن تنظر إلى واقع عالمها، ثم تقدم على صنع مستقبلها واقفة فى ثبات على أرضها.

البــاب الثـالـث

جذور النضال المصرى

منذ زمان بعيد فى الماضى لم تكن هناك سدود بين بلاد المنطقة التى تعيش فيها الأمة العربية الآن، وكانت تيارات التاريخ التى تهب عليها واحدة؛ كما كانت مساهمتها الإيجابية فى التأثير على هذا التاريخ مشتركة، ومصر بالذات لم تعش حياتها فى عزلة عن المنطقة المحيطة بها، بل كانت دائماً بالوعى - وباللاوعى فى بعض الأحيان - تؤثر فيما حولها، وتتأثر به كما يتفاعل الجزء مع الكل، وتلك حقيقة ثابتة تظهرها دراسة التاريخ الفرعونى صانع الحضارة المصرية والإنسانية الأولى، كما تؤكدها بعد ذلك وقائع عصور السيطرة الرومانية والإغريقية.
وكان الفتح الإسلامى ضوءاً أبرز هذه الحقيقة، وأنار معالمها، وصنع لها ثوباً جديداً من الفكر والوجدان الروحى، وفى إطار التاريخ الإسلامى، وعلى هدى من رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - قام الشعب المصرى بأعظم الأدوار دفاعاً عن الحضارة والإنسانية، وقبل أن ينزل ظلام الغزو العثمانى على المنطقة بأسرها كان شعب مصر قد تحمل ببسالة منقطعة النظير مسئوليات حاسمة لصالح المنطقة كلها؛ كان قد تحمل المسئولية المادية والعسكرية فى صد أول موجات الاستعمار الأوروبى التى جاءت متسترة وراء صليب المسيح؛ وهى أبعد ما تكون عن دعوة هذا المعلم العظيم، وكان قد تحمل المسئولية المادية والعسكرية فى رد غزوات التتار، الذين اجتاحوا سهول الشرق واجتازوا جباله؛ حاملين الخراب معهم والدمار، ثم كان قد تحمل المسئولية الأدبية فى حفظ التراث الحضارى العربى وذخائره الحافلة، وجعل من أزهره الشريف حصناً للمقاومة ضد عوامل الضعف والتفتت؛ التى فرضتها الخلافة العثمانية استعماراً ورجعية باسم الدين، والدين منها براء.
ولم تكن الحملة الفرنسية على مصر - مع مطلع القرن التاسع عشر - هى التى صنعت اليقظة المصرية فى ذلك الوقت، كما يقول بعض المؤرخين؛ فإن الحملة الفرنسية حينما جاءت إلى مصر وجدت الأزهر يموج بتيارات جديدة تتعدى جدرانه إلى الحياة فى مصر كلها؛ كما وجدت أن الشعب المصرى يرفض الاستعمار العثمانى المقنع باسم الخلافة، والذى كان يفرض عليه - دونما مبرر حقيقى - تصادماً بين الإيمان الدينى الأصيل فى هذا الشعب، وبين إرادة الحياة التى ترفض الاستبداد.. ولقد وجدت هذه الحملة مقاومة عنيفة لسيطرة المماليك، وتمرداً مستمراً على محاولاتهم لفرض الظلم على الشعب المصرى، وبرغم أن هذه المقاومة العنيفة والتمرد المستمر قد كلفا شعب مصر غالياً فى ثروته الوطنية وفى حيويته؛ فإن الشعب المصرى كان صامداً ثابت الإيمان. على أن الحملة الفرنسية جاءت معها بزاد جديد لطاقة الشعب الثورية فى مصر ذلك الوقت؛ جاءت ومعها لمحات من العلوم الحديثة التى طورتها الحضارة الأوروبية، بعد أن أخذتها من غيرها من الحضارات؛ والحضارة الفرعونية والعربية فى مقدمتها؛ كذلك جاءت معها بالأساتذة الكبار الذين قاموا بدراسة أحوال مصر والكشف عن أسرار تاريخها القديم، وكان هذا الزاد يحمل فى طياته ثقة بالنفس، كما كان يحمل آفاقاً جديدة تشد خيال الحركة المتحفزة للشعب المصرى. ولقد كانت هذه اليقظة الشعبية هى القوة الدافعة وراء عهد محمد على، وإذا كان هناك شبه إجماع على أن محمد على هو مؤسس الدولة الحديثة فى مصر؛ فإن المأساة فى هذا العهد هى أن محمد على لم يؤمن بالحركة الشعبية التى مهدت له حكم مصر، إلا بوصفها نقطة وثوب إلى مطامعه، ولقد ساق مصر وراءه إلى مغامرات عقيمة استهدفت مصالح الفرد؛ متجاهلة مصالح الشعب.
إن اليابان الحديثة بدأت تقدمها فى نفس هذا الوقت الذى بدأت فيه حركة اليقظة المصرية، وبينما استطاع التقدم اليابانى أن يمضى ثابت الخطى؛ فإن المغامرات الفردية عرقلت حركة اليقظة المصرية، وأصابتها بنكسة ألحقت بها أفدح الأضرار. إن هذه النكسة فتحت الباب للتدخل الأجنبى فى مصر على مصراعيه، بينما كان الشعب قبلها قد رد - بتصميم ونجاح - محاولات غزو متوالية، كانت أقربها فى ذلك الوقت حملة "فريزر" ضد رشيد.
ومن سوء الحظ أن النكسة وقعت فى مرحلة هامة من مراحل تطور الاستعمار؛ فإن الاستعمار كان قد تطور فى ذلك الوقت من مجرد احتلال المستعمرات واستنزاف مواردها إلى مرحلة الاحتكارات المالية لاستثمار رءوس الأموال المنهوبة من المستعمرات، وكانت النكسة فى مصر باباً مفتوحاً لقوى السيطرة العالمية. وبدأت الاحتكارات المالية الدولية دورها الخطير فى مصر، وركزت نشاطها فى اتجاهين واضحين، هما: حفر قناة السويس، وتحويل أرض مصر إلى حقل كبير لزراعة القطن؛ لتعويض الصناعة البريطانية عن أقطان أمريكا التى قل ورودها إلى بريطانيا بسبب انتهاء سيطرتها على أمريكا، ثم انقطع وصولها تماماً بسبب ظروف الحرب الأهلية الأمريكية، ولقد عاشت مصر فى هذه الفترة تجربة مروعة؛ استنزفت فيها كل إمكانيات الثروة الوطنية لصالح القوى الأجنبية، ولمصلحة عدد من المغامرين الأجانب؛ الذين تمكنوا من السيطرة على أمراء أسرة محمد على، وساعدهم على ذلك فداحة النكسة التى أصيبت بها حركة اليقظة المصرية.
على أن روح هذا الشعب لم تستسلم، وإنما استطاعت تحت المحن العصيبة فى هذه الفترة أن تختزن طاقات تحفزت لإطلاقها فى اللحظة المناسبة، وكانت هذه الطاقة هى العلم الذى حصل عليه آلاف من شباب مصر الرواد ممن أرسلوا - أيام الصحوة التى سبقت النكسة من حكم محمد على - إلى أوروبا ليتمكنوا من العلم الحديث؛ فإن هؤلاء استطاعوا بعد عودتهم إلى الوطن أن يجلبوا معهم بذوراً صالحة، ما لبثت التربة الثورية الخصبة لمصر أن احتضنتها؛ لتخرج منها بشائر نبت ثقافى جديد راح ينشر ألواناً رائعة من الأزهار على ضفاف النيل الخالد، وليس صدفة أن هذه الزهور المتفتحة على ضفاف وادى النيل كانت بمثابة الومضات اللامعة التى لفتت أنظار العناصر المتطلعة إلى التقدم فى المنطقة كلها نحو مصر، وجعلت منها فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر منبراً للفكر العربى كله، ومسرحاً لفنونه، وملتقى لكل الثوار العرب من وراء الحدود المصطنعة والموهومة، ولقد أحست الاحتكارات الاستعمارية الطامعة فى المنطقة بالأمل الجديد يستجمع قواه ويتحفز، وكانت بريطانيا بالذات لا تحول أنظارها عن مصر؛ بحكم اهتمامها بالطريق إلى الهند، ومن ثم ألقت بثقلها كله فى المعركة الثورية التى لاحت مقدماتها بين القوى الشعبية وبين أسرة محمد على الدخيلة المغامرة، وكانت ثورة عرابى هى قمة رد الفعل الثورى ضد النكسة، وكان الاحتلال البريطانى العسكرى لمصر سنة ١٨٨٢؛ ضماناً لمصالح الاحتكارات المالية الأجنبية وتأييداً لسلطة الخديوى ضد الشعب، هو التعبير عن إرادة الاستعمار فى استمرار بقاء النكسة، ومواصلة القهر والاستغلال ضد شعب مصر.
إن قوة الاحتلال البريطانى العسكرية، ومؤامرات المصالح الاحتكارية الاستعمارية، والإقطاع الذى أقامته أسرة محمد على باحتكارها للأرض أو اقتسام جزء منها بين أصدقائها أو أصدقاء المستغلين الأجانب.. ذلك كله لم يستطع أن يطفئ شعلة الثورة على الأرض المصرية.
إن وادى النيل لم تنقطع فيه أصوات النداءات الثورية.. فى مواجهة هذا الإرهاب المتحكم؛ الذى تسنده قوى الاحتلال الأجنبى، والمصالح الدولية الاستعمارية.
إن أصداء المدافع التى ضربت الإسكندرية، وأصداء القتال الباسل الذى طعن من الخلف فى التل الكبير؛ لم تكد تخفت حتى انطلقت أصوات جديدة تعبر عن إرادة الحياة التى لا تموت لهذا الشعب الباسل، وعن حركة اليقظة التى لم تقهرها المصائب والمصاعب.
لقد سكت أحمد عرابى لكن صوت مصطفى كامل بدأ يجلجل فى آفاق مصر. ومن عجب أن هذه الفترة التى ظن فيها الاستعمار والمتعاونون معه أنها فترة الخمود كانت من أخصب الفترات فى تاريخ مصر؛ بحثاً فى أعماق النفس، وتجميعاً لطاقات الانطلاق من جديد.
لقد ارتفع صوت محمد عبده فى هذه الفترة ينادى بالإصلاح الدينى.
وارتفع صوت لطفى السيد ينادى بأن تكون مصر للمصريين.
وارتفع صوت قاسم أمين ينادى بتحرير المرأة.
وكانت تلك كلها مقدمة موجة ثورية جديدة؛ ما لبثت أن تفجرت سنة ١٩١٩ بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وبعد خيبة الأمل فى الوعود البراقة التى قطعها الحلفاء على أنفسهم خلال الحرب، وفى مقدمتها وعود "ويلسون" الذى ما لبث هو نفسه أن تنكر لها واعترف بالحماية البريطانية على مصر. وركب سعد زغلول قمة الموجة الثورية الجديدة؛ يقود النضال الشعبى العنيد الذى وجهت إليه الضربات المتلاحقة أكثر من مائة عام متواصلة، دون أن يستسلم أو ينهزم.

إن ثورة الشعب المصرى سنة ١٩١٩ تستحق الدراسة الطويلة؛ فإن الأسباب التى أدت إلى فشلها هى نفس الأسباب التى حركت حوافز الثورة فى سنة ١٩٥٢.إن هناك ثلاثة أسباب واضحة أدت إلى فشل هذه الثورة، ولابد من تقييمها فى هذه المرحلة تقييماً أميناً ومنصفاً.
أولاً: إن القيادات الثورية أغفلت إغفالاً يكاد أن يكون تاماً مطالب التغيير الاجتماعى؛ على أن تبرير ذلك واضح فى طبيعة المرحلة التاريخية التى جعلت من طبقة ملاك الأراضى أساساً للأحزاب السياسية التى تصدت لقيادة الثورة، ومع أن اندفاع الشعب إلى الثورة كان واضحاً فى مفهومه الاجتماعى إلا أن قيادات الثورة لم تتنبه لذلك بوعى؛ حتى لقد ساد تحليل خاطئ فى هذه الظروف ردده بعض المؤرخين؛ مؤداه أن الشعب المصرى ينفرد عن بقية شعوب العالم بأنه لا يثور إلا فى حالة الرخاء. ولقد استدلوا على ذلك بأن الثورة وقعت فى ظروف الرخاء الذى صاحب ارتفاع أسعار القطن فى أعقاب انتهاء الحرب العالمية الأولى، وذلك استدلال سطحى؛ فإن هذا الرخاء كان محصوراً فى طبقة ملاك الأراضى، وطبقة التجار والمصدرين الأجانب، الذين استفادوا من ارتفاع الأسعار؛ وبذلك زاد التناقض بينهم وبين الكادحين من الفلاحين، الذين كانوا يروون حقول القطن بعرقهم ودمائهم؛ دون أن تتغير أحوالهم بارتفاع أسعاره، وكان هذا الحرمان فى القاعدة بتناقضه مع الرخاء فى القمة من أسباب الاحتكاك الذى أشعل شرارة الثورة.
إن المحرومين كانوا هم وقود الثورة وضحاياها، لكن القيادات التى تصدت فى مقدمة الموجه الثورية سنة ١٩١٩، بإغفالها للجوانب الاجتماعية من محركات الانفجار الثورى لم تستطع أن تتبين بوضوح أن الثورة لا تحقق غاياتها بالنسبة للشعب إلا إذا مدت اندفاعها إلى ما بعد المواجهة السياسية الظاهرة من طلب الاستقلال؛ ووصلت إلى أعماق المشكلة الاقتصادية والاجتماعية. ولقد كانت الدعوة إلى تمصير بعض أوجه النشاط المالى هى قصارى الجهد فى ذلك الوقت، فى حين أن الدعوة إلى إعادة توزيع الثروة الوطنية أصلاً وأساساً كانت هى المطلب الحيوى الذى يتحتم البدء فيه من غير تأخير أو إبطاء.
ثانياً: إن القيادات الثورية فى ذلك الوقت لم تستطع أن تمد بصرها عبر سيناء، وعجزت عن تحديد الشخصية المصرية، ولم تستطع أن تستشف - من خلال التاريخ - أنه ليس هناك صدام على الإطلاق بين الوطنية المصرية وبين القومية العربية.
لقد فشلت هذه القيادات فى أن تتعلم من التاريخ، وفشلت أيضاً فى أن تتعلم من عدوها الذى تحاربه، والذى كان يعامل الأمة العربية كلها على اختلاف شعوبها طبقاً لمخطط واحد.
ومن هنا فإن قيادات الثورة لم تنتبه إلى خطورة وعد "بلفور" الذى أنشأ إسرائيل لتكون فاصلاً يمزق امتداد الأرض العربية، وقاعدة لتهديدها؛ وبهذا الفشل فإن النضال العربى فى ساعة من أخطر ساعات الأزمة حرم من الطاقة الثورية المصرية، وتمكنت القوى الاستعمارية من أن تتعامل مع أمة عربية ممزقة الأوصال مفتتة الجهد.
واختصت إدارة الهند البريطانية بالتعامل مع شبه الجزيرة العربية ومع العراق، وانفردت فرنسا بسوريا ولبنان، بل وصل الهوان بالأمة العربية فى ذلك الوقت إلى حد أن جواسيس الاستعمار تصدروا قيادة حركات ثورية عربية، وكانت بأمرهم وبمشورتهم تقام العروش للذين خانوا النضال العربى، وانحرفوا عن أهدافه.
كل هذا والحركة الثورية الوطنية فى مصر تتصور أن هذه الأحداث لا تعنيها، وأنها لا ترتبط مصيرياً بكل هذه التطورات الخطيرة.
ثالثاً: إن القيادات الثورية لم تستطع أن تلائم بين أساليب نضالها وبين الأساليب التى واجه الاستعمار بها ثورات الشعوب فى ذلك الوقت.
إن الاستعمار اكتشف أن القوة العسكرية تزيد ثورات الشعوب اشتعالاً؛ ومن ثم انتقل من السيف إلى الخديعة، وقدم تنازلات شكلية لم تلبث القيادات الثورية أن خلطت بينها وبين الجوهر الحقيقى، وكان منطق الأوضاع الطبقية يزين لها هذا الخلط.
إن الاستعمار فى هذه الفترة أعطى من الاستقلال اسمه وسلب مضمونه، ومنح من الحرية شعارها واغتصب حقيقتها.
وهكذا انتهت الثورة بإعلان استقلال لا مضمون له، وبحريه جريحة تحت حراب الاحتلال، وزادت المضاعفات خطورة بسبب الحكم الذاتى الذى منحه الاستعمار، والذى أوقع الوطن باسم الدستور فى محنة الخلاف على الغنائم دون نصر.
وكانت النتيجة أن أصبح الصراع الحزبى فى مصر ملهاة تشغل الناس، وتحرق الطاقة الثورية فى هباء لا نتيجة له. وكانت معاهدة سنة ١٩٣٦ التى عقدت بين مصر وبريطانيا، والتى اشتركت فى توقيعها جبهة وطنية تضم كل الأحزاب السياسية العاملة فى ذلك الوقت؛ بمثابة صك الاستسلام للخديعة الكبرى الذى وقعت فيها ثورة سنة ١٩١٩، فقد كانت مقدمتها تنص على استقلال مصر؛ بينما صلبها فى كل عبارة من عباراته يسلب هذا الاستقلال كل قيمة له وكل معنى.

البــاب الـرابـع  

درس النكسة

لقد كانت فترة الخطر الحقيقى على نضال الشعب المصرى الطويل؛ هى هذه الفترة الحافلة بالخديعة، ما بين انتكاسة سنة ١٩١٩ إلى حين تنبهت القوى الشعبية للخطر الذى يتهددها من منطق المساومة والاستسلام؛ ومن ثم بدأ التأهب النفسى لثورة يوليو سنة ١٩٥٢.
إن هذه الفترة كانت قادرة؛ لولا صلابة الشعب، ومعدنه الأصيل، أن تحمل البلاد إلى حالة من اليأس، تخنق كل حوافز الرغبة فى التغيير، أو تلحق بها الشلل الذى يمنعها من الحركة.
إن هذه الفترة التى يمكن أن ننظر إليها الآن باعتبارها فترة الأزمة الكبرى كانت حافلة بالواجهات المضللة التى تخفى وراءها الأطلال المتهاوية من بقايا ثورة سنة ١٩١٩.
لقد كانت القيادات الباقية من ذكريات الثورة مازالت واقفة فى المقدمة، ولكن هذه القيادات فقدت كل طاقاتها الثورية، وأسلمت كل الشعارات التى رفعها الشعب سنة ١٩١٩ إلى كبار ملاك الأرض الذين كانوا دعامة التنظيمات الحزبية القائمة، وأشركوا فيها بعض الانتهازيين الذين اجتذبتهم عملية تقسيم الغنائم بعد انتكاسة الثورة، ولقد ظهرت فى هذا الجو فئات طفيلية.. لقد استطاع هذا الانحراف أن يجذب إلى الجو الحزبى الفاسد جماعات من المثقفين كان فى قدرتهم أن يكونوا حراساً على أمانى الثورة الحقيقية، لكن الإغراء كان أقوى من مقاومتهم.
كذلك استطاع هذا الانحراف أن يمهد لفئة من الرأسماليين ورثوا - فى حقيقة الأمر - نفس دور المغامرين الأجانب فى القرن التاسع عشر، بكل سطحيته التى لا تهتم بتطوير الوطن ذاته قدر اهتمامها باستغلال أكبر جزء من ثروته، ونزحها فى أقل وقت ممكن.
ثم انتهى المطاف بهذه الأحزاب جميعاً إلى الحد الذى دفعها للارتماء فى أحضان القصر تارة، وفى أحضان الاستعمار تارة أخرى. وفى الواقع كان القصر والاستعمار بحكم مصالحهما فى صف واحد؛ وإن بدت الخلافات السطحية بينهما فى بعض الظروف، لكن الحقيقة الكبرى أن كليهما كان يقف فى الصف المعادى لمصالح الشعب، والمضاد لاتجاه التقدم.
إن سلطة الشعب كانت خطراً على أوضاعهما الدخيلة، واتجاه التقدم كان محققاً أن يجرفهما معاً إلى نفس المصير، وفى ذلك الوقت أيضاً كانت هناك واجهة ديمقراطية مضللة؛ استعانت بها الفلول المنهزمة من ثورة ١٩١٩ لتخدع بها الشعب عن حقيقة مطالبه.
إن الديمقراطية بالطريقة التى جرت بها ممارستها فى مصر تلك الفترة كانت ملهاة مهينة. إن الشعب لم يعد صاحب السلطة؛ وإنما أصبح الشعب أداة فى يد السلطة، أو بمعنى أصح ضحية لها. ولم تعد أصوات الجماهير هى التى تقرر خط السير الوطنى؛ وإنما أصبحت أصوات الجماهير تساق وفقاً لإرادة السلطات الحاكمة وأصدقائها.ولقد كان ذلك نتيجة طبيعية لإغفال الجانب الاجتماعى من أسباب ثورة الشعب سنة ١٩. إن الذى يحتكر رزق الفلاحين والعمال، ويسيطر عليه؛ يقدر بالتبعية أن يحتكر أصواتهم، وأن يسيطر عليهم، ويملى فوقهم إرادته.
إن حرية رغيف الخبز ضمان لابد منه لحرية تذكرة الانتخابات. إن هذه الأزمة العنيفة فتحت أمام سلطات الأسرة المالكة أبواباً جاهد النضال الشعبى طويلاً لكى يسدها، لكن انتكاسة الثورة شجعت الأسرة المالكة على تجاوز كل الحدود، وفى جو الأزمة لم يعد الدستور، الذى رضيت به القيادات الثورية منحة من الدخيل ومنة؛ إلا مجرد قصاصة ورق بهتت عليها الحقوق الشكلية التى كانت قد ألقيت للشعب لينشغل بها ويتلهى.
ولقد استسلمت القيادات التى تصدت للنضال الشعبى أمام سلطة القصر المتزايدة؛ بسبب ضعفها المتزايد، وركعت جميعاً تلتمس الرضا الذى يصل بها إلى مقاعد الحكم، وتخلت بذلك عن الشعب، وأهدرت كل قيمة له؛ ناسية بذلك أنها تتخلى طواعية عن مصدر قوتها الوحيد، ومنبعها الأصلى، وانتهى الأمر إلى حد أنهم هانوا على الشيطان الذين باعوه أرواحهم، فوصل بهم الهوان إلى حد أن تغيير الوزارات أصبح له ثمن معلوم يدفع للقصر ولوسطائه. إن القيادات الوطنية حين تخلع جذورها من التربة الشعبية تحكم على نفسها بالذبول وبالموت.
ولسوف يبقى الوطن زماناً طويلاً يشعر فى حلقه بمرارة الذل الذى أحسه فى هذه الفترة المتأزمة؛ من جراء استهانة الاستعمار بنضاله استهانة فاقت كل حدود الاحتمال البشرى.
إن الثورة على الاستعمار حق طبيعى لكل الشعوب المستعمرة، لكن الكراهية المرة التى يشعر بها شعبنا تجاه المستعمرين، والتى مازال يشعر بها حتى الآن رغم بعد أسبابها؛ تستمد مبرراتها من هذه الفترة.
إن الاستعمار فى هذه الفترة لم يكتف بإرهاب شعوب الأمة العربية كلها؛ وإنما استهان بنضالها وبحقها فى الحياة.
إن الاستعمار تنكر لكل عهوده التى قطعها على نفسه خلال الحرب العالمية الأولى، وكانت الأمة العربية تتصور أنها قريبة من يوم الاستقلال ويوم الوحدة.
إن الأمل فى الاستقلال تلقى ضربات قاسية؛ فإن البلاد العربية قسمت بين الدول الاستعمارية وفق مطامعها، بل وفق نزواتها، واخترع ساسة الاستعمار كلمات مهينة لتغطية الجريمة التى أقدموا عليها ككلمات الانتداب، والوصاية.
إن قطعة من الأرض العربية فى فلسطين قد أعطيت من غير سند من الطبيعة أو التاريخ لحركة عنصرية عدوانية؛ أرادها المستعمر لتكون سوطاً فى يده؛ يلهب به ظهر النضال العربى إذا استطاع يوماً أن يتخلص من المهانة، وأن يخرج من الأزمة الطاحنة كما أرادها المستعمر فاصلاً يعوق امتداد الأرض العربية، ويحجز المشرق عن المغرب، ثم أرادها عملية امتصاص مستمرة للجهد الذاتى للأمة العربية؛ تشغلها عن حركة البناء الإيجابى.
إن ذلك كله تم بطريقة تحمل طابعاً استفزازياً؛ لا تقيم وزناً لوجود الأمة العربية أو لكرامتها. إن سخرية القدر من الأمة العربية وصلت إلى حد أن جيوشها التى دخلت فلسطين لتحافظ على الحق العربى فيها؛ كانت تحت القيادة العليا لأحد العملاء الذين اشتراهم الاستعمار بالثمن البخس، بل إن العمليات العسكرية تحت هذه القيادة العليا كانت فى يد ضابط إنجليزى؛ يتلقى أوامره من نفس الساسة الذين أعطوا للحركة الصهيونية وعد "بلفور"؛ الذى قامت على أساسه الدولة اليهودية فى فلسطين.
إن سنوات طويلة سوف تمضى قبل أن تنسى الأمة العربية مرارة التجربة التى عاشتها فى هذه الفترة، محصورة بين الإرهاب والإهانة. إن الأمة العربية خرجت من هذه التجربة بإصرار عميق على كراهية الاستعمار وعلى هزيمته.. إنها خرجت بدرس عظيم الفائدة عن حقيقة أن الاستعمار ليس مجرد نهب لموارد الشعوب؛ وإنما هو عدوان على كرامتها وعلى كبريائها.
إن الشعب المصرى بدأ يتأهب لاستئناف دوره التاريخى؛ حتى قبل أن تنتهى الحرب العالمية الثانية، وقبل أن تنزاح الأشباح الكئيبة لدبابات الاحتلال عن مدنه الكبرى.
ولقد عبر الشعب المصرى عن نفسه؛ برفضه العنيد أن يشترك فى الحرب التى لم تكن فى نظره إلا صراعاً على المستعمرات والأسواق، بين العنصرية النازية وبين الاستعمار البريطانى - الفرنسى؛ جرت على البشرية كلها ويلات لا حدود لها من القتل بالجملة والدمار الشامل.
لقد رفض الشعب المصرى كل الشعارات التى رفعها المتحاربون أعلاماً فوق رءوسهم ليخدعوا بها الشعوب، وسحب الشعب المصرى كله البقايا الباقية من تأييده للذين تعاونوا مع سلطة الاحتلال؛ طمعاً فى مكاسب السوق السوداء التى فرضتها الحرب وظلالها القاتمة، وعمت الشباب المصرى موجة من السخط والغضب على كل الذين مدوا أيديهم للاحتلال وقبلوا وجوده. ولقد ترددت فى مصر ذلك الوقت أصداء طلقات الرصاص، وتجاوبت أصداء انفجارات القنابل، وكثرت التنظيمات السرية بمختلف اتجاهاتها وأساليبها، ولم تكن تلك هى الثورة؛ وإنما كان ذلك هو التمهيد لها.. كانت تلك هى مرحلة الغضب التى تمهد لاحتمالات الثورة.
إن الغضب مرحلة سلبية. إن الثورة عمل إيجابى يستهدف إقامة أوضاع جديدة. إن غضب الشعب المصرى الممهد للتغيير بدأ يجاوز النطاق الفردى إلى النطاق الجماعى. إن ثورات الفلاحين ضد استبداد الإقطاع وصلت إلى حد الاشتباك المسلح بين الذين ثاروا على عبودية الأرض وبين سادة الأرض المتحكمين فيها، وفى أقدار الذين ارتبطت حياتهم بها منذ أقدم العصور؛ وإن كانوا منذ أقدم العصور قد حرموا منها. وحريق القاهرة مهما يكن وراءه من تدبير المدبرين كان يمكن إطفاؤه لكن ثورة السخط الشعبى زادته اشتعالاً. إن الفئة المتحكمة فى العاصمة لم تكن تشعر باحتياجات الشعب، وكانت غارقة فى حياتها المترفة؛ لا تشعر بعذاب الجوع أو آلامه.
إن شرار الغضب أشعل من الحرائق فى القاهرة أكثر مما أشعلت يد التدبير الخفية التى بدأت عملية الحريق.
إن الجماهير فى القرية وفى المدينة كانت قد عبرت بما فيه الكفاية عن إرادتها الحقيقية مع مطلع السنة الحاسمة فى تاريخ مصر؛ سنة ١٩٥٢.
إن أعظم ما فى ثورة ٢٣ يوليو سنة ١٩٥٢ أن القوات التى خرجت من الجيش لتنفيذها لم تكن هى صانعة الثورة؛ وإنما كانت أداة شعبية لها.
لقد كانت المهمة الكبرى للطلائع الثورية التى تحركت فى الجيش تلك الليلة الخالدة؛ هى أنها استولت على الأمور فيه، واختارت له المكان الذى لا مكان له غيره، وهو جانب النضال الشعبى. إنها قامت بعملية تصحيح للأوضاع بالغة الأهمية والخطر فى تلك الظروف؛ متحدية بذلك إرادة كل القوى الحاكمة التى أرادت عزل الجيش عن النضال الشعبى.
إن الثورة تفجرت تلك الليلة العظيمة من انضمام الجيش إلى مكانه الطبيعى تحت قيادة الشعب وفى خدمة أمانيه.
إن الجيش فى تلك الليلة أعلن ولاءه للنضال الشعبى، ومن ثم فتح الطريق أمام إرادة التغيير. إن انضمام الجيش إلى النضال الشعبى صنع أثرين هائلين فى نفس الليلة؛ لقد سلب قوى الاستغلال الداخلى أداتها التى كانت تهدد بها ثورة الشعب؛ كذلك فإنه سلح النضال الشعبى فى مواجهة قوى السيطرة الأجنبية المحتلة بدرع من الصلب قادر أن يصد عنه ضربات الخيانة والغدر.
إن الثورة لم تحدث ليلة ٢٣ يوليو؛ ولكن الطريق إليها قد فتح على مصراعيه تلك الليلة العظيمة، ولقد أثبت الوعى الثورى فى مصر قدرته على تحمل المسئولية الكبرى التى ألقتها تطورات الظروف عليه.
إن الوعى الثورى استمد من حسه الوطنى الصافى قدرته على الرؤية الواضحة البعيدة المدى؛ وبذلك أمكن اجتياز العقبات التى كان يمكن أن تعترض طريق التغيير الثورى فى مثل ظروف التجربة التى عاشتها مصر تلك الأيام.
لقد كان يمكن أن يتحول الحدث الكبير الذى جرى ليلة ٢٣ يوليو إلى مجرد تغيير للوزارة القائمة أو لنظام الحكم، وكان يمكن أن يتحول من ناحية أخرى إلى ديكتاتورية عسكرية تضيف إلى التجارب الفاشية تجربة أخرى فاشلة؛ لكن أصالة الوعى الثورى وقوته سيطرت على اتجاهات الأمور، ومنحت جميع العناصر الوطنية إدراكاً لدورها فى توجيه النضال الوطنى.
إن أصالة هذا الوعى وقوته هى التى فرضت أن يكون الحدث الكبير ليلة ٢٣ يوليو خطوة على طريق تغيير جذرى شامل؛ يعيد الأمانى الوطنية إلى مجراها الثورى السليم الذى ضاع منها بسبب انتكاسة ثورة سنة ١٩١٩؛ كما أن أصالة هذا الوعى وقوته هى التى رفضت تماماً كل احتمالات قيام ديكتاتورية عسكرية، ووضعت القوى الشعبية - وفى طليعتها قوى الفلاحين والعمال - موضع القيادة الفعلية.

كذلك ففى هذه الفترة الدقيقة تمرد الوعى الثورى الأصيل على منطق دعاة الإصلاح، واختار طريق الثورة الشاملة. إن احتياجات الوطن لم تكن تكتفى بترميم البناء القديم المتداعى وصلبه بالقوائم تسنده وإعادة طلائه؛ وإنما كانت احتياجات الوطن تتطلب بناءاً جديداً ثابت الأساس، صلباً، شامخاً.ولقد كانت أكبر حجة ضد منطق دعاة الإصلاح أن البناء القديم انهار أنقاضاً وركاماً فى مواجهة التجربة الجديدة. إن سقوط النظام الذى كان سائداً قبل الثورة هذا السقوط الكامل السريع كان يقطع بعدم جدوى محاولات الترميم، لكن سقوط النظام القديم لم يكن هدف التطلع الثورى. إن التطلع الثورى بكل آماله ومثله العليا يهتم بالبناء الجديد أكثر من اهتمامه بالأنقاض التى تداعت.
إن الباب الذى انفتح على مصراعيه ليلة ٢٣ يوليو ظل مفتوحاً لفترة طويلة؛ قبل أن يدخل منه التغيير الحتمى الذى طال انتظاره.
لقد كانت هناك أنقاض النظام القديم وحطامه تسد الطريق، كما كانت هناك رواسب متعفنة من مطامعه البالية المهزومة، وفى نفس الوقت فإن القيادات السياسية التى كانت تتصدر الحياة العامة سقطت كلها تحت أنقاض النظام القديم؛ الذى شاركت فيه جميعها فى انحرافاتها عن الأهداف الأصلية التى كان يجب التزامها فى ثورة سنة ١٩.
لقد كانت جميعها شريكة فى سياسة ساوم واستسلم التى صاحبت فترة الأزمة؛ فطبعتها بهذا الطابع المهين، وكانت الأوضاع الطبقية قد أبعدت عناصر كثيرة صالحة للقيادة الفكرية عن صفوف القوى الشعبية المتطلعة للثورة والمطالبة بها. وفى نفس الوقت فإن الطلائع الثورية التى صنعت أحداث ليلة ٢٣ يوليو لم تكن قد أعدت نفسها لتتحمل مسئولية التغيير الثورى الذى تصدت لمقدماته.
لقد فتحت الباب للثورة تحت راية المبادئ الستة المشهورة؛ ولكن هذه المبادئ كانت أعلاماً للثورة وليست أسلوب عمل ثورى ومنهاج تغيير جذرى، ولقد كان الأمر من الصعوبة بمكان؛ خصوصاً فى جو التغيير العالمى البعيد المدى والعظيم الأثر، لكن الشعب المعلم صانع الحضارة راح يلقن طلائعه أسرار آماله الكبرى، ومضى يحرك المبادئ الستة بالتجربة والخطأ؛ نحو وضوح فكرى يصنع التصميم الهندسى لبناء المجتمع الجديد الذى يريده، وراح الشعب الكادح يكدس مواد البناء، ويكتل جميع القوى الثورية القادرة على الإسهام فيه من صفوف الجماهير الواسعة.
إن الشعب المعلم أراد لطلائعه الثورية أن تنضم إلى صفوف العمل الجماهيرى، وأوكل إلى جيشه الوطنى مهمة حماية عملية البناء، ثم راح يشرف بوعى وجدارة على التحول الرائد الخلاق نحو الاشتراكية الديمقراطية التعاونية.

البــاب الخـامـس

عن الديمقراطية السليمة

إن الثورة بالطبيعة عمل شعبى وتقدمى؛ إنها حركة شعب بأسره يستجمع قواه ليقوم باقتحام عنيد لكل العوائق والموانع التى تعترض طريق حياته كما يتصورها، وكما يريدها؛ كما أنها قفزة عبر مسافة التخلف الاقتصادى والاجتماعى؛ تعويضاً لما فات، ووصولاً إلى الآمال الكبرى؛ التى تبدو خلال المثل الأعلى لما يريده للأجيال القادمة منه.
من هنا فإن العمل الثورى الصادق لا يمكن بغير سمتين أساسيتين:
أولاهما: شعبيته.
والثانية: تقدميته.
إن الثورة ليست عمل فرد؛ وإلا كانت انفعالاً شخصياً يائساً ضد مجتمع بحاله. والثورة ليست عمل فئة واحدة؛ وإلا كانت تصادماً مع الأغلبية، وإنما قيمة الثورة الحقيقية بمدى شعبيتها، بمدى ما تعبر به عن الجماهير الواسعة، وبمدى ما تعبئه من قوى هذه الجماهير لإعادة صنع المستقبل، وبمدى ما يمكن أن توفره لهذه الجماهير من قدرة على فرض إرادتها على الحياة.. والثورة تقدم بالطبيعة.
إن الجماهير لا تطالب بالتغيير ولا تسعى إليه وتفرضه لمجرد التغيير نفسه خلاصاً من الملل؛ وإنما تطلبه وتسعى إليه وتفرضه تحقيقاً لحياة أفضل، تحاول بها أن ترتفع بواقعها إلى مستوى أمانيها.
إن التقدم هو غاية الثورة، والتخلف المادى والاجتماعى هو المفجر الحقيقى لإرادة التغيير، والانتقال بكل قوة وتصميم مما كان قائماً بالفعل إلى ما ينبغى أن يقوم بالأمل.
إن الديمقراطية هى الترجمة الصحيحة لكون الثورة عملاً شعبياً. إن الديمقراطية هى توكيد السيادة للشعب، ووضع السلطة كلها فى يده، وتكريسها لتحقيق أهدافه؛ كذلك فإن الاشتراكية هى الترجمة الصحيحة لكون الثورة عملاً تقدمياً.. فإن الاشتراكية هى إقامة مجتمع الكفاية والعدل، مجتمع العمل وتكافؤ الفرصة، مجتمع الإنتاج ومجتمع الخدمات.
إن الديمقراطية والاشتراكية من هذا التصور تصبحان امتداداً واحداً للعمل الثورى. إن الديمقراطية هى الحرية السياسية، والاشتراكية هى الحرية الاجتماعية، ولا يمكن الفصل بين الاثنين.. إنهما جناحا الحرية الحقيقية وبدونهما أو بدون أى منهما لا تستطيع الحرية أن تحلق إلى آفاق الغد المرتقب.
إن عمق الوعى الثورى للشعب المصرى، ووضوح الرؤية أمامه بفعل الصدق مع النفس؛ قد مكنه غداة النصر العظيم فى معركة السويس من أن يحسن تقدير موقفه.
إن الشعب المصرى استطاع وسط مهرجان النصر العظيم أن يدرك أنه لم يحصل على الحرية فى معركة السويس؛ وإنما هو فى معركة السويس استخلص إرادته لكى يصنع بها الحرية ثورياً.
إن المعركة المجيدة مكنته من أن يكتشف قدراته وإمكانياته؛ وبالتالى أن يوجه هذه القدرات والإمكانيات ثورياً لتحقيق الحرية.
إن النصر ضد الاستعمار بالنسبة لهذا الشعب العظيم لم يكن نهاية المطاف؛ وإنما كان بداية العمل الحقيقى، وكان مجرد مركز أكثر ملاءمة لمواصلة الحرب من أجل الحرية الحقيقية، وضمانها مزدهرة على أرضه إلى الأبد.
إن السؤال الذى طرح نفسه تلقائياً غداة النصر العظيم فى السويس؛ هو لمن هذه الإرادة الحرة التى استخلصها الشعب المصرى من قلب المعركة الرهيبة؟ وكان الرد التاريخى الذى لا رد غيره؛ هو أن هذه الإرادة لا يمكن أن تكون لغير الشعب، ولا يمكن أن تعمل لغير تحقيق أهدافه.
إن الشعوب لا تستخلص إرادتها من قبضة الغاصب لكى تضعها فى متاحف التاريخ؛ وإنما تستخلص الشعوب إرادتها وتدعمها بكل طاقاتها الوطنية لتجعل منها السلطة القادرة على تحقيق مطالبها.
إن هذه المرحلة من النضال هى أخطر المراحل فى تجارب الأمم.. إنها النقطة التى انتكست بعدها حركات شعبية كانت تبشر بالأمل فى نتائج باهرة، ولكنها نسيت نفسها بعد أول انتصار لها ضد الضغط الخارجى، وتوهمت خطأً أن أهدافها الثورية تحققت؛ ومن ثم تركت الواقع كما هو دون تغيير.. ناسية أن عناصر الاستغلال الداخلى متصلة عن قرب مع قوى الضغط الخارجى؛ فإن الصلة بينهما والتعاون تفرضهما ظروف تبادل المنافع والمصالح على حساب الجماهير.
إن هذه الحركات الشعبية تسلم نفسها بعد ذلك للواجهات الدستورية المخادعة، وتتصور بذلك أن الحرية استوفت حقوقها، لكن هذه الحركات الشعبية تكشف دائماً - وبعد فوات الأوان فى كثير من الأحيان - أنها بقصورها عن التغيير الثورى فى معناه الاقتصادى سلبت الحرية السياسية ضمانها الحقيقى، ولم تترك لنفسها منها غير مجرد واجهة هشة؛ لا تلبث أن تتحطم وتنهار بفعل التناقض بينها وبين الحقيقة الوطنية.
كذلك ففى هذه المرحلة الخطيرة من النضال الوطنى تنتكس حركات شعبية أخرى؛ حين تنهج للتغيير الداخلى نظريات لا تنبع من التجربة الوطنية.
إن التسليم بوجود قوانين طبيعية للعمل الاجتماعى، ليس معناه القبول بالنظريات الجاهزة، والاستغناء بها عن التجربة الوطنية. إن الحلول الحقيقية لمشاكل أى شعب لا يمكن استيرادها من تجارب شعوب غيره، ولا تملك أى حركة شعبية فى تصديها لمسئولية العمل الاجتماعى أن تستغنى عن التجربة. إن التجربة الوطنية لا تفترض مقدماً بتخطئة جميع النظريات السابقة عليها، أو تقطع برفض الحلول التى توصل إليها غيرها؛ فإن ذلك تعصب لا تقدر أن تتحمل تبعاته؛ خصوصاً وأن إرادة التغيير الاجتماعى فى بداية ممارستها لمسئولياتها تجتاز فترة أشبه بالمراهقة الفكرية؛ تحتاج خلالها إلى كل زاد فكرى، لكنها فى حاجة إلى أن تهضم كل زاد تحصل عليه، وأن تمزجه بالعصارات الناتجة من خلاياها الحية.
إنها تحتاج إلى معرفة بما يجرى من حولها لكن حاجتها الكبرى هى إلى ممارسة الحياة على أرضها، وإن تجربة الصواب والخطأ هى فى حياة الأمم كشأنها فى حياة الأفراد؛ طريق النضوج والوضوح.
ومن ثم فإن الحرية السياسية؛ أى الديمقراطية، ليست هى نقل واجهات دستورية شكلية، كذلك فإن الحرية الاجتماعية؛ أى الاشتراكية، ليست التزاماً بنظريات جامدة لم تخرج من صميم الممارسة والتجربة الوطنية.

إن مصر وقعت بعد الحركة الشعبية الثورية سنة ١٩١٩ فى الخديعة الكبرى للديمقراطية المزيفة، واستسلمت القيادات الثورية - بعد أول اعتراف من الاستعمار باستقلال مصر - إلى ديمقراطية الواجهات الدستورية التى لا تحتوى على أى مضمون اقتصادى.إن ذلك لم يكن ضربة شديدة ضد الحرية فى صورتها الاجتماعية فقط؛ وإنما ما لبثت الضربة أن وصلت إلى هذه الواجهة السياسية الخارجية ذاتها؛ فإن الاستعمار لم يقم وزناً لكلمة الاستقلال المكتوبة على الورق، ولم يتورع عن تمزيقها فى أى وقت وفقاً لمصالحه.. إن ذلك كان أمراً طبيعياً.
إن واجهة الديمقراطية المزيفة لم تكن تمثل إلا ديمقراطية الرجعية؛ والرجعية ليست على استعداد لأن تقطع صلتها بالاستعمار، أو توقف تعاونها معه؛ ولذلك فلقد كان المنطق الطبيعى - بصرف النظر عن الواجهات الخارجية المزيفة - أن نجد الوزارات فى عهد ديمقراطية الرجعية، وفى ظل ما كان يسمى بالاستقلال الوطنى؛ لا تستطيع أن تعمل إلا بوحى من ممثل الاستعمار الرسمى فى مصر، بل إنها فى بعض الأحيان لم توجد إلا بمشورته وبأمره، بل وصل الحال فى إحدى المرات أنها جاءت إلى الحكم بدباباته.
إن ذلك كله يمزق القناع عن الواجهة المزيفة، ويفضح الخديعة الكبرى فى ديمقراطية الرجعية، ويؤكد عن يقين أنه لا معنى للديمقراطية السياسية، أو للحرية فى صورتها السياسية، من غير الديمقراطية الاقتصادية أو الحرية فى صورتها الاجتماعية.
إنه من الحقائق البديهية التى لا تقبل الجدل أن النظام السياسى فى بلد من البلدان ليس إلا انعكاساً مباشراً للأوضاع الاقتصادية السائدة فيه، وتعبيراً دقيقاً للمصالح المتحكمة فى هذه الأوضاع الاقتصادية، فإذا كان الإقطاع هو القوة الاقتصادية التى تسود بلداً من البلدان؛ فمن المحقق أن الحرية السياسية فى هذا البلد لا يمكن أن تكون غير حرية الإقطاع إنه يتحكم فى المصالح الاقتصادية، ويملى الشكل السياسى للدولة ويفرضه خدمة لمصالحه؛ وكذلك الحال عندما تكون القوة الاقتصادية لرأس المال المستغل.
ولقد كانت القوة الاقتصادية فى مصر قبل الثورة فى يد تحالف بين الإقطاع وبين رأس المال المستغل، وكان محتماً أن تكون الأشكال السياسية بما فيها الأحزاب تعبيراً عن هذه القوة، وواجهة ظاهرة لهذا التحالف بين الإقطاع وبين رأس المال المستغل.
إنه مما يلفت النظر أن بعض الأحزاب فى تلك الظروف؛ لم تتورع عن أن ترفع - من غير مواربة - شعار أن الحكم يجب أن يكون لأصحاب المصالح الحقيقية، ولما كان الإقطاع ورأس المال المستغل هما أصحاب المصالح الحقيقية فى البلاد وقتها؛ فلقد كان هذا الشعار أكثر من اعتراف ضمنى بالمهزلة التى فرضتها القوى المسيطرة على الشعب المصرى باسم الديمقراطية.
إن هذا الشعار - على أى حال - مهما بلغت درجة الإيلام فيه؛ كان اعترافاً صريحاً وصادقاً بالحقيقة المرة. إن سيادة الإقطاع المتحالف مع رأس المال المستغل على اقتصاديات الوطن؛ كانت لابد أن تمكن لهما طبيعياً وحتمياً من السيطرة على العمل السياسى فيه، وعلى أشكاله، وعلى ضمان توجيهها لخدمة التحالف بينهما على حساب الجماهير، وإخضاع هذه الجماهير بالخديعة أو بالإرهاب حتى تقبل أو تستسلم.
إن الديمقراطية على هذا الأساس لم تكن إلا ديكتاتورية الرجعية. إن فقدان الحرية الاجتماعية لجماهير الشعب سلب كل قيمة لشكل الحرية السياسية التى كانت تفضلت بها عليها الرجعية المتحكمة؛ حتى لقد صدر دستور سنة ١٩٢٣ منحة من الملك ومنة منه وتفضلاً. إن البرلمان الذى أقامه هذا الدستور لم يكن حامياً لمصالح الشعب؛ وإنما كان بالطبيعة حارساً للمصالح التى منحت هذا الدستور. وليس من شك أن أصواتاً كثيرة ارتفعت داخل البرلمان تنادى بحقوق الشعب، ولكن هذه النداءات تبددت هباء دون تأثير حقيقى، بل إن الرجعية لم يكن يضيرها أن تفتح متنفساً للسخط الشعبى؛ مادامت تملك جميع صمامات التوجيه، ومادامت بيدها - تحت كل الظروف - أغلبيتها التى تمكن لديكتاتوريتها الطبقية وتحمى امتيازاتها.
إن حق التصويت فقد قيمته حين فقد اتصاله المؤكد بالحق فى لقمة العيش. إن حرية التصويت من غير حرية لقمة العيش وضمانها فقدت كل قيمة فيها، وأصبحت خديعة مضللة للشعب. تحت هذه الظروف أصبح حق التصويت أمام ثلاثة احتمالات ليس لها بديل:
فى الريف.. كان التصويت إجباراً للفلاح لا يقبل المناقشة، فلم يكن يملك إلا أن يعطى صوته للإقطاعى صاحب الأرض، أو وفق مشيئته، أو يواجه تبعات العصيان؛ وأولاهما: أن يطرد من الأرض التى يعمل فيها بما لا يكاد أن يكفى لسد جوعه.
فى الريف والمدينة كان شراء الأصوات يمكن رأس المال المستغل من أن يأتى بأعوانه، أو بمن يضمن ولاءهم لمصالحه.
فى الريف والمدينة لم تتورع المصالح الحاكمة فى عديد من الظروف أن تلجأ إلى التزوير المكشوف إذا ما أحست بوجود تيارات متعارضة مع إرادتها.
وكانت الشروط التى تجرى تحتها عمليات الانتخاب، وفى مقدمتها اشتراط تأمين نقدى باهظ، تصد جماهير الشعب العامل حتى عن مجرد الاقتراب من لعبة الانتخابات، ولم تكن إلا لعبة فى تلك الظروف.
وفى نفس الوقت فإن الجهل الذى فرض على الأغلبية العظمى من الشعب، تحت ضغط الفقر؛ جعل من سرية الاقتراع - وهى أولى الضمانات لحريته - أمراً مستحيلاً أو شبه مستحيل.
إن حرية التنظيم الشعبى التى تسند حرية التمثيل الشعبى فقدت هى الأخرى - بتأثير هذه الظروف - فاعليتها، وعجزت عن التأثير إيجابياً على الأوضاع المفروضة داخل الوطن.
إن ملايين الفلاحين حتى من ملاك الأرض الصغار طحنتهم الإقطاعيات الكبيرة لسادة الأرض المتحكمين فى مصيرها، ولم يتمكنوا على الإطلاق من تنظيم أنفسهم داخل تعاونيات تمكنهم من المحافظة على إنتاجية أراضيهم. وبالتالى تعطيهم القدرة على الصمود وعلى إسماع صوتهم للأجهزة المحلية؛ فضلاً عن قصور الحكم فى العاصمة؛ كذلك فإن الملايين من العمال الزراعيين عاشوا فى ظروف أقرب ما تكون إلى السخرة؛ تحت مستوى من الأجور يهبط كثيراً ليقرب من حد الجوع؛ كما أن عملهم كان يجرى من غير أى ضمان للمستقبل، ولم يكن فى طاقتهم إلا أن يعيشوا سنوات حياتهم خلال بؤس الساعات وقسوتها الرهيبة.
كذلك فإن مئات الألوف من عمال الصناعة والتجارة لم تكن فى قدرتهم أية طاقة على تحدى إرادة الرأسمالية المتحكمة؛ المتحالفة مع الإقطاع، والمسيطرة على جهاز الدولة وعلى سلطة التشريع، وأصبح العمل سلعة من السلع فى عملية الإنتاج، يشتريها رأس المال المستغل تحت أحسن الشروط موافقة لمصالحه. ولقد واجهت الحركة النقابية التى كان فى يدها قيادة هذه الطبقة المناضلة من العمال صعوبات شديدة، حاولت عرقلة طريقها كما حاولت إفسادها.

إن حرية النقد ضاعت فى هذه الفترة بضياع حرية الصحافة، ولم يكن الأمر هو مجرد القوانين الصارمة التى وقفت بالمرصاد لحرية النشر، وفرضت بالتشريع محظورات ترتفع على النقد، وتوسعت فى هذه المحظورات إلى حد كاد أن يجعل الظلام دامساً وشاملاً. وإنما طبيعة التقدم الآلى فى مهنة الصحافة نفسها أحدثت أثراً لا يقل فى ضرره عما أحدثته قوانين القمع والكبت.لقد كان من أثر التقدم الآلى فى مهنة الصحافة، واحتياجاتها المتزايدة إلى الآلات الحديثة، وإلى الكميات الهائلة من الورق؛ أن تحولت هذه المهنة العظيمة من كونها عملية رأى إلى أن أصبحت عملية رأسمالية معقدة.
إن الصحافة فى هذه الفترة - ومع هذا التطور - لم تكن قادرة على الحياة إلا إذا ساندتها الأحزاب الحاكمة؛ الممثلة لمصالح الإقطاع ورأس المال، أو إذا اعتمدت اعتماداً كلياً على رأس المال المستغل الذى كان يملك الإعلان بحكم ملكيته للصناعة والتجارة.
إن سلطة الدولة والتشريع استعملت أولاً فى إخضاع الصحافة للمصالح الحاكمة؛ وذلك عن طريق قوانين النشر الظالمة، وعن طريق الرقابة التى وقفت سداً حائلاً دون الحقيقة؛ كذلك تزايد الخطر على ما تبقى من حرية الصحافة ثانياً بتزايد احتياجات المهنة نفسها لمعدات التقدم الآلى.. ولم يعد فى قدرتها إلا أن تخضع لإرادة رأس المال المستغل، وأن تتلقى منه وليس من جماهير الشعب وحيها، واتجاهاتها السياسية والاجتماعية.
إن حرية العلم التى كان فى مقدورها أن تفتح طاقات جديدة للأمل؛ تعرضت هى الأخرى لنفس العبث تحت حكم الديمقراطية الرجعية؛ فإن الرجعية الحاكمة كان لابد لها أن تطمئن إلى سيطرة المفاهيم المعبرة عن مصالحها؛ ومن ثم انعكست آثار ذلك على نظم العلم ومناهجه، وأصبحت لا تسمح إلا بشعارات الاستسلام والخضوع.
إن أجيالاً متعاقبة من شباب مصر لقنت أن بلادها لا تصلح للصناعة، ولا تقدر عليها. إن أجيالاً متعاقبة من شباب مصر قرأت تاريخها الوطنى على غير حقيقته، وصور لها الأبطال فى تاريخها تائهين وراء سحب من الشك والغموض؛ بينما وضعت هالات التمجيد والإكبار من حول الذين خانوا كفاحها. إن أجيالاً متعاقبة من شباب مصر انتظمت فى سلك المدارس والجامعات، والهدف من التعليم كله لا يزيد عن إخراج موظفين يعملون للأنظمة القائمة، وتحت قوانينها ولوائحها التى لا تأبه بمصالح الشعب؛ دون أى وعى لضرورة تغييرها من جذورها، وتمزيقها أصلاً وأساساً.
إن تحالف الإقطاع والرجعية الحاكمة لم يكتف بذلك كله، وإنما باشر ضغطه على جماعات كثيرة من المثقفين؛ كان فى استطاعتها أن تكون ضمن الطلائع الثائرة؛ فكسر مقاومتها، وفرض عليها إما أن تستسلم لإغراء ما يلقيه إليها من فتات الامتيازات الطبقية، وإما أن تذهب إلى الانزواء والنسيان.
إن عمق الوعى الثورى، وأصالة إرادة الثورة للشعب المصرى؛ قد فضحت التزييف المروع فى ديمقراطية الرجعية التى حكمت باسم التحالف بين الإقطاع وبين رأس المال المستغل.
إن عمق الوعى وأصالة إرادة الثورة وضعا بنجاح شعار الديمقراطية السليمة ضمن المبادئ الستة، ورسماً من الواقع وبالتجربة، وتطلعا إلى الأمل؛ معالم ديمقراطية الشعب.. ديمقراطية الشعب العامل كله.
أولاً: إن الديمقراطية السياسية لا يمكن أن تنفصل عن الديمقراطية الاجتماعية. إن المواطن لا تكون له حرية التصويت فى الانتخابات إلا إذا توفرت له ضمانات ثلاث:
١- أن يتحرر من الاستغلال فى جميع صوره.
٢- أن تكون له الفرصة المتكافئة فى نصيب عادل من الثروة الوطنية.
٣- أن يتخلص من كل قلق يبدد أمن المستقبل فى حياته.
بهذه الضمانات الثلاث يملك المواطن حريته السياسية، ويقدر أن يشارك بصوته فى تشكيل سلطة الدولة التى يرتضى حكمها.
ثانياً: إن الديمقراطية السياسية لا يمكن أن تتحقق فى ظل سيطرة طبقة من الطبقات. إن الديمقراطية حتى بمعناها الحرفى هى سلطة الشعب؛ سلطة مجموع الشعب وسيادته، والصراع الحتمى والطبيعى بين الطبقات لا يمكن تجاهله أو إنكاره، وإنما ينبغى أن يكون حله سلمياً فى إطار الوحدة الوطنية، وعن طريق تذويب الفوارق بين الطبقات. ولقد أثبتت التجربة التى صاحبت بدء العمل الثورى المنظم أنه من المحتم أن تأخذ الثورة على عاتقها تصفية الرجعية، وتجريدها من جميع أسلحتها، ومنعها من أى محاولة للعودة إلى السيطرة على الحكم، وتسخير جهاز الدولة لخدمة مصالحها.
إن ضراوة الصراع الطبقى ودمويته، والأخطار الهائلة التى يمكن أن تحدث نتيجة لذلك؛ هى فى الواقع من صنع الرجعية التى لا تريد التنازل عن احتكاراتها، وعن مراكزها الممتازة التى تواصل منها استغلال الجماهير.
إن الرجعية تملك وسائل المقاومة؛ تملك سلطة الدولة، فإذا انتزعت منها لجأت إلى سلطة المال، فإذا انتزع منها لجأت إلى حليفها الطبيعى وهو الاستعمار.
إن الرجعية تتصادم فى مصالحها مع مصالح مجموع الشعب؛ بحكم احتكارها لثروته؛ ولهذا فإن سلمية الصراع الطبقى لا يمكن أن تتحقق إلا بتجريد الرجعية - أولاً وقبل كل شىء - من جميع أسلحتها.
إن إزالة هذا التصادم يفتح الطريق للحلول السلمية أمام صراع الطبقات. إن إزالة التصادم لا يزيل المتناقضات بين بقية طبقات الشعب، وإنما هو يفتح المجال لإمكانية حلها سلمياً؛ أى بوسائل العمل الديمقراطى، بينما بقاء التصادم لا يمكن أن يحل بغير الحرب الأهلية، وما تلحقه من أضرار بالوطن؛ فى ظروف يشتد فيها الصراع الدولى، وتعنف فيها عواصف الحرب الباردة.
إن تحالف الرجعية ورأس المال المستغل يجب أن يسقط، ولابد أن ينفسح المجال بعد ذلك ديمقراطياً للتفاعل الديمقراطى بين قوى الشعب العاملة؛ الفلاحين والعمال والجنود والمثقفين والرأسمالية الوطنية.
إن تحالف هذه القوى الممثلة للشعب العامل، هو البديل الشرعى لتحالف الإقطاع مع رأس المال المستغل، وهو القادر على إحلال الديمقراطية السليمة محل ديمقراطية الرجعية.
ثالثاً: إن الوحدة الوطنية التى يصنعها تحالف هذه القوى الممثلة للشعب هى التى تستطيع أن تقيم الاتحاد الاشتراكى العربى؛ ليكون السلطة الممثلة للشعب، والدافعة لإمكانيات الثورة، والحارسة على قيم الديمقراطية السليمة.

إن هذه القوى الشعبية الهائلة المكونة للاتحاد الاشتراكى العربى وإطلاق فعالياتها تحتم أن يتعرض الدستور الجديد للجمهورية العربية المتحدة - عند بحثه لشكل التنظيم السياسى للدولة - لعدة ضمانات لازمة.١- إن التنظيمات الشعبية والسياسية التى تقوم بالانتخاب الحر المباشر لابد لها أن تمثل بحق وبعدل القوى المكونة للأغلبية؛ وهى القوى التى طال استغلالها، والتى هى صاحبة مصلحة عميقة فى الثورة؛ كما أنها بالطبيعة الوعاء الذى يختزن طاقات ثورية دافعة وعميقة بفعل معاناتها للحرمان.
إن ذلك - فضلاً عما فيه من حق وعدل باعتباره تمثيلاً للأغلبية - ضمان أكيد لقوة الدفع الثورى نابعة من مصادرها الطبيعية الأصيلة؛ ومن هنا فإن الدستور الجديد يجب أن يضمن للفلاحين والعمال نصف مقاعد التنظيمات الشعبية والسياسية على جميع مستوياتها، بما فيها المجلس النيابى؛ باعتبارهم أغلبية الشعب؛ كما أنها الأغلبية التى طال حرمانها من حقها الأساسى فى صنع مستقبلها وتوجيهه.
٢- إن سلطة المجالس الشعبية المنتخبة يجب أن تتأكد باستمرار فوق سلطة أجهزة الدولة التنفيذية؛ فذلك هو الوضع الطبيعى الذى ينظم سيادة الشعب، ثم هو الكفيل بأن يظل الشعب دائماً قائد العمل الوطنى، كما أنه الضمان الذى يحمى قوة الاندفاع الثورى من أن تتجمد فى تعقيدات الأجهزة الإدارية أو التنفيذية؛ بفعل الإهمال أو الانحراف.
كذلك فإن الحكم المحلى يجب أن ينقل باستمرار وبإلحاح سلطة الدولة تدريجياً إلى أيدى السلطات الشعبية؛ فإنها أقدر على الإحساس بمشاكل الشعب، وأقدر على حسمها.
٣- إن الحاجة ماسة إلى خلق جهاز سياسى جديد داخل إطار الاتحاد الاشتراكى العربى؛ يجند العناصر الصالحة للقيادة، وينظم جهودها ويبلور الحوافز الثورية للجماهير، ويتحسس احتياجاتها، ويساعد على إيجاد الحلول الصحيحة لهذه الاحتياجات.
٤- إن جماعية القيادة أمر لابد من ضمانه فى مرحلة الانطلاق الثورى. إن جماعية القيادة ليست عاصماً من جموح الفرد فحسب، وإنما هى تأكيد للديمقراطية على أعلى المستويات؛ كما أنها فى الوقت ذاته ضمان للاستمرار الدائم المتجدد.
رابعاً: إن التنظيمات الشعبية؛ وخصوصاً التنظيمات التعاونية والنقابية، تستطيع أن تقوم بدور مؤثر وفعال فى التمكين للديمقراطية السليمة.
إن هذه التنظيمات لابد أن تكون قوى متقدمة فى ميادين العمل الوطنى الديمقراطى، وإن نمو الحركة التعاونية والنقابية معين لا ينضب للقيادات الواعية التى تلمس بأصابعها مباشرة أعصاب الجماهير، وتشعر بقوة نبضها، ولقد سقط الضغط الذى كان يخنق حرية هذه المنظمات ويشل حركتها.
إن تعاونيات الفلاحين - فضلاً عن دورها الإنتاجى - هى منظمات ديمقراطية قادرة على التعرف على مشاكل الفلاحين، وعلى استكشاف حلولها؛ وكذلك فلقد آن الوقت لكى تقوم نقابات للعمال الزراعيين.
إن نقابات عمال الصناعة والتجارة والخدمات قد توصلت بقوانين يوليو العظيمة إلى مركز طليعى فى قيادة النضال الوطنى.
إن العمال لم يصبحوا سلعة فى عملية الإنتاج، وإنما أصبحت قوى العمل مالكة لعمليات الإنتاج ذاتها، شريكة فى إدارتها.. شريكة فى أرباحها تحت أوفى الأجور، وأحسن الشروط من ناحية تحديد ساعات العمل.
خامساً: إن النقد والنقد الذاتى من أهم الضمانات للحرية، ولقد كان أخطر ما يعرقل حرية النقد والنقد الذاتى فى المنظمات السياسية هو تسلل العناصر الرجعية إليها.
كذلك لقد كانت سيطرة الرجعية على الصحافة؛ بحكم سيطرتها على المصالح الاقتصادية، تسلب حرية الرأى أعظم أدواتها. إن استبعاد الرجعية يسقط ديكتاتورية الطبقة الواحدة، ويفتح الطريق أمام ديمقراطية جميع قوى الشعب الوطنية.
إنه يعطى أوثق الضمانات لحرية الاجتماع، وحرية المناقشة؛ كذلك فإن ملكية الشعب للصحافة؛ التى تحققت بفضل قانون تنظيم الصحافة؛ الذى أكد لها فى نفس الوقت استقلالها عن الأجهزة الإدارية للحكم؛ قد انتزع للشعب أعظم أدوات حرية الرأى، ومكن أقوى الضمانات لقدرتها على النقد.
إن الصحافة بملكية الاتحاد الاشتراكى العربى لها.. هذا الاتحاد الممثل لقوى الشعب العاملة؛ قد خلصت من تأثير الطبقة الواحدة الحاكمة؛ كذلك خلصت من تحكم رأس المال فيها، ومن الرقابة غير المنظورة التى كان يفرضها عليها بقوة تحكمه فى مواردها.
إن الضمان المحقق لحرية الصحافة هى أن تكون الصحافة للشعب؛ لتكون حريتها بدورها امتداداً لحرية الشعب.
سادساً: إن المفاهيم الثورية الجديدة للديمقراطية السليمة، لابد لها أن تفرض نفسها على الحدود التى تؤثر فى تكوين المواطن؛ وفى مقدمتها التعليم والقوانين واللوائح الإدارية.
إن التعليم لم تعد غايته إخراج موظفين للعمل فى مكاتب الحكومة؛ ومن هنا فإن مناهج التعليم فى جميع الفروع ينبغى أن تعاد دراستها ثورياً؛ لكى يكون هدفها هو تمكين الإنسان الفرد من القدرة على إعادة تشكيل الحياة.
كذلك فإن القوانين لابد أن تعاد صياغتها لتخدم العلاقات الاجتماعية الجديدة التى تقيمها الديمقراطية السياسية؛ تعبيراً عن الديمقراطية الاجتماعية.
كذلك فإن العدل الذى هو حق مقدس لكل مواطن فرد؛ لا يمكن أن يكون سلعه غالية وبعيدة المنال على المواطن. إن العدل لابد أن يصل إلى كل فرد حر، ولابد أن يصل إليه من غير موانع مادية أو تعقيدات إدارية؛ كذلك فإن اللوائح الحكومية يجب أن تتغير تغييراً جذرياً من الأعماق، لقد وضعت كلها أو معظمها فى ظلال حكم الطبقة الواحدة، ولابد بأسرع ما يمكن من تحويلها لتكون قادرة على خدمة ديمقراطية الشعب كله.
إن العمل الديمقراطى فى هذه المجالات سوف يتيح الفرصة لتنمية ثقافة نابضة بالقيم الجديدة؛ عميقة فى إحساسها بالإنسان، صادقة فى تعبيرها عنه، قادرة بعد ذلك كله على إضاءة جوانب فكره وحسه، وتحريك طاقات كامنة فى أعماقه، خلاقة ومبدعة، ينعكس أثرها بدوره على ممارسته للديمقراطية، وفهمه لأصولها، وكشفه لجوهرها الصافى النقى.

(الجزء الثانى من الجلسة)

البــاب السـادس

فى حتمية الحل الاشتراكى

إن الحرية الاجتماعية طريقها الاشتراكية. إن الحرية الاجتماعية لا يمكن أن تتحقق إلا بفرصة مكافئة أمام كل مواطن فى نصيب عادل من الثروة الوطنية.
إن ذلك لا يقتصر على مجرد إعادة توزيع الثروة الوطنية بين المواطنين، وإنما هو يتطلب أولاً وقبل كل شىء توسيع قاعدة هذه الثروة الوطنية؛ بحيث تستطيع الوفاء بالحقوق المشروعة لجماهير الشعب العاملة.
إن ذلك معناه أن الاشتراكية بدعامتيها من الكفاية والعدل هى طريق الحرية الاجتماعية.
إن الحل الاشتراكى لمشكلة التخلف الاقتصادى والاجتماعى فى مصر، وصولاً ثورياً إلى التقدم؛ لم يكن افتراضاً قائماً على الانتقاء الاختيارى؛ وإنما كان الحل الاشتراكى حتمية تاريخية فرضها الواقع، وفرضتها الآمال العريضة للجماهير؛ كما فرضتها الطبيعة المتغيرة للعالم فى النصف الثانى من القرن العشرين.
إن التجارب الرأسمالية فى التقدم تلازمت تلازماً كاملاً مع الاستعمار؛ فلقد وصلت بلدان العالم الرأسمالى إلى مرحلة الانطلاق الاقتصادى على أساس الاستثمارات التى حصلت عليها من مستعمراتها.
وكانت ثروة الهند التى نزح الاستعمار البريطانى النصيب الأكبر منها؛ هى بداية تكوين المدخرات البريطانية التى استعملت فى تطوير الزراعة والصناعة فى بريطانيا.
وإذا كانت بريطانيا قد وصلت إلى مرحلة الانطلاق اعتماداً على صناعة النسيج فى لانكشير؛ فإن تحويل مصر إلى حقل كبير لزراعة القطن كان شرياناً ينقل الدم إلى قلب الاقتصاد البريطانى؛ على حساب جوع الفلاح المصرى.
إن عصور القرصنة الاستعمارية التى جرى فيها نهب ثروات الشعوب لصالح غيرها - بلا وازع من القانون أو الأخلاق - قد مضى عهدها، وينبغى القضاء على ما تبقى من ذكريات لها مازالت فيها بقية من الحياة خصوصاً فى إفريقيا.
كذلك فإن هناك تجارب أخرى للتقدم حققت أهدافها على حساب زيادة شقاء الشعب العامل واستغلاله؛ إما لصالح رأس المال، أو تحت ضغط تطبيقات مذهبية مضت إلى حد التضحية الكاملة بأجيال حية؛ فى سبيل أجيال لم تطرق بعد أبواب الحياة.
إن طبيعة العصر لم تعد تسمح بشىء من ذلك. إن التقدم عن طريق النهب أو التقدم عن طريق السخرة لم يعد أمراً محتملاً فى ظل القيم الإنسانية الجديدة.
إن هذه القيم الإنسانية أسقطت الاستعمار، كما أن هذه القيم أسقطت السخرة.. ولم تكتف هذه القيم الإنسانية بإسقاط هذين المنهجين؛ وإنما كانت إيجابية فى تعبيرها عن روح العصر ومثله العليا حين فتحت بالعلم مناهج أخرى للعمل من أجل التقدم.
إن الاشتراكية العلمية هى الصيغة الملائمة لإيجاد المنهج الصحيح للتقدم. إن أى منهاج آخر لا يستطيع بالقطع أن يحقق التقدم المنشود، والذين ينادون بترك الحرية لرأس المال، ويتصورن أن ذلك طريق إلى التقدم؛ يقعون فى خطأ فادح.
إن رأس المال فى تطوره الطبيعى، فى البلاد التى أرغمت على التخلف؛ لم يعد قادراً على أن يقود الانطلاق الاقتصادى، فى زمن نمت فيه الاحتكارات الرأسمالية الكبرى فى البلدان المتقدمة؛ اعتماداً على استغلال موارد الثروة فى المستعمرات.
إن نمو الاحتكارات العالمية الضخم لم يترك إلا سبيلين للرأسمالية المحلية فى البلاد المتطلعة إلى التقدم:
أولهما: أنها لم تعد تقدر على المنافسة إلا من وراء أسوار الحمايات الجمركية العالمية، التى تدفعها الجماهير.
والثانى: أن الأمل الوحيد لها فى النمو هو أن تربط نفسها بحركة الاحتكارات العالمية، وتقتفى أثرها، وتتحول إلى ذيل لها، وتجر أوطانها وراءها إلى هذه الهاوية الخطيرة.
ومن ناحية أخرى فإن اتساع مسافة التخلف فى العالم بين السابقين وبين الذين يحاولون اللحاق بهم لم تعد تسمح بأن يترك منهاج التقدم للجهود الفردية العفوية التى لا يحركها غير دافع الربح الأنانى.
إن هذه الجهود بالتأكيد لم تعد قادرة على مواجهة التحدى. إن مواجهة التحدى لا يمكن أن تتم إلا بثلاثة شروط:
١- تجميع المدخرات الوطنية.
٢- وضع كل خبرات العلم الحديث فى خدمة استثمار هذه المدخرات.
٣- وضع تخطيط شامل لعملية الإنتاج.
ومن الناحية الأخرى المقابلة لجانب زيادة الإنتاج؛ وهى ناحية عدالة التوزيع، فإن الأمر يقتضى وضع برامج شاملة للعمل الاجتماعى، تعود بخيرات العمل الاقتصادى ونتائجه على الجموع الشعبية العاملة، وتصنع لها مجتمع الرفاهية الذى تتطلع إليه وتكافح لكى يقترب يومه.
إن العمل من أجل زيادة قاعدة الثورة الوطنية؛ لا يمكن أن يترك لعفوية رأس المال الخاص المستغل ونزعاته الجامحة.
كذلك فإن إعادة توزيع فائض العمل الوطنى على أساس من العدل، لا يمكن أن يتم بالتطوع القائم على حسن النية مهما صدقت.
إن ذلك يضع نتيجة محققة أمام إرادة الثورة الوطنية؛ لا يمكن بغير الوصول إليها أن تحقق أهدافها؛ وهذه النتيجة هى ضرورة سيطرة الشعب على كل أدوات الإنتاج، وعلى توجيه فائضها طبقاً لخطة محددة.
إن هذا الحل الاشتراكى هو المخرج الوحيد إلى التقدم الاقتصادى والاجتماعى، وهو طريق الديمقراطية فى كل أشكالها السياسية والاجتماعية. إن سيطرة الشعب على كل أدوات الإنتاج لا تستلزم تأميم كل وسائل الإنتاج، ولا تلغى الملكية الخاصة، ولا تمس حق الإرث الشرعى المترتب عليها، وإنما يمكن الوصول إليها بطريقين:
أولهما: خلق قطاع عام وقادر؛ يقود التقدم فى جميع المجالات، ويتحمل المسئولية الرئيسية فى خطة التنمية.
ثانيهما: وجود قطاع خاص يشارك فى التنمية فى إطار الخطة الشاملة، لها من غير استغلال؛ على أن تكون رقابة الشعب شاملة للقطاعين، مسيطرة عليهما معاً.
إن ذلك الحل الاشتراكى هو الطريق الوحيد الذى يمكن أن تتلاقى عليه جميع العناصر فى عملية الإنتاج؛ على قواعد علمية وإنسانية تقدر على مد المجتمع بجميع الطاقات التى تمكنه من أن يصنع حياته من جديد وفق خطة مرسومة مدروسة وشاملة.
إن التخطيط الاشتراكى الكفء هو الطريقة الوحيدة التى تضمن استخدام جميع الموارد الوطنية المادية والطبيعية والبشرية؛ بطريقة عملية وعلمية وإنسانية؛ لكى تحقق الخير لجموع الشعب، وتوفر لهم حياة الرفاهية.
إنه الضمان لحسن استغلال الثروات الموجودة والكامنة والمحتملة؛ ثم هو فى الوقت ذاته ضمان توزيع الخدمات الأساسية باستمرار، ورفع مستوى ما يقدم منها بالفعل، ومد هذه الخدمات إلى المناطق التى افترسها الإهمال والعجز؛ نتيجة لطول الحرمان الذى فرضته أنانية الطبقات المتحكمة المستعلية على الشعب المناضل.
والتخطيط من هذا كله ينبغى أن يكون عملية خلق علمى منظم؛ يجيب على جميع التحديات التى تواجه مجتمعنا؛ فهو ليس مجرد عملية حساب الممكن، ولكنه عملية تحقيق الأمل؛ ومن ثم فإن التخطيط فى مجتمعنا مطالب بأن يجد حلاً للمعادلة الصعبة؛ التى يكمن فى حلها نجاح العمل الوطنى مادياً وإنسانياً.. هذه المعادلة هى: كيف يمكن أن نزيد الإنتاج وفى نفس الوقت نزيد الاستهلاك فى السلع والخدمات؟ هذا مع استمرار التزايد فى المدخرات من أجل الاستثمارات الجديدة. هذه المعادلة الصعبة ذات الشعب الثلاث الحيوية تتطلب إيجاد تنظيم ذى كفاية عالية وقدرة؛ يستطيع تعبئة القوى المنتجة، ورفع كفايتها مادياً وفكرياً، وربطها بعملية الإنتاج.
إن هذا التنظيم مطالب بأن يدرك أن غاية الإنتاج هى توسيع نطاق الخدمات، وأن الخدمات بدورها قوة دافعة لعجلات الإنتاج، وأن الصلة بين الإنتاج والخدمات وسرعتها، وسهولة جريانها، تصنع دورة دموية صحيحة لحياة الشعب، ولحياة كل إنسان فرد فيه.
إن هذا التنظيم لابد له أن يعتمد على مركزية فى التخطيط، وعلى لا مركزية فى التنفيذ تكفل وضع برامج الخطة فى يد كل جموع الشعب وأفراده.
إن الجزء الأكبر من الخطة نتيجة لذلك كله يجب أن يقع على القطاع العام الذى يملكه الشعب بمجموعه. إن ذلك ليس ضماناً لحسن سير عملية الإنتاج فى طريقها المحدد من أجل الكفاية؛ وإنما هو فى ذات الوقت تحقيق للعدل باعتبار أن هذا القطاع العام ملك للشعب بمجموعه.
إن النضال الوطنى لجماهير الشعب هو الذى صنع نواة القطاع العام؛ بتصميمه على استرداد المصالح الاحتكارية الأجنبية، وتأميمها، وإعادتها إلى مكانها الطبيعى والشرعى؛ وهو الملكية العامة للشعب كله.كذلك فإن هذا النضال الوطنى - حتى فى إبان معركته العسكرية المسلحة ضد الاستعمار - أضاف لهذا القطاع العام كل الأموال البريطانية والفرنسية فى مصر، وهى الأموال التى سلبت من الشعب تحت ظروف الامتيازات الأجنبية، وفى العهود التى استبيحت فيها حرمة الثروة الوطنية لتكون نهباً للمغامرين الأجانب.
كذلك فإن هذا النضال الوطنى فى سعيه إلى الحرية الاجتماعية، وفى اقتحامه لكل مراكز الاستغلال الطبقى؛ هو الذى ضم إلى هذا القطاع العام الجزء الأكبر من أدوات الإنتاج؛ وذلك بقوانين يوليو سنة ١٩٦١، وثوريتها العميقة المعبرة عن إرادة التغيير الشامل فى مصر.
إن هذه الخطوات الجبارة التى مكنت للقطاع العام من أداء دوره الطليعى فى قيادة التقدم، ورسمت خطوطاً واضحة المعالم؛ كما أرست حدوداً أملاها الواقع الوطنى، وفرضتها الدراسة الدقيقة لظروفه وإمكانياته وأهدافه، إن هذه الخطوط والحدود يمكن إجمالها فيما يلى:
أولاً: فى مجال الإنتاج عموماً:
يجب أن تكون الهياكل الرئيسية لعملية الإنتاج؛ كالسكك الحديدية والطرق والموانى والمطارات، وطاقات القوى المحركة، والسدود، ووسائل النقل البحرى والبرى والجوى، وغيرها من المرافق العامة؛ فى نطاق الملكية العامة للشعب.
ثانياً: فى مجال الصناعة:
يجب أن تكون الصناعات الثقيلة والمتوسطة والصناعات التعدينية فى غالبيتها داخلة فى إطار الملكية العامة للشعب، وإذا كان من الممكن أن يسمح بالملكية الخاصة فى هذا المجال فإن هذه الملكية الخاصة يجب أن تكون تحت سيطرة القطاع العام المملوك للشعب وفى ظله، يجب أن تظل الصناعات الخفيفة بمنأى دائماً عن الاحتكار، وإذا كانت الملكية الخاصة مفتوحة فى مجالها فإن القطاع العام يجب أن يحتفظ بدور فيها يمكنه من التوجيه لصالح الشعب.
ثالثاً: فى مجال التجارة:
يجب أن تكون التجارة الخارجية تحت الإشراف الكامل للشعب، وفى هذا المجال فإن تجارة الاستيراد يجب أن تكون كلها فى إطار القطاع العام، وإن كان من واجب رأس المال الخاص أن يشارك فى تجارة الصادرات، وفى هذا المجال فإن القطاع العام لابد أن تكون له الغالبية فى تجارة هذه الصادرات؛ منعاً لاحتمالات التلاعب. وإذا جاز تحديد نسب فى هذا النطاق فإن القطاع العام لابد له أن يتحمل عبء ثلاثة أرباع الصادرات؛ مشجعاً للقطاع الخاص على تحمل مسئولية الجزء الباقى منها.
يجب أن يكون للقطاع العام دور فى التجارة الداخلية، ولابد للقطاع العام على مدى السنوات الثمانية القادمة - وهى المدة المتبقية من الخطة الأولى للتنمية الشاملة من أجل مضاعفة الدخل فى عشر سنوات - أن يتحمل مسئولية ربع التجارة الداخلية على الأقل؛ منعاً للاحتكار، ليفسح مجالاً واسعاً فى ميدان التجارة الداخلية للنشاط الخاص والتعاونى؛ على أن يكون مفهوماً بالطبع أن التجارة الداخلية خدمة وتوزيع مقابل ربح معقول لا يصل إلى حد الاستغلال تحت أى ظرف من الظروف.
رابعاً: فى مجال المال:
يجب أن تكون المصارف فى إطار الملكية العامة؛ فإن المال وظيفته وطنية لا تترك للمضاربة أو المغامرة، كذلك فإن شركات التأمين لابد أن تكون فى نفس إطار الملكية العامة صيانة لجزء كبير من المدخرات الوطنية، وضماناً لحسن توجيهها والحفاظ عليها.
خامساً: فى المجال العقارى:
يجب أن تكون هناك تفرقة واضحة بين نوعين من الملكية الخاصة؛ ملكية مستغلة، أو تفتح الباب للاستغلال وملكية غير مستغلة تؤدى دورها فى خدمة الاقتصاد الوطنى، كما تؤديه فى خدمة أصحابها، وفى مجال ملكية الأرض الزراعية فإن قوانين الإصلاح الزراعى قد انتهت بوضع حد أعلى لملكية الفرد لا يتجاوز مائة فدان؛ على أن روح القانون تفرض أن يكون هذا الحد شاملاً للأسرة كلها؛ أى للأب والأم وأولادهما القصر؛ حتى لا تتجمع ملكيات فى نطاق الحد الأعلى تسمح بنوع من الإقطاع.
على أن ذلك يمكن أن يتم الوصول إليه خلال مرحلة السنوات الثمانية القادمة، وعلى أن تقوم الأسر التى تنطبق عليها حكمة القانون وروحه ببيع الأراضى الزائدة عن هذا الحد بثمن نقدى إلى الجمعيات التعاونية للإصلاح الزراعى أو للغير؛ كذلك ففى مجال ملكية المبانى تكفلت قوانين الضرائب التصاعدية على المبانى، وقوانين تخفيض الإيجارات، والقوانين المحددة لقواعد ربطها؛ بوضع الملكية العقارية فى مكان يبتعد بها عن أوضاع الاستغلال.. على أن متابعة الرقابة أمر ضرورى، وإن كانت الزيادة فى الإسكان العام والتعاونى سوف تساهم بطريقة عملية فى مكافحة أى محاولة للاستغلال فى هذا المجال.
إن قوانين يوليو سنة ١٩٦١ بالعمل الاشتراكى العظيم الذى حققته؛ تعد بمثابة أكبر انتصار توصلت إليه قوة الدفع الثورى فى المجال الاقتصادى. إن هذه القوانين تعد امتداداً لمقدمات سبقتها، كانت جسراً عبرته عملية التحول نحو الاشتراكية بنجاح منقطع النظير.
إن هذه المرحلة الثورية الحاسمة ما كان يمكن إتمامها بالكفاية التى تمت بها وبالجو السلمى الذى تحققت فيه؛ لولا قوة إيمان الشعب، ولولا وعيه، ولولا استجماعه لكل قواه فى مواجهة حاسمة مع الرجعية، استطاع فيها أن يقتحم عليها جميع مواقعها المنيعة، ويؤكد سيادته على مقدرات الثروة فى بلاده.
إن قوانين يوليو المجيدة، والطريقة الحاسمة التى تمت بها، والجهود الموفقة الشجاعة التى بذلها مئات الألوف من أبناء الشعب - العاملين فى المؤسسات التى انتقلت ملكيتها إلى الشعب بهذه القوانين - فى الفترة الحرجة التى أعقبت عملية التحويل الواسعة المدى، قد مكنت من حفظ الكفاية الإنتاجية لهذه المؤسسات ودعمها.
إن ذلك كله إذ يؤكد تصميم الشعب على امتلاك مقدراته؛ يثبت فى الوقت نفسه مقدرة الشعب على توجيهها، واستعداده بالعناصر المخلصة من أبنائه لتحمل أصعب المسئوليات وأكثرها دقة. ومن المؤكد أن الإجراءات التى أعقبت قوانين يوليو الاشتراكية قد حققت بنجاح عملية تصفية كانت محتمة وضرورية، لقد تمت بعد أن بدت محاولة الانقضاض الرجعى على الثورة الاجتماعية عملية حاسمة لإزالة رواسب عهود الإقطاع والرجعية والتحكم. إن هذه العملية قطعت الطريق على كل محاولات التسلل والدوران من حول أهداف الشعب، ولحساب المصالح الخاصة للفئات التى حكمت وتحكمت من المراكز الطبقية الممتازة، ولقد أكدت هذه الإجراءات - الإجراءات يعنى الحراسة - أن الشعب قد عقد عزمه من غير تردد على رفض كل وضع استغلالى؛ سواء كان طبقية موروثة، أو كان طفيلية انتهازية.. على أنه من الواجب ألا يستقر فى أذهاننا أن الرجعية قد تم الخلاص منها إلى الأبد؛ إن الرجعية مازالت تملك من المؤثرات المادية والفكرية ما قد يغريها بالتصدى للتيار الثورى الجارف؛ خصوصاً فى اعتمادها على الفلول الرجعية فى العالم العربى، المسنودة من جانب قوى الاستعمار. إن اليقظة الثورية كفيلة - تحت كل الظروف - بسحق كل تسلل رجعى مهما كانت أساليبه، ومهما كانت القوى المساعدة له، وإنه لمن الأمور البالغة الأهمية أن تتخلص نظرتنا إلى التأميم من كل الشوائب التى حاولت المصالح الخاصة أن تلصقها به.
إن التأميم  ليس إلا انتقال أداة من أدوات الإنتاج من مجال الملكية الخاصة إلى مجال الملكية العامة للشعب، وليس ذلك ضربة للمبادرة الفردية كما ينادى أعداء الاشتراكية؛ وإنما هو توسيع لإطار المنفعة، وضمان لها فى الحالات التى تقتضيها مصلحة التحول الاشتراكى الذى يتم لصالح الشعب؛ كذلك فإن التأميم لا يؤدى إلى خفض الإنتاج، بل إن التجربة أثبتت قدرة القطاع العام على الوفاء بأكبر المسئوليات، وبأعظم قدر من الكفاية؛ سواء فى تحقيق أهداف الإنتاج أو فى رفع مستواه النوعى، وحتى إذا وقعت خلال عملية التحول الكبيرة بعض الأخطاء فلابد لنا أن ندرك أن الأيدى الجديدة التى انتقلت إليها المسئولية فى حاجة إلى المران على تحمل مسئولياتها، ولقد كان محتماً على أى حال أن تنتقل المصالح الكبرى الوطنية إلى الأيدى الوطنية، حتى وإن اضطررنا إلى مواجهة صعوبات مؤقتة، وليس التأميم - كما تنادى بعض العناصر الانتهازية - عقوبة تحل برأس المال الخاص حين ينحرف، ولا ينبغى بالتالى ممارسته فى غير أحوال العقوبة. إن نقل أداة من أدوات الإنتاج من مجال الملكية الفردية إلى مجال الملكية العامة أكبر من معنى العقوبة وأهم؛ على أن الأهمية الكبرى المعلقة على دور القطاع العام لا يمكن أن تلغى وجود القطاع الخاص.
إن القطاع الخاص له دوره الفعال فى خطة التنمية من أجل التقدم، ولابد له من الحماية التى تكفل له أداء دوره، والقطاع الخاص الآن مطالب بأن يجدد نفسه، وبأن يشق لعمله طريقاً من الجهد الخلاق، لا يعتمد - كما كان فى الماضى- على الاستغلال الطفيلى. إن الأزمة التى وقع فيها رأس المال الخاص قبل الثورة تنبع من واقع الأمر من كونه كان وارثاً لعهد المغامرين الأجانب؛ الذين ساعدوا على نزح ثروة مصر إلى خارجها فى القرن التاسع عشر. لقد تعود رأس المال الخاص أن يعيش وراء أسوار الحماية العالية التى كانت توفر له من قوت الشعب؛ كذلك تعود السيطرة على الحكم بغية التمكين له من مواصلة الاستغلال، ولقد كان عبئاً لا فائدة منه أن يدفع الشعب تكاليف الحماية؛ ليزيد أرباح حفنة من الرأسماليين، ليسوا - فى معظم الأحوال - غير واجهات محلية لمصالح أجنبية، تريد مواصلة الاستغلال من وراء الستار؛ كذلك فإن الشعب لم يكن بوسعه أن يقف مكتوف اليدين إلى الأبد أمام مناورات توجيه الحكم لصالح القلة المتحكمة فى الثروة، ولضمان احتفاظها بمراكزها الممتازة على حساب مصالح الجماهير.

إن التقدم بالطريق الاشتراكى هو تعميق للقوائم التى تستند إليها الديمقراطية السليمة، وهى ديمقراطية كل الشعب.إن صنع التقدم بالطريق الرأسمالى حتى وإن تصورنا إمكان حدوثه فى مثل الظروف العالمية القائمة الآن، لا يمكن من الناحية السياسية إلا أن يؤكد الحكم للطبقة المالكة للمصالح والمحتكرة لها. إن عائد العمل فى مثل هذا التصور يعود كله إلى قلة من الناس، يفيض المال لديها لدرجة أن تبدده فى ألوان من الترف الاستهلاكى يتحدى حرمان المجموع. إن ذلك معناه زيادة حدة الصراع الطبقى، والقضاء على كل أمل فى التطور الديمقراطى، لكن الطريق الاشتراكى بما يتيحه من فرص لحل الصراع الطبقى سلمياً، وبما يتيحه من إمكانية تذويب الفوارق بين الطبقات؛ يوزع عائد العمل على كل الشعب طبقاً لمبدأ تكافؤ الفرص.
إن الطريق الاشتراكى بذلك يفتح الباب للتطور الحتمى سياسياً؛ من حكم ديكتاتورية الإقطاع المتحالف مع رأس المال إلى حكم الديمقراطية الممثلة لحقوق الشعب العامل وآماله. إن تحرير الإنسان سياسياً لا يمكن أن يتحقق إلا بإنهاء كل قيد للاستغلال يحد حريته. إن الاشتراكية مع الديمقراطية هما جناحا الحرية، وبهما معاً تستطيع أن تحلق إلى الآفاق العالية التى تتطلع إليها جماهير الشعب.

البــاب السـابـع

الإنتاج والمجتمع

لقد مضى إلى غير رجعة ذلك الزمن الذى كان مصير الأمة العربية وشعوبها وأفرادها يتقرر فى العواصم الأجنبية، وعلى موائد المؤتمرات الدولية، أو فى قصور الرجعية المتحالفة مع الاستعمار.
إن الإنسان العربى قد استعاد حقه فى صنع حياته بالثورة.
إن الإنسان العربى سوف يقرر بنفسه مصير أمته على الحقول الخصبة، وفى المصانع الضخمة، ومن فوق السدود العالية، وبالطاقات الهائلة المتفجرة بالقوى المحركة.
إن معركة الإنتاج هى التحدى الحقيقى الذى سوف يثبت فيه الإنسان العربى مكانه الذى يستحقه تحت الشمس. إن الإنتاج هو المقياس الحقيقى للقوة الذاتية العربية تعويضاً للتخلف، واندفاعاً للتقدم، ومقدرة على مجابهة جميع الصعاب والمؤامرات والأعداء، وقهرهم جميعاً وتحقيق النصر فوق شراذمهم المندحرة. والهدف الذى وضعه الشعب المصرى أمام نفسه ثورياً بمضاعفة الدخل القومى، مرة على الأقل كل عشر سنوات، لم يكن مجرد شعار؛ وإنما كان حاصلاً صحيحاً لحساب القوة المطلوبة لمواجهة التخلف، والسبق إلى التقدم مع مراعاة التزايد فى عدد السكان.
إن مشكلة التزايد فى عدد السكان هى أكثر العقبات التى تواجه جهود الشعب المصرى فى انطلاقه نحو رفع مستوى الإنتاج فى بلاده بطريقة فعالة وقادرة، وإذا كانت محاولات تنظيم الأسرة بغرض مواجهة مشكلة تزايد السكان تستحق أصدق الجهود المعززة بالعلوم الحديثة؛ فإن ضرورة الاندفاع نحو زيادة الإنتاج بأقصى سرعة وكفاية ممكنة تحتم أن يحسب لهذا الأمر حسابه فى عملية الإنتاج؛ بصرف النظر عن الآثار التى يمكن أن تترتب على تجربة تنظيم الأسرة. إن مضاعفة الدخل كل عشر سنوات تسمح بنسبة نمو اقتصادى تتقدم بكثير على زيادة عدد السكان، وتسمح بفرصة حقيقية لرفع مستوى المعيشة؛ برغم هذه المشكلة المعقدة. إن مقدرة الشعب المصرى يجب أن توضع موضع الاختبار إيجابياً؛ بالتزامه هذا الهدف الذى ينبغى وضعه دائماً أمام النضال الوطنى، بل إن المقياس الحقيقى للإرادة الوطنية يرتبط ارتباطاً مباشراً باختصار مدة مضاعفة الدخل القومى إلى أقل من عشر سنوات، بكل المسافة التى يطيق الجهد الوطنى تحملها.
إن الوصول إلى ذلك الهدف ممكن بالتخطيط الاقتصادى والاجتماعى، ودونما تضحية بالأجيال الحية من المواطنين لمصلحة الأجيال التى لم تولد بعد. إن إمكانية تحقيق هذا الهدف لا تعتصر قواهم تحت ضغط المسئولية، وإنما كل الذى تتطلبه منهم هو العمل المنظم والأمين؛ فى إطار الأهداف الإنتاجية للخطة، وبوحى من الفكر الاجتماعى الذى يرسم لها طريقها إلى صنع المجتمع الجديد، وما يمكن لهذا الفكر أن يطوره من قيم أخلاقية جديدة ومعان إنسانية متفتحة للحياة، نابضة بها.
إن ذلك يتطلب جهوداً جبارة فى ميادين تطوير الزراعة والصناعة، وهياكل الإنتاج الأساسية اللازمة لهذا التطوير؛ وبالذات طاقات القوى المحركة ووسائل المواصلات.
إن التطبيق العربى للاشتراكية فى مجال الزراعة لا يؤمن بتأميم الأرض وتحويلها إلى مجال الملكية العامة، وإنما هو يؤمن استناداً إلى الدراسة وإلى التجربة بالملكية الفردية للأرض فى حدود لا تسمح بالإقطاع. إن هذه النتيجة ليست مجرد انسياق مع حنين الفلاحين العاطفى الطويل إلى ملكية الأرض؛ وإنما الواقع أن هذه النتيجة نبعت من الظروف الواقعية للمشكلة الزراعية فى مصر، والتى أكدت قدرة الفلاح المصرى على العمل الخلاق إذا ما توفرت له الظروف الملائمة.
إن كفاية الفلاح المصرى على امتداد تاريخ طويل عميق بالخبرات المكتسبة من التجربة قد وصلت فى قدرتها على استغلال الأرض إلى حد متقدم؛ خصوصاً إذا ما أتيحت له الفرصة للاستفادة من نتائج التقدم العلمى للزراعة، يضاف إلى ذلك أنه منذ عصور بعيدة فى التاريخ توصلت الزراعة المصرية إلى حلول اشتراكية صحيحة لأعقد مشاكلها؛ وفى مقدمتها الرى والصرف، وهما فى مصر الآن ومنذ زمان طويل فى إطار الخدمات العامة.
من هنا فإن الحلول الصحيحة لمشكلة الزراعة لا تكمن فى تحويل الأرض إلى الملكية العامة وإنما هى تستلزم وجود الملكية الفردية للأرض، وتوسيع نطاق هذه الملكية بإتاحة الحق فيها لأكبر عدد من الأجراء؛ مع تدعيم هذه الملكية بالتعاون الزراعى على امتداد مراحل عملية الإنتاج فى الزراعة من بدايتها إلى نهايتها.
إن التعاون الزراعى ليس هو مجرد الائتمان البسيط الذى لم يخرج التعاون الزراعى عن حدوده حتى عهد قريب، وإنما الآفاق التعاونية فى الزراعة تمتد على جبهة واسعة؛ إنها تبدأ مع عملية تجميع الاستغلال الزراعى الذى أثبتت التجارب نجاحه الكبير، وتساير عملية التمويل التى تحمى الفلاح وتحرره من المرابين، ومن الوسطاء الذين يحصلون على الجزء الأكبر من ناتج عمله، وتصل به إلى الحد الذى يمكنه من استعمال أحدث الآلات والوسائل العملية لزيادة الإنتاج، ثم هى معه حتى التسويق الذى يمكن الفلاح من الحصول على الفائدة العادلة تعويضاً عن عمله وجهده وكده المتواصل. إن المواجهة الثورية لمشكلة الأرض فى مصر كانت بزيادة عدد الملاك، لقد كان ذلك هو الهدف من قوانين الإصلاح الزراعى التى صدرت سنة ٥٢ وسنة ٦١؛ كذلك فإن هذا الهدف - فضلاً عن أهداف زيادة الإنتاج - كان من القوى الدافعة وراء مشاريع الرى الكبرى، والتى أصبح رمزها العتيد سد أسوان العالى؛ الذى خاض الشعب فى مصر صنوف الحروب المسلحة والاقتصادية والنفسية لكى يبنيه.. إن هذا السد أصبح رمزاً لإرادة الشعب وتصميمه على صنع الحياة، كما أنه رمز لإرادته فى إتاحة حق الملكية لجموع غفيرة من الفلاحين؛ لم تسنح لها هذه الفرصة عبر قرون طويلة ممتدة من الحكم الإقطاعى. إن نجاح هذه المواجهة الثورية لمشكلة الزراعة؛ هذه المواجهة القائمة على زيادة عدد الملاك لا يمكن تعزيزه إلا بالتعاون الزراعى، وإلا بالتوسع فى مجالاته إلى الحد الذى يكفل للملكيات الصغيرة للأرض اقتصاداً قوياً نشيطاً.
إن هناك بعد ذلك كله ثلاثة آفاق ينبغى أن تنطلق إليها معركة الإنتاج الجبارة من أجل تطوير الريف:
أولها: الامتداد الأفقى فى الزراعة عن طريق قهر الصحراء والبوار. إن عمليات استصلاح الأرض الجديدة لا يجب أن تتوقف ثانية واحدة، إن الخضرة يجب أن تتسع مساحتها مع كل يوم على وادى النيل، وينبغى الوصول إلى الحد الذى تصبح فيه كل قطرة من ماء النيل قادرة على التحول فوق ضفافه إلى حياة خلاقة لا تهدر هباء ولا تضيع. إن هناك اليوم كثيرين ينتظرون دورهم ليملكوا فى أرض وطنهم، والمستقبل يحمل مع كل جيل جديد أفواجاً من المتطلعين بحق إلى ملكية الأرض.
والثانى: هو الامتداد الرأسى فى الزراعة عن طريق رفع إنتاجية الأرض المزروعة. إن الكيمياء الحديثة قد لمست ثورياً طرق الزراعة وأساليبها؛ وذلك بواسطة الأسمدة والمبيدات الحشرية، واستنباط أنواع جديدة من البذور؛ كذلك فإن هناك احتمالات هائلة عن طريق العلم المنظم تمكن من تنمية الثروة الحيوانية؛ بما يمنح الاقتصاد الزراعى للفلاح تدعيماً محققاً؛ كذلك فإن هناك احتمالات كبيرة وراء إعادة دراسة اقتصاديات المحاصيل الزراعية للأرض المصرية، وتنويعها على أساس نتائج هذه الدراسة.
والثالث: إن تصنيع الريف اتصالاً بالزراعة يفتح فيه أبعاداً هائلة لفرص العمل، وينبغى أن نذكر دائماً أن الصناعة بالتقدم الآلى ليست فى مركز يسمح لها بامتصاص كل فائض الأيدى العاملة على الأرض الزراعية، وذلك فى الوقت الذى لم يعد فيه جدال فى أن حق العمل فى حد ذاته هو حق الحياة، من حيث هو التأكيد الواقعى لوجود الإنسان وقيمته؛ لذلك فإن مشكلة العمالة يجب أن تجد جزءاً من حلولها فى الريف ذاته وتصنيع الريف، فضلاً عن قدرته على رفع قيمة الإنتاج الزراعى؛ يعزز العناصر العاملة فى الحقول بقوى جديدة من العمال الفنيين العاملين فى خدمة الإنتاج الزراعى فى جميع مراحله.
إن تطوير عملية الإنتاج فى الريف سوف يساعد فى نفس الوقت على إيجاد القوى البشرية المنظمة التى تستطيع بدورها تغيير شكل الحياة فيه تغييراً ثورياً حاسماً. إن التعاون سوف يخلق المنظمات التعاونية القادرة على تحريك الجهود الإنسانية فى الريف لمواجهة مشاكله؛ كذلك نقابات العمال الزراعيين سوف تكون قادرة على تجنيد جهود الملايين الذين ضيعتهم البطالة المقنعة، وأهدرت بالسلبية طاقاتهم. إن هذه القوى هى الخلايا التى تستطيع أن تنسج خيوط الحياة فى الريف من جديد، وتصنع منها قماشاً حضارياً يقرب القرية إلى مستوى المدينة. إن وصول القرية إلى المستوى الحضرى ليس ضرورة عدل فقط؛ ولكنه ضرورة أساسية من ضروريات التنمية.إن المدينة مسئولة مسئولية ضمير ومصير عن العمل الجاد فى القرية؛ من غير تعال عليها، ومن غير خيلاء. إن وصول القرية إلى مستوى المدينة الحضارى وخصوصاً من الناحية الثقافية سوف يكون بداية الوعى التخطيطى لدى الأفراد؛ وهو الوعى الذى يقدر على مواجهة أصعب المشاكل التى تعترض التنمية وتهددها؛ وهى مشكلة تزايد عدد السكان. إن الإدراك العميق لضرورة التخطيط فى حياة الفرد سوف يكون هو الحل الحاسم لمشكلة تزايد السكان، وهو الذى يغير من حالة الاستسلام القدرى حيالها، ويضع مكانها الشعور بالمسئولية وإقامة الاقتصاد العائلى على أساس من الحساب.
إن الصناعة هى الدعامات القوية للكيان الوطنى، وهى القادرة على الوفاء بأعظم الآمال فى التطوير الاقتصادى والاجتماعى، والصناعة هى الطاقة الخلاقة التى تستطيع أن تتجاوب مع التخطيط الواعى المدروس، وتفى ببرامجه دونما عوائق غير منظورة تصعب السيطرة عليها، ومن ثم فهى القادرة فى أسرع وقت على توسيع قاعدة الإنتاج توسيعاً ثورياً حاسماً.
إن اتجاهنا إلى الصناعة يجب أن يكون واعياً، وأن يأخذ فى اعتباره جميع النواحى الاقتصادية والاجتماعية فى معركة التطوير الكبرى.
ومن الناحية الاقتصادية:
ينبغى أن يكون اتجاهنا إلى آخر ما وصل إليه العلم. إن حصولنا على أدوات العمل الجديدة المتقدمة لا يكفل لنا مجرد نقطة بداية سليمة؛ وإنما هو يكفل أيضاً تعويضاً عن التخلف، ويعطى الصناعة المصرية - بالجديد الذى تأخذ به - مركز امتياز يعوض التقدم الصناعى الذى بدأ فيه غيرنا، فى وقت لم تكن آلات الإنتاج قد وصلت فيه إلى ما هى عليه الآن من تفوق، وينبغى فى هذا المجال أن يطرح الرأى القائل بأن استخدام الآلات الحديثة سوف لا يفتح المجال كاملاً للعمالة؛ باعتبار أن هذه الآلات الحديثة - خصوصاً بالتقدم الذى وصلت إليه - لا تحتاج إلى قوة عمل واسعة، إن ذلك الرأى قد يكون صحيحاً فى المدى القريب، ولكن أثره يتلاشى تماماً فى المدى الطويل؛ فإن الآلات الحديثة قادرة بسرعة على توسيع قاعدة الإنتاج، وهذا هو الذى يكفل بدوره غزو الآفاق الجديدة فى التصنيع؛ وبالتالى يتيح فرصاً أوسع للعمالة.
إن مجالات العمل الصناعى فى مصر ليست لها حدود. إن الصناعة المصرية تقدر أن تمد العمل المبدع الخلاق إلى أقاصى الأرض المصرية. إن مصادر الثروة الطبيعية والمعدنية لازالت تحتفظ بالكثير من أسرارها، ولقد طال إهمال مساحات شاسعة من الأرض، لم تزد الجهود التى وجهت إليها حتى الآن عن مجرد خدوش على سطحها. إن العمل العلمى الصناعى وحده هو القادر على أن يجعل الأرض المصرية تبوح بكل أسرارها، وتفيض بما فى باطنها من ثروات طبيعية ومعدنية لخدمة التقدم. إن هذه المصادر تستطيع أن تكون عموداً فقرياً للصناعة الثقيلة القادرة بدورها على خلق أدوات الإنتاج الجديدة، وإن أهمية خاصة يجب أن توجه إلى الصناعات الثقيلة؛ فبها يمكن أن يوضع الأساس الحقيقى الذى تقوم عليه الصناعة الحديثة.
إن المواد الخام من الزراعة أو من المناجم لابد لها من عمليات التصنيع المحلية التى تكسبها قيمة مضافة فى الأسواق، وهى بذلك تعزز قدرة الإنتاج الصناعى؛ كما أنها تفتح أبواباً واسعة للعمالة؛ كذلك فإن الاهتمام الكبير يجب أن يصل إلى الصناعات الاستهلاكية. إن هذه الصناعات فضلاً عما تفتحه من أبواب كثيرة للعمل تسد جزءاً هاماً فى مطالب الاستهلاك، وتوفر مصادر قيمة من النقد الأجنبى؛ ثم هى تتيح فى الوقت الحاضر فرصة للتوسع فى التصدير إلى أسواق قريبة منا، لم نصل فيها بعد إلى مركز المنافسة فى الصناعات الثقيلة على المستوى العالمى، والصناعات الغذائية فى ظل الصناعات الاستهلاكية تقدر أكثر من أى سبيل آخر على تدعيم اقتصاديات الريف؛ كذلك فإن فيها احتمالات كثيرة لأسواق فى الدول المتقدمة التى يرتفع فيها الطلب الاستهلاكى بارتفاع مستوى المعيشة فيها، وبصورة شاملة فإن الصناعة يجب أن تضع فى برامجها تصنيع كل ما تقدر على تصنيعه من المواد الخام؛ تصنيعاً جزئياً أو تصنيعاً كاملاً؛ فإن ذلك يحقق أكبر الأهداف من عملية التطوير، إنه يحقق زيادة الإنتاج ويحقق مواجهة مطالب الاستهلاك؛ كما أنه يفتح الفرص للأيدى القادرة على العمل، والتى تطلبه كحق إنسانى مقدس، وفى نفس الوقت فهو مصدر للنقد الأجنبى الذى يواجه المطالب المتزايدة لمعركة التطوير.
ومن الناحية الاجتماعية؛ فإن الصناعة مسئولة عن إقامة التوازن الإنسانى الذى لابد منه بين مطالب الإنتاج واحتياجات الاستهلاك. إن الفلسفة التى قامت عليها سياسة التصنيع فى مصر حققت هذا الهدف بالتوازن الذى أقامته بين الاتجاه إلى الصناعة الثقيلة، وبين الاتجاه إلى الصناعات الاستهلاكية. إن الصناعة الثقيلة هى دون شك القاعدة الثابتة للكيان الصناعى الشامخ، لكن بناء الصناعات الثقيلة مع الأولوية المحققة التى يجب أن تمنح له، لا يجب أن يوقف التقدم نحو الصناعات الاستهلاكية.
إن حرمان جماهير شعبنا طال مداه، وتجنيدها تجنيداً كاملاً لبناء الصناعة الثقيلة، وإغفال مطالبها الاستهلاكية؛ يتنافى مع حقها الثابت فى تعويض حرمانها الطويل، ثم هو يعطل - من غير مبرر حقيقى - إمكانيات الوفاء بتطلعاتها المتسعة، ومن ناحية أخرى فإن الصناعة تطور شكل العمل فى مصر تطويراً ثورياً بعيد الأثر، وإن النجاح العظيم الذى حققته الصناعة منذ بدأت برامجها المنظمة فى مصر؛ كان السند العملى للحقوق الثورية التى حصلت عليها الطبقة العاملة ضمن قوانين يوليو سنة ١٩٦١.
إن هذه الحقوق الثورية جعلت الآلات ملكاً للعمل، ولم تجعل العمل ملكاً للآلات. لقد أصبح العامل هو سيد الآلة، ولم يعد أحد التروس فى جهاز الإنتاج. إن هذه الحقوق الثورية كفلت حداً أدنى للأجور، واشتراكاً إيجابياً فى الإدارة، يصاحبه اشتراك حقيقى فى أرباح الإنتاج؛ وذلك فى ظل ظروف للعمل تكفل الكرامة للإنسان العامل؛ وعلى هذا الأساس فقد أصبح يوم العمل هو سبع ساعات.
إن ذلك التغيير الثورى فى الحقوق العمالية لابد أن يقابله تغيير ثورى فى الواجبات العمالية، إن مسئولية العمل يجب أن تكون كاملة عن أدوات الإنتاج التى وضعها المجتمع كله تحت إرادته. لقد أصبحت مسئولية العمل بأدوات الإنتاج التى يتولى الحفاظ عليها وتشغيلها بكفاية وأمان، وبالاشتراك فى الإدارة والأرباح مسئولية كاملة فى عملية الإنتاج. إن ذلك الوضع الجديد لا يلغى دور التنظيمات العمالية، وإنما هو يزيد من أهمية دورها.. إنه يمد هذا الدور ويوسعه من مجرد كونها طرفاً مقابلاً لطرف الإدارة فى عملية الإنتاج إلى الحد الذى يجعل منها قائدة طليعية فى عملية التطوير.
إن النقابات العمالية تستطيع ممارسة مسئولياتها القيادية عن طريق الإسهام الجدى فى رفع الكفاية الفكرية والفنية؛ ومن ثم رفع الكفاية الإنتاجية للعمال، كذلك هى تستطيع ممارسة مسئولياتها عن طريق صيانة حقوق العمال ومصالحهم، ورفع مستواهم المادى والثقافى، ويدخل فى ذلك اهتمامها بمشروعات الإسكان التعاونى والاستهلاك التعاونى وتنظيم الاستفادة المجدية صحياً ونفسياً وفكرياً من أوقات الفراغ والإجازات؛ بما يساهم فى تحقيق الرفاهية للجموع العاملة.
إن مكانة العمال فى المجتمع الجديد لم يعد لها الآن من مقياس غير إنجاح عملية التطوير الصناعى، وغير طاقتهم على العمل من أجل هذا الهدف، وغير كفايتهم فى الوصول إليه. إن التوسع فى طاقات القوى المحركة، وفى إقامة هياكل الإنتاج الرئيسية؛ هو أساس الانطلاق نحو الأهداف الجديدة للإنتاج فى الزراعة وفى الصناعة معاً.
إن وصول القوى المحركة إلى كل مكان فى مصر هو شرارة الثورة القادرة على تحريك طاقات التغيير الجذرى اقتصادياً واجتماعياً؛ من التخلف الذى كان إلى التقدم الذى يتطلع إليه النضال الوطنى. إن الوطن كله ينبغى أن تغطيه بكفاية شبكات السكك الحديدية والطرق والمطارات؛ فإن سهولة المواصلات ويسرها، تستطيع أن تقوم بالمعجزات فى تحقيق الوحدة الإنتاجية فى الوطن؛ ومن ثم تؤدى إلى وحدة الرخاء على أرضه، دون عزلة تفرض على أجزاء منه. إن اهتماماً خاصاً يجب أن يوجه إلى الصناعات البحرية فى بلد يقع فى قلب العالم البحرى، ويطل على أعظم بحاره أهمية من نواحى الاقتصاد والسياسة وهما البحران الأبيض والأحمر. إن احتياجات الإنتاج الصناعى فى جميع النواحى تفتح إمكانيات كبيرة لرأس المال الوطنى غير المستغل لكى يقوم بجانب القطاع العام بدور هام ومسئول فى عملية الإنتاج كلها، بل إن استمرار دور القطاع الخاص بجانب القطاع العام يزيد من فعاليات الرقابة على الملكية الشعبية العامة، ويقوم بدور عامل منشط لها؛ بما يفتحه من مجالات المنافسة الحرة فى إطار التخطيط الاقتصادى العام.

إن قوانين يوليو الثورية العظيمة سنة ٦١ لم تكن تستهدف القضاء على القطاع الخاص؛ وإنما كان لها هدفان أساسيان:الهدف الأول: خلق نوع من التكافؤ الاقتصادى بين المواطنين، يحقق العدل المشروع، ويقضى على آثار احتكار الفرصة للقلة على حساب الكثرة، ويساهم فى الوقت نفسه فى عملية تذويب الفوارق بين الطبقات، بما يعزز احتمالات الصراع السلمى بينها، ويفتح الأبواب للحلول الديمقراطية للمشاكل الكبرى التى تواجه عملية التطوير.
والهدف الثانى: زيادة كفاءة القطاع العام الذى يملكه الشعب، وتعزيز قدرته على تحمل مسئولية التخطيط، وتمكينه من دوره القيادى فى عملية التطوير الصناعى على الأساس الاشتراكى.
إن هذين الهدفين قد تحققا بنجاح رائع يؤكد قوة الدفع الثورى، كما يؤكد عمق الوحدة الوطنية. إن تحقق هذين الهدفين يزيل بقايا العقد التى صنعها الاستغلال الذى ألقى ظلالاً من الشك على دور القطاع الخاص؛ وبالتالى فإن الطريق أمام هذا القطاع الآن لا تقيده غير القوانين الاشتراكية المعمول بها وحدها الآن، أو ما قد تراه السلطات الشعبية المنتخبة مستقبلاً من خطوات لازمة لدفع عملية التطوير.
إن الحدود الاشتراكية التى تم رسمها بدقة فى قوانين يوليو قد قضت على آثار الاستغلال، وتركت الباب مفتوحاً للاستثمار الفردى الذى يخدم المصلحة العامة للتطوير؛ كما يخدم مصلحة أصحابه فى الربح المشروع بدون استغلال. إن الذين يتصورون أن قوانين يوليو قد قيدت المبادرة الفردية يقعون فى خطأ كبير. إن المبادرة الفردية يجب أن تكون قائمة على العمل، وعلى المخاطرة، وما كان قائماً فى الماضى كان يعتمد على الإنتاج قبل العمل، وعلى حماية الاحتكار التى تنفى كل احتمال للمخاطرة؛ وهى الحجة التى يستند إليها رأس المال الفردى فى نصيبه من الربح، ومن ناحية أخرى فإن المبادرة الفردية بالطريقة التى كانت قائمة بها لم تكن تقدر على مسئوليات الأمان الوطنية.
إن الاستثمارات الجديدة التى توجه الآن للصناعة تساوى أكثر من مائة مرة ما كان يوجه منها فى سنوات ما قبل الثورة. إن إعادة توزيع الثروة لا تعرقل طريق التنمية؛ وإنما هى تنشطها من حيث هى تزيد عدد القادرين على الاستثمار. إن رأس المال الفردى فى دوره الجديد يجب أن يعرف أنه خاضع لتوجيه السلطة الشعبية؛ شأنه فى ذلك شأن رأس المال العام، وإن هذه السلطة هى التى تشرع له، وهى التى توجهه على ضوء احتياجات الشعب، وإنها قادرة على مصادرة نشاطه إذا ما حاول أن يستغل أو ينحرف، إنها على استعداد لأن تحميه، ولكن حماية الشعب واجبها الأول.
إن رأس المال الأجنبى ودوره فى الاستثمار المحلى أمر يمكن الاستطراد إليه فى هذه المرحلة. إن رأس المال الأجنبى تحيط به فى نظر الدول المتخلفة - خصوصاً تلك التى كانت مستعمرات فيما مضى - سحب من الشكوك والريب المظلمة. إن سيادة الشعب على أرضه واستعادته لمقدرات أموره تمكنه من أن يضع الحدود التى يستطيع فى ظلالها أن يسمح لرأس المال الأجنبى بالعمل فى بلاده. إن الأمر يتطلب وضع أولويات هى فى الواقع من خلاصة التجربة الوطنية؛ كما أنها تأخذ فى الاعتبار طبيعة رأس المال العالمى، الذى يفضل دائماً أن يجرى وراء الموارد الخام البكر؛ فى مناطق لم تتهيأ للنهوض الاقتصادى والاجتماعى؛ حيث يستطيع فى ظروفها أن يحصل على أعلى نسبة من الفائدة؟
من هنا فإن التطوير الوطنى فى الدرجة الأولى يقبل كل المعونات الأجنبية غير المشروطة التى تساعده على تحقيق أهدافه وهو يقبلها بكل العرفان الصادق لمقدميها، مهما كانت ألوان أعلامهم، وفى الدرجة الثانية فإن التطوير الوطنى يقبل كل القروض غير المشروطة التى يستطيع أن يفى بها دون عنت أو إرهاق، والخروج بالتجربة طريقة واضحة فى حدودها؛ فإن مشكلتها تنتهى تماماً بعد سدادها وبعد سداد الفوائد المستحقة عليها، والتطوير الوطنى فى الدرجة الثالثة مستعد للقبول باشتراك رأس المال الأجنبى فى أوجه نشاطه الوطنى كمستثمر؛ على أن يكون ذلك فى العمليات الضرورية خصوصاً تلك التى تقتضى خبرات جديدة يصعب توفرها فى المجال الوطنى.
إن قبول استثمارات أجنبية معناه القبول باشتراك أجنبى فى إدارتها، ومعناه القبول بتحويل جزء من أرباحها سنوياً وإلى غير حد إلى المستثمرين؛ وذلك أمر يجب ألا يترك على إطلاقه. إن الأولوية الأولى للمعونات غير المشروطة، والمكانة الثانية للقروض غير المشروطة، ثم يأتى دور القبول بالاستثمار الأجنبى فى الأحوال التى لا مفر فيها من قبوله؛ فى النواحى التى تتطلب خبرات عالمية فى مجالات التطوير الحديث.
إن شعبنا فى نظرته الثورية الواعية يعتبر أن المساعدات الأجنبية واجب على الدول السابقة فى التقدم؛ نحو تلك التى مازالت تناضل للوصول، بل إن شعبنا فى إدراكه لعبرة التاريخ يرى أن الدول ذات الماضى الاستعمارى ملزمة أكثر وأكثر من غيرها بأن تقدم للدول المتطلعة إلى النمو بعض ما نزحته من ثروتها الوطنية؛ أيام كانت هذه الثروة نهباً مباحاً للطامعين.
إن تقديم المساعدات واجب اختيارى على الدول المتقدمة، وهو أقرب ما يكون إلى الضريبة الواجبة السداد على الدول ذات الماضى الاستعمارى؛ تعوض به الذين استغلتهم عن طول استغلالها لهم. ولابد أن تكون هذه الرعاية فى متناول كل مواطن فى كل ركن من الوطن؛ فى ظروف ميسرة وقادرة على الخدمة، ولابد من التوسع فى التأمين الصحى حتى يظل بحمايته كل جموع المواطنين.
ثانياً: حق كل مواطن فى العلم بقدر ما يتحمل استعداده ومواهبه. إن العلم طريق تعزيز الحرية الإنسانية وتكريمها؛ كذلك فإن العلم هو الطاقة القادرة على تجديد شباب العمل الوطنى، وإضافة أفكار جديدة إليه كل يوم، وعناصر قائدة جديدة فى ميادينه المختلفة.
ثالثها: حق كل مواطن فى عمل يتناسب مع كفايته واستعداده، ومع العلم الذى تحصل عليه. إن العمل فضلاً عن أهميته الاقتصادية فى حياة الإنسان تأكيد للوجود الإنسانى ذاته، ومن المحتم فى هذا المجال أن يكون هناك حد أدنى للأجور يكفله القانون؛ كما أن هناك بحكم العدل حداً أعلى للدخول تتكفل به الضرائب.
رابعها: إن التأمينات ضد الشيخوخة وضد المرض لابد من توسيع نطاقها؛ بحيث تصبح مظلة واقية للذين أدوا دورهم فى النضال، وجاء الوقت الذى يجب أن يضمنوا فيه حقهم فى الراحة المكفولة بالضمان.
إن الطفولة هى صانعة كل المستقبل، ومن واجب الأجيال العاملة أن توفر لها كل ما يمكن لها من تحمل مسئولية القيادة بنجاح.
إن المرأة لابد أن تتساوى بالرجل، ولابد أن تسقط بقايا الأغلال التى تعوق حركتها الحرة حتى تستطيع أن تشارك بعمق وإيجابية فى صنع الحياة.
إن الأسرة هى الخلية الأولى للمجتمع، ولابد أن تتوافر لها كل أسباب الحماية التى تمكنها من أن تكون حافظة للتقاليد الوطنية مجددة لنسيجه، متحركة بالمجتمع كله ومعه إلى غايات النضال الوطنى. إن مجتمع الرفاهية قادر على أن يصوغ قيماً أخلاقية جديدة لا تؤثر عليها القوى الضاغطة المتخلفة من العلل التى عانى منها مجتمعنا زماناً طويلاً؛ كذلك فإن هذه القيم لابد لها أن تعكس نفسها فى ثقافة وطنية حرة؛ تفجر ينابيع الإحساس بالجمال فى حياة الإنسان الفرد الحر.
إن حرية العقيدة الدينية يجب أن تكون لها قداستها فى حياتنا الجديدة الحرة. إن القيم الروحية الخالدة النابعة من الأديان قادرة على هداية الإنسان، وعلى إضاءة حياته بنور الإيمان، وعلى منحه طاقات لا حدود لها من أجل الحق والخير والمحبة. إن رسالات السماء كلها فى جوهرها كانت ثورات إنسانية استهدفت شرف الإنسان وسعادته، وإن واجب المفكرين الدينيين الأكبر هو الاحتفاظ للدين بجوهر رسالته، إن جوهر الرسالات الدينية لا يتصادم مع حقائق الحياة، وإنما ينتج التصادم فى بعض الظروف من محاولات الرجعية، أن تستغل الدين ضد طبيعته وروحه لعرقلة التقدم، وذلك بافتعال تفسيرات له تتصادم مع حكمته الإلهية السامية، لقد كانت جميع الأديان ذات رسالة تقدمية، ولكن الرجعية التى أرادت احتكار خيرات الأرض لمصالحها وحدها أقدمت على جريمة ستر مطامعها بالدين، وراحت تلتمس فيه ما يتعارض مع روحه ذاتها لكى توقف تيار التقدم.
إن جوهر الأديان يؤكد حق الإنسان فى الحرية وفى الحياة، بل إن أساس الثواب والعقاب فى الدين هو فرصة متكافئة لكل إنسان، إن كل بشر يبدأ حياته أمام خالقه الأعظم بصفحة بيضاء يخط فيها أعماله باختياره الحر، ولا يرضى الدين بطبقية تورث عقاب الجهل والفقر والجهل والمرض لغالبية الناس، وتحتكر ثواب الخير لقلة منهم، إن الله - جلت حكمته - وضع الفرصة المتكافئة أمام البشر أساساً للعمل فى الدنيا وللحساب فى الآخرة، وينبغى لنا أن نذكر دائماً أن حرية الإنسان الفرد هى أكبر حوافزه على النضال، إن العبيد يقدرون على حمل الأحجار، وأما الأحرار فهم وحدهم القادرون على التحليق إلى آفاق النجوم، إن الإقناع الحر هو القاعدة الصلبة للإيمان، والإيمان بغير الحرية هو التعصب، والتعصب هو الحاجز الذى يصد كل فكر جديد ويترك أصحابه بمنأى عن التطور المتلاحق الذى تدفعه جهود البشر فى كل مكان.
إن الحرية وحدها هى القادرة على تحريك الإنسان إلى ملاحقة التقدم وعلى دفعه، والإنسان الحر هو أساس المجتمع الحر وهو بنائه المقتدر، إن حرية كل فرد فى صنع مستقبله وفى تحديد مكانه فى المجتمع، وفى التعبير عن رأيه، وفى إسهامه الإيجابى فى قيادة التطور وتوجيهه بكل فكرة وتجربته وأمله، حقوق أساسية للإنسان، ولابد أن تصونها له القوانين، ولابد أن يستقر فى إدراكنا أن القانون فى المجتمع الحر خادم للحرية وليس سيفاً مسلطاً عليها، كذلك لابد أن يستقر فى إدراكنا أنه لا حرية للفرد بغير تحريره أولاً من براثن الاستغلال، إن ذلك هو الأساس الذى يجعل الحرية الاجتماعية مدخلاً إلى الحرية السياسية بل هى مدخلها الوحيد.
إن القضاء على الاستغلال والتمكين للحق الطبيعى فى الفرصة المتكافئة وتذويب الفوارق بين الطبقات وإنهاء سيطرة الطبقة الواحدة، ومن ثم إزالة التصادم الطبقى الذى يهدد الحرية الفردية للإنسان المواطن، بل يهدد الحرية الكاملة للوطن كله بأن يفتح من الثغرات فى صفوف الشعب ما يتيح الفرصة للأخطار الخارجية المتربصة بالوطن، تريد أن تجره إلى ميادين الحرب الباردة، وتجعل أرضه مسرحاً لها، وتجعل من شعبه وقوداً للنار، إن إزالة التصادم الطبقى الناشىء عن المصالح التى لا يمكن أن تتلاقى على الإطلاق بين الذين فرضوا الاستغلال، وبين الذين اعتصرهم الاستغلال فى المجتمع القديم لا يمكن أن يحقق تذويب الفوارق مرة واحدة، ولا يمكن أن يفتح الباب للحرية الاجتماعية والديمقراطية السليمة بين يوم وليلة، ولكن إزالة هذا التصادم بإزالة الطبقة التى فرضت الاستغلال يوفر إمكانية السعى إلى تذويب الفوارق بين الطبقات سلمياً، ويفتح أوسع الأبواب للتبادل الديمقراطى الذى يقترب بالمجتمع كله من عصر الحرية الحقيقية، لقد كان ذلك هو أحد الأهداف الاجتماعية العظيمة التى سعت إليها قوانين يوليو، ووجهت من أجله ضربتها الهائلة إلى مراكز الاستغلال والاحتكار، إن هذا العمل الثورى العظيم جعل إمكانية الديمقراطية السليمة أمراً قابلاً للتحقيق لأول مرة فى مصر.
إن الكلمة الحرة ضوء كشاف أمام الديمقراطية السليمة، وبنفس المقدار فإن القضاء الحر ضمان نهائى وحاسم لحدودها، إن حرية الكلمة هى المقدمة الأولى للديمقراطية، وسيادة القانون هى الضمان الأخير لها، وحرية الكلمة هى التعبير عن حرية الفكر فى أى صورة من صوره، كذلك فإن حرية الصحافة وهى أبرز مظاهر حرية الكلمة، يجب أن تتوافر لها كل الضمانات.

إن الديمقراطية السليمة بمفهومها العميق تزيل التناقض بين الشعب وبين الحكومة حين تحولها إلى أداة شعبية، ولكن الصحافة الحرة يجب أن تكون رقيباً أميناً على أداء الإرادة الشعبية شأنها فى ذلك شأن المجالس النيابية، كذلك فإن سيادة القانون تتطلب منا الآن تطويراً واعياً لمواده ونصوصه؛ بحيث تعبر عن القيم الجديدة فى مجتمعنا، إن كثيراً من المواد التى مازالت تحكم علاقاتنا الاجتماعية قد جرت صياغتها فى جو اجتماعى مختلف، وإن أول ما يعزز سلطان القانون هو أن يستمد حدوده من أوضاع المجتمع المتطورة، إن القانون أيضاً وهو فى حد ذاته صورة من صور الحرية لابد أن يسايرها فى اندفاعها إلى التقدم، ولا يجب أن تكون مواده قيوداً تصد القيم الجديدة فى حياتنا.إن الطريق إلى الحرية قد أصبح مفتوحاً من غير حواجز ولا عوائق، إن هذا المجتمع الجديد الذى يبنيه الشعب العربى فى مصر على دعائم الكفاية والعدل، يحتاج إلى درع واق فى عالم لم تصل مبادؤه الأخلاقية إلى مستوى تقدمه العقلى.
إن دور القوات المسلحة فى الجمهورية العربية المتحدة هو أن تحمى عملية بناء المجتمع من الأخطار الخارجية، كما أنه يتعين عليها أن تكون مستعدة لسحق كل محاولة استعمارية رجعية تريد أن تمنع الشعب من الوصول إلى آماله الكبرى من أجل ذلك فإن الشعب يمنح قواته المسلحة ما يجعلها دائماً فى وضع الاستعداد وفى مكان القوة، وفى الموضع الذى تتمكن منه دائماً أن تخدم أمانيه بالولاء المطلق، وبالإخلاص المتفانى.
إن القوات المسلحة للجمهورية العربية المتحدة يجب أن تملك تفوقاً حاسماً فى البر والبحر والجو، قادراً على الحركة.. قادراً على الحركة السريعة فى إطار المنطقة العربية التى تقع مسؤولية سلامتها فى الدرجة الأولى على القوات المسلحة للجمهورية العربية المتحدة، كذلك فإن هذه القوات لابد لها فى تسليحها أن تساير التقدم العلمى الحديث، وأن تملك من الأسلحة الرادعة ما يكبح جماح القوى الطامعة، ويقدر على هزيمتها إذا ما تحركت بالعدوان، وليس من شك فى أن التقدم الذاتى هو فى جوهره أعظم أنواع الدفاع عن النفس ضد الأخطار المتربصة، لكن علينا أن ندرك أننا نعيش فى منطقة مفتوحة للأطماع الباغية، وأن من أول أهداف أعدائنا أن يحولوا دون بلوغنا مرحلة القوة الذاتية المحققة للتقدم حتى نظل دائماً تحت رحمة التهديد.
إن الجمهورية العربية بالذات طليعة النضال العربى التقدمى، وقاعدته وقلعته المحاربة، هى الهدف الطبيعى لجميع أعداء الأمة العربية وأعداء تقدمها، إن قوى الاستعمار العالمى تسعى إلى هدف ثابت هو وضع الأرض العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج تحت سيطرتها العسكرية حتى تتمكن من مواصلة استغلالها ونهب ثرواتها، ولقد وصل التآمر الاستعمارى إلى حد انتزاع قطعة من الأرض العربية فى فلسطين قلب الوطن العربى، واغتصابها دونما سند من حق أو قانون لصالح إقامة فاشستية عسكرية لا تعيش إلا بالتهديد العسكرى الذى يستمد أخطاره الحقيقية من كون إسرائيل أداة للاستعمار، والجمهورية العربية المتحدة بالتاريخ وبالواقع، هى الدولة العربية الوحيدة فى الظروف الحالية التى تستطيع تحمل مسؤولية بناء جيش وطنى يكون بمثابة القوة الرادعة للخطط العدوانية الاستعمارية الصهيونية.
إن مواصلة الزحف الشعبى نحو التقدم الاقتصادى والاجتماعى يجعل إقامة الجيش الوطنى درعاً حقيقياً للنضال، وليس مجرد قشرة سطحية تغطى خطوط الحدود، إن فعالية الجيوش الوطنية تكمن فى القوة الوطنية الاقتصادية والاجتماعية، فإن التقدم هو المستودع العظيم الذى يمد أداة القتال باحتياجاتها المادية والبشرية التى تتمكن من رد التحدى وإحراز النصر وتعزيزه، ويجب أن يكون نصب أعيننا دائماً ألا تطغى احتياجات الدفاع على احتياجات التنمية، إن الدفاع إذا لم تعززه التنمية لا يقدر على الصمود الطويل للمعركة الممتدة، لكن التنمية الاقتصادية والاجتماعية هى القلب الذى يغذى اليد الضاربة للأمة بأسباب القوة والثبات، ويمكنها من توجيه الضربات القاضية إلى العدو مهما طالت المعركة.
إن مجتمعنا يؤمن أن الحرية للوطن وللمواطن تتوافر قبل كل شىء بالسلام القائم على العدل، ولكن مجتمعنا مطالب إلى الوقت الذى تستقر فيه مبادؤه العظيمة وتسود على العالم الذى يعيش فيه أن يكون مستعداً باستمرار من أجل حرية الوطن والمواطن أن يدعم السلام بالقوة.

البــاب الثـامـن

مع التطبيق الاشتراكى ومشاكله

إن العمل الإنسانى الخلاق هو الوسيلة الوحيدة أمام المجتمع لكى يحقق أهدافه، العمل شرف، والعمل حق، والعمل واجب، والعمل حياة.
إن العمل الإنسانى هو المفتاح الوحيد للتقدم.
إن طبيعة العصر لم تعد تقبل وسيلة للأمل غير العمل الإنسانى، لقد استطاعت مجتمعات أخرى فى قرون سابقة أن تحقق انطلاقها بتوفير الاستثمارات للتنمية الوطنية عن طريق نهب أموال المستعمرات، واستغلال ثروات الشعوب وتسخيرها للعمل العبودى من أجل غيرها.
وفى مجتمعات أخرى تحقق الانطلاق تحت ظروف سخرت فيها الطبقة العاملة بطريقة تتنافى مع الإنسانية لصالح الاحتكارات الرأسمالية الوطنية أو الأجنبية، وكذلك تحققت فى تجارب أخرى تحت ضغط بالغ القسوة على الأجيال الحية سلبها كل ثمار عملها من أجل الغد الموعود الذى لم تستطع أن تراه، أو وصلت إليه وهى تحمل على قلبها أقفالاً من الكبت النفسى، وتؤرق خيالاتها أشباح من الإرهاب والطغيان.
إن طبيعة العصر لا تحتمل ذلك كله الآن، إن البشرية تنبهت إلى شرور الاستعمار ونذرت نفسها للقضاء عليه، والطبقة العاملة لا يمكن أن تساق بالسخرة إلى تحقيق أهداف الإنتاج، والطاقات المبدعة للشعوب تستطيع أن تصنع الغد دون أن تساق إليه بحمامات الدم الجماعية.
إن التقدم العلمى يجعل الوصول إلى الانطلاق بغير هذه الوسائل البالية كلها أمراً ممكناً وقابلاً للتحقيق، كذلك فإن طبيعة العصر ومثله العليا تجعل استعمال مثل هذه الوسائل القديمة أمراً مستحيل الحدوث.
إن العمل الوطنى المنظم القائم على التخطيط العلمى هو طريق الغد، إن العمل الوطنى على أساس الخطة لابد أن يكون محدداً أمام أجهزة الإنتاج على جميع مستوياتها، بل إن مسؤولية كل فرد فى هذا العمل يجب أن تكون واضحة أمامه حتى يستطيع أن يعرف فى أى وقت من الأوقات مكانه فى العمل الوطنى، إن ذلك يقتضى أن تتحول الخطة الشاملة فى أهدافها الاقتصادية والاجتماعية إلى برامج تفصيلية تكون فى متناول يد أجهزة الإنتاج، إن ذلك يقتضى ربط الإنتاج كماً ونوعاً بحدود زمنية تلتزم بها القوى المنتجة على أن تتم العملية كلها فى إطار الاستثمارات المخصصة.
إن الكم والنوع فى عملية الإنتاج لا يمكن فصلها عن حساب الزمن وحساب التكلفة، وإلا أفلت التوازن الحيوى لعملية الإنتاج وتعرضت للأخطار، والأمر كذلك أيضاً فى برامج الخدمات، إن وعى كل مواطن بمسئوليته المحددة فى الخطة الشاملة، كذلك إدراكه المحدد لحقوقه المؤكدة من نجاحها، هو فضلاً عن كونه توزيعاً للمسئولية على نطاق الأمة كلها بما يعزز احتمالات الوصول إلى الأهداف هو فى الوقت ذاته عملية انتقال ثورية بمعنى العمل الوطنى من العموميات الشائعة المبهمة والغامضة، إلى وضوح ذهنى وعملى يربط الإنسان الفرد فى نضاله اليومى بحركة المجتمع كلها، ويشده فى اتجاه التاريخ، كما أنه يوجه به حركة التاريخ فى نفس اللحظة.

إن فلسفة العمل الوطنى يجب أن تصل إلى جميع العاملين فى الوطن فى كافة المجالات، بل ويجب أن تصل إليهم بالطريقة الأكثر ملاءمة بالنسبة لكل منهم، إن ذلك يكفل دائماً أن يكون الفكر على اتصال بالتجربة، وأن يكون الرأى النظرى على اتصال بالتطبيق التجريبى، إن الوضوح الفكرى أكبر ما يساعد على نجاح التجربة، كما أن التجربة بدورها تزيد فى وضوح الفكر وتمنحه قوة وخصوبة تؤثر فى الواقع وتتأثر به، ويكتسب العمل الوطنى من هذا التبادل الخلاق إمكانيات أكبر لتحقيق النجاح، وإنه لمن ألزم الأمور هنا تشجيع الكلمة المكتوبة لتكون صلة بين الجميع يسهل حفظها للمستقبل، كما أنها تستكمل حلقة هامة فى الصلة بين الفكرة والتجربة.إنه من الأمور اللازمة تشجيع كل المسئولين عن العمل الوطنى أن يكتبوا أفكارهم لتكون أمام المسئولين عن التنفيذ، كذلك من الضرورى تشجيع كل القائمين بالتنفيذ أن يكتبوا ملاحظاتهم لتكون أمام المسئولين عن التوجيه، إن ذلك أمر لا يمكن أن يترك بالصدفة أو الارتجال وإنما ينبغى تنظيمه؛ إن تنظيمه سوف يوفر للعمل الوطنى ذخيرة هائلة بغير حدود لآفاق الفكر ممتزجة بدقائق التنفيذ العملى، إن هذه الذخيرة سوف تساهم فى رفع رصيد الكفاية الوطنية، وتعميم نطاق الاستفادة بها.
إن فترات التغيير الكبرى بطبيعتها حافلة بالأخطار التى هى جزء من طبيعة المرحلة، على أن التأمين الأكبر ضد هذه الأخطار كلها هو ممارسة الحرية وخصوصاً بواسطة المجالس الشعبية المنتخبة. إن العمل الوطنى كله وعلى جميع مستوياته لا يمكن أن يصل سليماً إلا بطريق الديمقراطية، ووسيلة الديمقراطية أن تتوفر الحرية فى مراكز الإنتاج جميعها لكى يتمكن جميع العاملين فيها من أن يعطوا كل جهدهم الفنى والوطنى من أجل كمال العمل، على أن يتم ذلك بالطبع تحت أحكام تسلسل المسئولية، كذلك فإن وسيلة الديمقراطية أن تتحقق سلطة المجالس الشعبية على جميع مراكز الإنتاج، وفوق كل أجهزة الإدارة المركزية أو المحلية، إن ذلك يضمن للشعب باستمرار أن يكون سلطة تحديد أهداف الإنتاج، وأن يكون فى الوقت ذاته سلطة الرقابة على تنفيذها.
إن ممارسة النقد والنقد الذاتى يمنح العمل الوطنى دائماً فرصة تصحيح أوضاعه وملاءمتها دائماً مع الأهداف الكبيرة للعمل.
إن أى محاولة لإخفاء الحقيقة أو تجاهلها يدفع ثمنها فى النهاية نضال الشعب وجهده للوصول إلى التقدم، وإذا سمحت القيادات الشعبية بأن يحدث ذلك، فإنها لا تكون مقصرة فى حق الشعب الذى صدرها للقيادة فقط، وإنما هى فى نفس الوقت تكون قد عزلت نفسها عن جماهيرها وفقدت اتصالها بها، وسلمت بعدم قدرتها على حل مشاكلها، وبالتالى يصبح لا مفر أمامها من أن تتنحى أو يسقطها الشعب ويسحب منها ما أسلمه إليها من مسئولية القيادة.
إن حرية النقد البناء والنقد الذاتى الشجاع ضمانات لسلامة البناء الوطنى، لكن ضرورتها أوجب فى فترات التغيير المتلاحق خلال العمل الثورى، إن ممارسة الحرية على هذا النحو ليست لازمة فقط لحماية العمل الوطنى، ولكنها لازمة لتوسيع قاعدته، وتوفير الضمان للذين يتصدون له، فممارسة الحرية على هذا النحو سوف تكون الطريق الفعال لتجنيد عناصر كثيرة قد تتردد قبل المشاركة فى العمل الوطنى، الحرية هى الوسيلة الوحيدة للقضاء على سلبياتها وتجنيدها اختيارياً لأهداف النضال.
إن ممارسة الحرية بعد العملية الثورية الهائلة لإعادة توزيع الثروة الوطنية فى يوليو سنة ١٩٦١ لا تشكل خطراً على أمن النضال الوطنى، بل إنها صمام الأمان له؛ فإنها تخلق القوة الشعبية القادرة على الانقضاض على كل محاولة للتآمر والقيام بالتفاف يسلب الشعب ثمار نضاله، كذلك فإن ممارسة الحرية يخلق القيادات المتجددة للعمل الثورى، ويوسع هذه القيادات، ويدفعها دائماً إلى الأمام، ويخلق قيادة من التفكير الجماعى القادر على صد نزعات التحكم الفردى، ومن ثم فهو يوفر للعمل الوطنى ضمانات بعيدة المدى.
إن حرية القيادات يجب أن تستمد حقها من حرية القواعد الشعبية، ولا تستطيع القيادات أن تمارس عملها بالإكراه والتعصب، إن القيادة الحقيقية هى الإحساس بمطالب الشعب، والتعبير عنها وإيجاد الوسائل لتحقيقها، وتجميع قوى الشعب وراء الجهود المحققة لها. ولابد فى الدستور الجديد من تنظيم عملية رجوع القيادات الشعبية إلى قواعدها وتأكيد مسئوليتها أمام المنابع الأصلية لقوتها، ولابد لنا أن نذكر دائماً أن القواعد الشعبية مفعمة بالثورية الطبيعية، وأن ثورية القواعد وإلحاحها الدائم من أجل التقدم سوف يكون قوة دافعة لثورية القيادة.
إن تحريك طاقات الشعب إلى العمل لا يجب أن يتم عن طريق إغراق الجماهير فى الأمل، إن التغيير الكبير بطبيعته يصاحبه تطلع بعيد المدى إلى الأهداف المرجوة من النضال، لكنه من ألزم الواجبات فى تلك الفترة أن تتضح أمام الشعب بجلاء صعوبة الوصول إلى الأهداف المرجوة، إن مجرد التغيير الثورى فى أوضاع المجتمع القديم لا يحقق أحلام الجماهير، ولكن الجهود المتواصلة هى وحدها القادرة على الوصول إلى الأحلام، وليس من حق أحد فى هذه المرحلة أن يخدع الجماهير بالمنى، وإنما تقتضى الأمانة الثورية أن تكون لدى الجماهير صورة كاملة لمسئولياتها بلوغاً لآمالها، إن ذلك أمر ينبغى وضعه موضع الاعتبار طول الوقت، وينبغى أن يصاحبه تقدير للتطلعات الكبرى للجماهير، وتقدير فى الوقت ذاته للروح المعنوية لدى المسئولين عن قيادة العمل تحقيقاً لهذه التطلعات، والمراهقة الفكرية خطر ينبغى التصدى له والقضاء عليه.
إن الذين يجمدون الكفاح الوطنى بتفسيرات أو قوالب تحد قدرته على الانطلاق أو تشيع فيه روح التردد، إنما يقللون من قوة المجتمع بقدر ضعفهم، وعدم قدرتهم على التفكير الخلاق المنبعث من الواقع الوطنى، إن التقدم الوطنى لا تحققه كلمات محفوظة عالية الرنين، إن تحرير الطاقات الخلاقة لأى شعب من الشعوب يرتبط بالتاريخ ويرتبط بالطبيعة، ويرتبط بالتطورات السائدة، والمؤثرة فى العالم الذى يعيش فيه، ليس هناك شعب يستطيع أن يبدأ تقدمه من فراغ، وإلا كان يتقدم إلى الفراغ ذاته.
إن الخطر فى المراهقة الفكرية فى هذه المرحلة، إنما تخلق نوعاً من الإرهاب المعنوى يعرقل التجربة والخطأ، والقيادات الجديدة المتصدية لتحريك التطوير الوطنى قوة هائلة لابد من حمايتها لتؤدى رسالتها الوطنية بالنجاح المطلوب، إن الثورة التى يملكها هذا الوطن صانع الحضارة من الخبراء والفنيين فى جميع المجالات قيمة هائلة لابد من الحرص عليها وتنميتها وحمايتها، وفى بعض الأحيان فإن هذه القيادات فى حاجة إلى حمايتها من نفسها، إن هذه القيادات قد تقع فى خطأ توهم أن المشاكل الكبرى للتطوير الوطنى تحل خلال التعقيدات المكتبية والإدارية، إن هذه التعقيدات تضع أعباءاً جديدة على العمل الوطنى دون أن تساعده، إنها قادرة لو تركت لخطأ وهمها أن تصبح طبقة عازلة تحول دون تدفق العمل الثورى، وتجمد وصول نتائجه عن الجماهير التى تحتاج إليه، إن أجهزة العمل الإدارى ترتكب غلطة العمر إذا ما تصورت أن أجهزتها الكبيرة غاية فى حد ذاتها.
إن هذه الأجهزة ليست إلا وسائل لتنظيم الخدمة العامة، وضمان وصولها على نحو سليم إلى الجماهير وبنفس المقدار، فإن التنازع على السلطات يؤدى إلى شلل القيادات العاملة فى التطوير الوطنى؛ إذ تصبح كل منها عقبة أمام جهود الأخرى، تجمد عملها وتلغى آثاره، كذلك فإن تكديس سلطات كبيرة فى أيد قليلة يؤدى دون جدال إلى انتقال السلطة الحقيقية إلى غير المسئولين عنها بالفعل أمام الشعب، لقد كان هذا الاعتبار هو المصدر الحقيقى للقانون الثورى الذى صدر بأن يكون هناك عمل واحد للرجل الواحد، إن ذلك لم يكن إجراء عدل فقط، ولكنه كان محاولة للوصول إلى أن يكون الفرد المناسب فى العمل المناسب لخبرته وقدرته.
والقيادات الجديدة لابد لها أن تعى دورها الاجتماعى، وإن أخطر ما يمكن أن تتعرض له فى هذه المرحلة أن تنحرف متصورة أنها تمثل طبقة جديدة حلت محل الطبقة القديمة وانتقلت إليها امتيازاتها.
إن قيادة المشروعات الكبرى فى عملية التطوير فى حاجة أيضاً إلى أن تؤمن بأن الإسراف - حتى وإن لم تتبعه استفادة شخصية - هو نوع من الانحراف؛ فإنه إهدار لثورة الشعب التى هى وقود معركة التطوير، والإسراف يشمل التضخم فى مصاريف الإنتاج التى لا مبرر لها، كما إنه يشمل فى الوقت ذاته عدم تقدير المسئولية فى دراسة المشروعات الجديدة، ويمتد إلى الإهمال فى التنفيذ بدون اليقظة الواجبة لسلامة العمل.
إن تلك كلها من سمات مرحلة التغيرات الكبرى ومن أخطارها، ولكن السيطرة عليها والحد من تأثيرها ممكن بممارسة الحرية، إن العمل الثورى لابد له أن يكون عملاً علمياً، إن الثورة ليست عملية هدم أنقاض الماضى، ولكن الثورة هى عملية بناء المستقبل، وإذا تخلت الثورة عن العلم فمعنى ذلك أنها مجرد انفجار عصبى تنفس به الأمة عن كبتها الطويل، ولكنها لا تغير من واقعها شيئاً.
إن العلم هو السلاح الحقيقى للإرادة الثورية، ومن هنا الدور العظيم الذى لابد للجامعات ولمراكز العلم على مستوياتها المختلفة أن تقوم به. إن الشعب هو قائد الثورة، والعلم هو السلاح الذى يحقق النصر الثورى، والعلم وحده هو الذى يجعل التجربة والخطأ فى العمل الوطنى تقدماً مأمون العواقب، وبدون العلم فإن التجربة والخطأ تصبح نزعات اعتباطية قد تصيب مرة، لكنها تخطئ عشرات المرات.
إن مسئولية الجامعات ومعاهد البحث العلمى فى صنع المستقبل لا تقل عن مسئولية السلطات الشعبية المختلفة، إن السلطات الشعبية بدون العلم قد تستطيع أن تثير حماسة الجماهير، لكنها بالعلم وحده تقدر على العمل تحقيقاً لمطالب الجماهير، ومن هذا التصور فإن الجامعات ليست أبراجاً عاجية ولكنها طلائع متقدمة تستكشف للشعب طريق الحياة، إن قدرتنا على التمكن من فروع العلم المختلفة هى الطريق الوحيد أمامنا لتعويض التخلف، بل إن النضال الوطنى إذا ما اعتمد على العلم المتقدم يستطيع أن يمنح نفسه فرصة أعظم للانطلاق تجعل التخلف السابق ميزة أمام ما سوف يحققه التقدم الجديد.
إن الأمم التى أرغمت على التخلف إذا استطاعت أن تبدأ الآن معتمدة على العلم المتقدم تضمن لنفسها نقطة بداية تفوق النقطة التى بدأ منها الذين سبقوها إلى المستقبل، ومن ثم تمنح نفسها قوة اندفاع أشد فى اللحاق بهم والسبق عليهم.إن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الكبرى التى يتصدى شعبنا اليوم لمواجهتها لابد لها من حلول علمية، على أن مراكز البحث العلمى مطالبة فى هذه المرحلة من النضال أن تطور نفسها بحيث يكون العلم للمجتمع، إن العلم للعلم فى حد ذاته مسئولية لا تستطيع طاقتنا الوطنية فى هذه المرحلة أن تتحمل أعباءها؛ لذلك فإن العلم للمجتمع يجب أن يكون شعار الثورة الثقافية فى هذه المرحلة، على أن بلوغ النضال الوطنى لأهدافه سوف يسمح لنا فى مرحلة متقدمة من تطورنا بأن نساهم إيجابياً مع العالم فى العلم للعلم، وليس العلم للمجتمع عقبة تفرض على العلماء أن يلتزموا بمشاكل الخبز المباشرة وحدها، إن ذلك يصبح تفسيراً ضيقاً لرغيف الخبز الذى نريده، إننا لا نستطيع أن نتقاعس لحظة عن الدخول منذ الآن فى عصر الذرة، لقد تخلفنا من قبل عن عصر البخار وعن عصر الكهرباء، ولقد كلفنا هذا التخلف - مع أن ظروف العصر الاستعمارى الرجعى هى التى فرضته علينا - كثيراً ومازال يكلفنا الكثير، لكنا مطالبون الآن وعصر الذرة يشرق فجره على الدنيا أن نبدأ الفجر مع الذين بدءوه.
إن الطاقة الذرية من أجل الحرب ليست هدفنا، ولكن الطاقة الذرية فى خدمة الرخاء قادرة على أن تصنع المعجزات فى معركة التطوير الوطنى، على أنه يتعين علينا أن نذكر دائماً أن الطاقات الروحية التى تستمدها الشعوب من مثلها العليا النابعة من أديانها السماوية أو من تراثها الحضارى قادرة على صنع المعجزات.
إن الطاقات الروحية للشعوب تستطيع أن تمنح آمالها الكبرى أعظم القوى الدافعة، كما أنها تسلحها بدروع من الصبر والشجاعة تواجه بها جميع الاحتمالات، وتقهر بهما مختلف المصاعب والعقبات، وإذا كانت الأسس المادية لتنظيم التقدم ضرورية ولازمة فإن الحوافز الروحية والمعنوية هى وحدها القادرة على منح هذا التقدم أنبل المثل العليا وأشرف الغايات والمقاصد.

البــاب التـاسـع

الوحدة العربية

إن مسئولية الجمهورية العربية المتحدة فى صنع التقدم وفى تدعيمه وحمايته تمتد لتشمل الأمة العربية كلها، إن الأمة العربية لم تعد فى حاجة إلى أن تثبت حقيقة الوحدة بين شعوبها، لقد تجاوزت الوحدة هذه المرحلة، وأصبحت حقيقة الوجود العربى ذاته، يكفى أن الأمة العربية تملك وحدة اللغة التى تصنع وحدة الفكر والعقل، ويكفى أن الأمة العربية تملك وحدة التاريخ التى تصنع وحدة الضمير والوجدان، ويكفى أن الأمة العربية تملك وحدة الأمل التى تصنع وحدة المستقبل والمصير.
إن الذين يحاولون طعن فكرة الوحدة العربية من أساسها مستدلين بقيام خلافات بين الحكومات العربية، ينظرون إلى الأمور نظرة سطحية، إن مجرد وجود هذه الخلافات هو فى حد ذاته دليل على قيام الوحدة، إن هذه الخلافات تنبع من الصراع الاجتماعى فى الواقع العربى، واللقاء بين القوى التقدمية الشعبية فى كل مكان من العالم العربى، والتجمع الذى تقوم به العناصر الرجعية والانتهازية فى العالم العربى هو الدليل على وحدة التيارات الاجتماعية التى تهب على الأمة العربية، وتحرك خطواتها وتنسقها عبر الحدود المصطنعة.  
إن التقاء القوى التقدمية الشعبية على الأمل الواحد فى كل مكان من الأرض العربية، وتجمع القوى الرجعية على المصالح المتحدة فى كل مكان من الأرض العربية هو فى حد ذاته دليل على الوحدة أكثر مما هو دليل على التفرقة، إن مفهوم الوحدة العربية تجاوز النطاق الذى كان يفرض التقاء حكام الأمة العربية ليكون من لقائهم صورة للتضامن بين الحكومات، إن مرحلة الثورة الاجتماعية تقدمت بهذا المفهوم السطحى للوحدة العربية، ودفعت به خطوة إلى مرحلة أصبحت فيها وحدة الهدف هى صورة الوحدة.
إن وحدة الهدف حقيقة قائمة عند القواعد الشعبية فى الأمة العربية كلها، واختلاف الأهداف عند الفئات الحاكمة هو صورة من صور التطور الحتمى الثورى واختلاف مراحله بين الشعوب العربية، لكن وحدة الهدف عند القواعد هى التى ستتكفل بسد الفجوات الناشئة من اختلاف مراحل التطور.
إن وحدة الأمة العربية قد وصلت فى صلابتها إلى حد أنها أصبحت تتحمل مرحلة الثورة الاجتماعية، ولا يمكن أن تدل أساليب الانقلاب العسكرى، ولا أساليب الانتهازية الفردية، ولا أساليب الرجعية المتحكمة على شىء إلا على أن النظام القديم فى العالم العربى يعانى جنون اليأس، وأنه يفقد أعصابه تدريجياً وهو يسمع من بعيد فى قصوره المعزولة وقع أقدام الجماهير الزاحفة إلى أهدافها.
إن وحدة الهدف لابد أن تكون شعار الوحدة العربية فى تقدمها من مرحلة الثورة السياسية إلى الثورة الاجتماعية، ولابد أن ينبذ الشعار الذى جرت تحته مرحلة سابقة من النضال الوطنى؛ هى مرحلة الثورة السياسية ضد الاستعمار، إن الاستعمار الآن غير مكانه ولم يعد قادراً على مواجهة الشعوب مباشرة، وكان مخبأه الطبيعى بحكم الظروف داخل قصور الرجعية.
إن الاستعمار نفسه دون أن يدرى ساهم فى تقريب يوم الثورة الاجتماعية، وذلك حين توارى بمطامعه وراء العناصر المستغلة يوجهها ويحركها، وليس من شك أن الثورات الأصيلة تستفيد من حركات خصومها فى مواجهتها، وتكتسب منها قوة دافعة، إن الاستعمار كشف نفسه، وكذلك فعلت الرجعية بتهالكها على التعاون معه، وأصبح محتماً على الشعوب ضربهما معاً، وهزيمتهما معاً؛ تأكيداً لانتصار الثورة السياسية فى بقية أجزاء الوطن العربى، وتدعيماً لحق الإنسان العربى فى حياة اجتماعية أفضل لم يعد قادراً على صنعها بغير الطريق الثورى.
والعمل العربى فى هذه المرحلة يحتاج إلى كل خبرة الأمة العربية مع تاريخها الطويل المجيد، ويحتاج إلى حكمتها العميقة، بقدر حاجته إلى ثوريتها وإرادتها على التغيير الحاسم.

إن الوحدة لا يمكن - بل ولا ينبغى - أن تكون فرضاً فإن الأهداف العظيمة للأمم يجب أن تتكافئ أساليبها شرفاً مع غايتها، ومن ثم فإن القسر بأى وسيلة من الوسائل عمل مضاد للوحدة، إنه ليس عملاً غير أخلاقى فحسب؛ وإنما هو خطر على الوحدة الوطنية داخل كل شعب من الشعوب العربية، ومن ثم بالتالى فهو خطر على وحدة الأمة العربية فى تطورها الشامل، وليست الوحدة العربية صورة دستورية واحدة لا مناص من تطبيقها، ولكن الوحدة العربية طريق طويل قد تتعدد عليه الأشكال والمراحل وصولاً إلى هدف أخير، إن أى حكومة وطنية فى العالم العربى تمثل إرادة شعبها ونضاله فى إطار من الاستقلال الوطنى هى خطوة نحو الوحدة، من حيث أنها ترفع كل سبب للتناقض بينها وبين الآمال النهائية فى الوحدة، إن أى وحدة جزئية فى العالم العربى - تمثل إرادة شعبين أو أكثر من شعوب الأمة العربية - هى خطوة وحدوية متقدمة تقرب من يوم الوحدة الشاملة، وتمهد لها وتمد جذورها فى أعماق الأرض العربية.إن مثل هذه الظروف تمهد الطريق للدعوة إلى الوحدة الشاملة، وإذا كانت الجمهورية العربية المتحدة ترى فى رسالتها العمل من أجل الوحدة الشاملة، فإن الوصول إلى هذا الهدف ليساعد عليه وضوح الوسائل التى لابد من تحديدها تحديداً قاطعاً وملزماً فى هذه المرحلة من النضال العربى.
إن الدعوة السلمية هى المقدمة والتطبيق العلمى لكل ما تضمنه الدعوة من مفاهيم تقدمية للوحدة، هى الخطوة الثانية للوصول إلى نتيجة محققة، إن استعجال مراحل التطور نحو الوحدة يترك من خلفه كما أثبتت التجارب فجوات اقتصادية واجتماعية تستغلها العناصر المعادية للوحدة كى تطعنها من الخلف.
إن تطور العمل الوحدوى نحو هدفه النهائى الشامل يجب أن تصحبه بكل وسيلة جهود عملية لملء الفجوات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة من اختلاف مراحل التطور بين شعوب الأمة العربية، هذا الاختلاف الذى فرضته قوى العزلة الرجعية والاستعمارية.
إن جهوداً عظيمة وواعية يجب أن تتجه أيضاً إلى فتح الطريق أمام التيارات الفكرية الجديدة حتى تستطيع أن تحدث أثرها فى محاولات التمزيق، وتتغلب على بقايا التشتت الفكرى، الذى أحدثه ضغط ظروف القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وما تركتها دسائسها ومناوراتها من رواسب تحجب الرؤية الصافية فى بعض الظروف، والجمهورية العربية المتحدة - وهى تؤمن بأنها جزء من الأمة العربية - لابد لها أن تنقل دعوتها والمبادئ التى تتضمنها لتكون تحت تصرف كل مواطن عربى، ولا ينبغى الوقوف لحظة أمام الحجة البالية القديمة التى قد تعتبر ذلك تدخلاً منها فى شئون غيرها، وفى هذا المجال فإن الجمهورية العربية المتحدة لابد لها أن تحرص على ألا تصبح طرفاً فى المنازعات الحزبية المحلية فى أى بلد عربى، إن ذلك أمراً يضع دعوة الوحدة ومبادئها فى أقل من مكانها الصحيح، وإذا كانت الجمهورية العربية المتحدة تشعر أن واجبها المؤكد يحتم عليها مساندة كل حركة شعبية وطنية، فإن هذه المساندة يجب أن تظل فى إطار المبادئ الأساسية تاركة مناورات الصراع ذاته للعناصر المحلية تجمع له الطاقات الوطنية، وتدفعه إلى أهدافه وفق التطور المحلى وإمكانياته، كذلك فإن الجمهورية العربية المتحدة مطالبة بأن تفتح مجال التعاون بين جميع الحركات الوطنية التقدمية فى العالم العربى، إنها مطالبة بأن تتفاعل معها فكرياً من أجل التجربة المشتركة، لكنها فى نفس الوقت لا تستطيع أن تفرض عليها صيغة محددة لصنع التقدم.
إن قيام اتحاد للحركات الشعبية الوطنية التقدمية فى العالم العربى أمر سوف يفرض نفسه على المراحل القادمة من النضال، إن ذلك لا يؤثر ولا ينبغى له أن يؤثر على قيام جامعة الدول العربية، وإذا كانت الجامعة العربية غير قادرة على أن تحمل الشوط العربى إلى غايته العظيمة البعيدة، فإنها تقدر على السير به خطوات. إن الشعوب تريد أملها كاملاً، والجامعة العربية بحكم كونها جامعة للحكومات لا تقدر أن تصل إلى أبعد من الممكن؛ إن الممكن خطوة فى طريق المقلوب الشامل، إن تحقيق الجزء مساهمة فى تقريب يوم الكل، لهذا فإن الجامعة العربية تستحق كل التأييد، على ألا يكون هناك تحت أى ظرف من الظروف وهم تحميلها أكثر من طاقتها العملية التى تحدها ظروف قيامها وطبيعتها.
إن الجامعة العربية قادرة على تنسيق ألوان ضرورية من النشاط العربى فى المرحلة الحاضرة، لكنها فى نفس الوقت تحت أى ستار وفى مواجهة أى ادعاء لا يجب أن تتخذ وسيلة لتجميد الحاضر كله وضرب المستقبل به.

البــاب العـاشـر

السياسة الخارجية

إن السياسة الخارجية لشعب الجمهورية العربية المتحدة هى انعكاس أمين وصادق لعمله الوطنى، إن أى سياسة خارجية لأى وطن من الأوطان لا تكون انعكاساً أميناً وصادقاً لعمله الوطنى تصبح ادعاءً يكشف نفسه بنفسه، ويصبح نفاقاً واتجاراً بالشعارات، إن تلك هى المهزلة التى تقع فيها الحكومات الرجعية حين تحاول للتضليل أن تستعير سياسة خارجية براقة لا تكون صدى للواقع الوطنى وتعبيراً عنه.
إن الشعوب الواعية تفضح هذه الحكومات وتقتص منها حساب الضلال الذى حاولت أن تزيفه عليها، والسياسة الخارجية لشعب الجمهورية العربية المتحدة انعكاس أمين وصادق لعمله الوطنى تمتد فى ثلاثة خطوط حفرت مجراها عميقاً ومستقيماً فى نضال شعب باسل صمد لكل أنواع الضغط وانتصر عليها.
إن الخطوط الثلاثة العميقة فى السياسة الخارجية للجمهورية العربية تعبيراً عن كل مبادئها الوطنية هى:
- الحرب ضد الاستعمار والسيطرة بكل الطاقات والوسائل، وكشفه فى جميع أقنعته، ومحاربته فى كل أوكاره.
- والعمل من أجل السلام؛ لأن جو السلام واحتمالاته هى الفرصة الوحيدة الصالحة لرعاية التقدم الوطنى.
- ثم التعاون الدولى من أجل الرخاء؛ فإن الرخاء المشترك لجميع الشعوب لم يعد قابلاً للتجزئة، كما أنه أصبح فى حاجة إلى التعاون الجماعى لتوفيره.
إن شعب الجمهورية العربية المتحدة فى حربه ضد الاستعمار ضرب مثلاً حياً مازال أسطورة فى تاريخ نضال الشعوب، إن شعبنا كشف الاستعمار العثمانى وقاومه برغم التحايل عليه بأستار الخلافة الإسلامية، ثم قاوم شعبنا الغزو الفرنسى حتى أرغم المغامر الذى دوخ أوروبا كلها على أن يرحل بالليل عبر البحر الأبيض إلى فرنسا، ثم صمد لمؤامرات الاستعمار العالمى واحتكاراته الدولية التى استعملت أسرة محمد على، وتدافعت موجاته الثورية واحدة إثر أخرى، حتى جرفت أمامها بعد سنوات طويلة من التضحيات النبيلة كل الحواجز التى أقامها الاستعمار على أرضه لحماية وجوده، لقد واجه شعبنا ثلاث إمبراطوريات هى الإمبراطورية العثمانية والفرنسية والبريطانية، وقاوم غزوها لبلاده وانتصر عليها، إن شعبنا دفع خلال عشرات السنين بل مئاتها ثمناً غالياً لانتصاره على الاستعمار، لكنه فى النهاية حصل على النصر، الذى برر أمام التاريخ كل التضحيات وشرف مقدارها.
وبعد النصر الثورى العظيم صباح ٢٣ يوليو، وفى طريق الشعب إلى التقدم الثورى، داست الجموع المنتصرة بأقدامها بقايا العهد الملكى الدخيل، ودكت حصون الإقطاع، واجتثت جذور الرجعية، لقد كانت تلك كلها هى الركائز التى ثبت الاستعمار عليها وجوده فوق أرضنا، وبانقضاض شعبنا عليها وتدميرها، فإن الوجود الاستعمارى فقد حلقات اتصاله بأرض الوطن الطاهرة، ومن ثم كانت الخطوة الباقية هى إرغام قواته على الرحيل وراء البحر، بعد أن طوت أعلامها، وابتلعت كبرياءها.
إن شعبنا بعد عشرات السنين من الاستعمار فاز بإرغام القوى العدوانية على الجلاء مرتين فى عام واحد، هو ١٩٥٦ الفاصل فى نضالنا الوطنى، إن الاستعمار الذى جلا عن أرضنا طبقاً لاتفاق تم تنفيذه فى يونيه سنة ١٩٥٦، ما لبث أن عاد فى أكتوبر من نفس العام، متصوراً أنه قادر على إخضاع إرادة شعبنا وإذلاله وإجباره على الركوع خضوعاً لإرادة المستعمرين.إن شعبنا الذى عقد العزم على حماية استقلاله، ورفض كل الحيل الاستعمارية التى حاولت أن تجره إلى مناطق النفوذ، وقاد مقاومة هائلة فى الشرق الأوسط كله ضد حلف بغداد حتى أسقط، لم يتردد فى مواجهة العدوان المسلح الثلاثى، الذى أقدمت عليه اثنتان من دول العالم الكبرى، زحفت عليه من القاعدة الاستعمارية التى خلقتها المؤامرات الرامية إلى إرهاب الأمة العربية وتمزيقها وهى إسرائيل، إن الاستعمار فى معركة السويس كشف نفسه، وكشف قواعده، وكشف أعوانه.
إن الاستعمار انقض على شعب مصر بالسلاح؛ لأن الشعب المصرى حاول أن يحقق استقلاله ويبنى تقدمه من أحد موارده الوطنية، التى طال استغلال الاستعمار له، واحتكاره لكل عائده وقيمته.
إن الشعب المصرى باسترداد قناة السويس، ضرب الاستعمار واحتكاراته فى الصميم، وأثبت صلابته بتحمله العنيد لتبعات إصراره، إلى حد قبول المعركة المسلحة فى وجه قوى زاحفة جرارة. إن الشعب المصرى بثباته الرائع وبقتاله المرير ضد الغزو، استطاع أن يهز الضمير العالمى ويحركه بصورة لم يسبق لها مثيل فى التطور الدولى، ولقد كان التحول الرائع فى المعركة نقطة فاصلة فى حركات التحرير.
إن الشعب المناضل الذى كان  يواجه الطغاة الكبار وحده لم يعد وحيداً، وإنما انقلب الموقف رأساً على عقب، نتيجة للمقاومة الوطنية الباسلة. إن الذين تجمعوا ضد شعبنا ليعزلوه، وجدوا أنفسهم فى عزلة عن الدنيا كلها، بينما وقفت شعوب العالم كلها مع شعبنا تشد أزره وتلوح له بأيديها، تحية له وتضامناً معه.
إن الهزيمة المريرة التى منى بها الاستعمار فى حرب السويس، أنهت عصر المغامرات الاستعمارية المسلحة. إن نهاية هذا العهد البغيض بالنسبة لكل شعوب العالم تحققت بفضل نضال شعبنا. إن الاستعمار الذى مازال متمسكاً بأهدافه غير أسلوبه، إن شعبنا كان بالمرصاد لكل محاولات التنكر والتخفى، وواصل مطاردته لها وتجميع قوى الشعوب ضدها.
إن إصرار شعبنا على محاربة الأحلاف العسكرية التى تريد أن تجر الشعوب رغم إرادتها إلى فلك الاستعمار، كان صوتاً عالياً بالحق، ارتفع فى جميع المجالات منبهاً ومحذراً.
إن إصرار شعبنا على تصفية العدوان الإسرائيلى على جزء من الوطن الفلسطينى، هو تصميم على تصفية جيب من أخطر جيوب المقاومة الاستعمارية ضد نضال الشعوب، وليس تعقب سياستنا للتسلل الإسرائيلى فى إفريقيا غير محاولة لحصر انتشار سرطان استعمارى مدمر.
إن إصرار شعبنا على مقاومة التمييز العنصرى، هو إدراك سليم للمغزى الحقيقى لسياسة التمييز العنصرى، إن الاستعمار فى واقع أمره هو سيطرة تتعرض لها الشعوب من الأجنبى بقصد تمكينه من استغلال ثرواتها وجهدها، وليس التمييز العنصرى إلا لوناً من ألوان استغلال ثروات الشعوب وجهدها، فإن التمييز بين الناس على أساس اللون هو تمهيد للتفرقة بين قيمة جهودهم.
إن الرق كان الصورة الأولى من صور الاستعمار، والذين مازالوا يباشرون أساليبه يرتكبون جريمة لا يقتصر أثرها على ضحاياهم، وإنما يلحقون الأذى بالضمير الإنسانى كله، وبما أحرزه من انتصارات.
إن شعبنا لم يدخر جهداً فى سعيه نحو السلام، إن السعى نحو السلام قاد خطى شعبنا إلى مراكز دولية، أصبحت لها الآن من قوة الإشعاع ما يضئ الطريق نحو السلام، إن شعبنا الذى ساهم بكل إخلاص فى أعمال مؤتمر باندونج وإنجاحه، والذى شارك فى أعمال الأمم المتحدة، وحاول عن طريق هذه الأداة الدولية العظيمة دفع الخطر عن السلام، أثبت شجاعة فى الإيمان بالسلام، لقد تكلم من باندونج مع غيره من دول آسيا وإفريقيا، نفس اللغة التى تكلم بها أمام الكبار الأقوياء فى الأمم المتحدة.
إن شعبنا فى دعوته إلى السلام وفى عمله لتوطيد احتمالاته، اشترك مع الجميع وواجه الجميع بقوة التعبير الحر، إن شعبنا الذى شارك فى الجهود الإنسانية العظيمة المكرسة لتحريم التجارب الذرية، وشارك إيجابياً فى العمل من أجل نزع السلاح، إنما كان يصدر عن إيمان مطلق بالسلام؛ لأنه يؤمن إيماناً مطلقاً بالحياة.
إن شعبنا يعرف قيمة الحياة لأنه يحاول بناءها على أرضه، إن صدق دعوته للسلام ينبع من حاجته الماسة إليه. إن السلام هو الضمان الأكيد لقدرته على الاستمرار فى معركته المقدسة من أجل التطوير، إن العمل من أجل السلام هو الذى سلح شعبنا بشعار عدم الانحياز والحياد الإيجابى، إن ارتفاع هذا الشعار اليوم على قارات كثيرة من العالم، هو تحية عظيمة لإخلاص شعبنا فى خدمة السلام.
إن الدعوة الأولى لأول مؤتمر لدول عدم الانحياز.. هذه الدعوة التى صدرت من القاهرة ولقيت استجابة رائعة لدى الكثير من الشعوب، كانت فى نفس الوقت تقديراً إنسانياً للمنهج الذى سلكناه فى خدمة السلام، بعد إيماننا به وإخلاصنا له، بل إن الذين يحاولون اليوم استغلال شعار عدم الانحياز والحياد الإيجابى، ليستروا أمام شعوبهم انحيازهم إلى معسكرات الحرب والاستعمار، إنما يقدمون إطراءاً غير مباشر لشعبنا، الذى كان رائداً فى رفع هذا الشعار عن إيمان وفى النضال من أجله.. عن حاجة حقيقية إليه نابعة من صميم كفاحه لإحراز التقدم.
إن التعاون الدولى من أجل الرخاء المشترك لشعوب العالم هو امتداد طبيعى للحرب ضد الاستعمار.. ضد الاستغلال، وهو استطراد منطقى للعمل من أجل السلام لتوفير الجو الأمثل للتطوير.
إن التعاون الدولى من أجل الرخاء يصل بالسياسة الخارجية للجمهورية العربية إلى الهدف النهائى، الذى تسعى إليه سياستها الخارجية انعكاساً لنضالها الوطنى، إن شعبنا يمد يده لجميع الشعوب والأمم العاملة من أجل السلام العالمى والرخاء الإنسانى، إن المعارك الدولية التى خاضها شعبنا، إنما كانت معارك دفاعية خاضها قتالاً عن حقوقه المشروعة، وحقوق الأمة العربية التى يشعر بانتمائه الحيوى إليها، انتماء الجزء إلى الكل، ولقد رفع شعبنا حتى فى أحلك ظروف المعارك القاسية - التى أرغم على خوضها - شعاره الخالد: السلام لا الاستسلام، إيماءة واضحة إلى أنه يقبل التعاون الدولى، ولكنه يقاوم السيطرة، إن شعبنا يؤمن أن الرخاء لا يتجزأ وأن التعاون الدولى من أجل الرخاء هو أقوى ضمانات السلام العالمى.
إن السلام لا يمكن أن يستقر فى عالم تتفاوت فيه مستويات الشعوب تفاوتاً مخيفاً، إن السلام لا يمكن أن يستقر على حافة الهوة السحيقة، التى تفصل بين الأمم المتقدمة والأمم التى فرض عليها التخلف، إن الصدام المحقق بين التخلف والتقدم هو الخطر الثانى الذى يهدد السلام العالمى، بعد الخطر الأول الذى يكمن فى نشوب حرب ذرية مفاجئة. إن التعاون الدولى من أجل الرخاء هو الأصل الوحيد فى تطور سلمى يقارب ما بين مستويات الأمم، ويزرع المحبة بينها بديلاً عن سموم الكراهية.. إن التعاون الدولى من أجل الرخاء من جانب الدول المتقدمة، هو التكفير الإنسانى الذى  يشترك فيه المسئولون وغير المسئولين عن العصر الاستعمارى.
إن التعاون الدولى يمتد على جبهة عريضة، تحاول الجمهورية العربية أن تتحرك عليها، إنه يشمل فتح الأسرار العلمية للجميع، فإن احتكار العلم يهدد البشرية بنوع جديد من السيطرة الاستعمارية، كذلك هو يشمل الدعوة إلى توجيه الذرة للسلام؛ حتى تستطيع أن تخدم قضية التطوير، وتضئ جوانب التخلف العظيم، كذلك هو يشمل التبشير بفكرة توجيه المبالغ الطائلة التى توجه إلى صنع الأسلحة النووية، لتخدم الحياة بدل أن تترصد لها وتتربص بها، كذلك هو يشمل الدعوة إلى مواجهة التكتلات الاقتصادية الدولية؛ بحيث لا تستخدم بواسطة الأقوياء لتحطيم محاولات غيرهم من أجل التقدم.
إن شعبنا يمد نواياه المعززة بالأعمال لتحقيق التعاون الدولى عبر كل المحيطات وإلى كل الأقطار، وإذا كان شعبنا يؤمن بوحدة عربية، فهو يؤمن بجامعة إفريقية ويؤمن بتضامن آسيوى - إفريقى، ويؤمن بتجمع من أجل السلام يضم جهود الذين ترتبط مصالحهم به، ويؤمن برباط روحى وثيق يشده إلى العالم الإسلامى، ويؤمن بانتمائه إلى الأمم المتحدة وبولائه لميثاقها، الذى استخلصته آلام الشعوب فى محنة حربين عالميتين، تخللتهما فترة من الهدنة المسلحة.
إن الإيمان بهذا كله لا يتعارض مع بعضه ولا يتصادم، وإنما حلقات سلسلة واحدة. إن شعبنا شعب عربى ومصيره يرتبط بوحدة مصير الأمة العربية. إن شعبنا يعيش على الباب الشمالى الشرقى لإفريقيا المناضلة، وهو لا يستطيع أن يعيش فى عزلة عن تطورها السياسى والاجتماعى والاقتصادى. إن شعبنا ينتمى إلى القارتين اللتين تدور فيهما الآن أعظم معارك التحرير الوطنى، وهو أبرز سمات القرن العشرين.
إن شعبنا يعتقد فى السلام كمبدأ، ويعتقد فيه كضرورة حيوية؛ ومن ثم لا يتوانى للعمل من أجله، مع جميع الذين يشاركونه نفس الاعتقاد.
إن شعبنا يعتقد فى رسالة الأديان وهو يعيش فى المنطقة التى هبطت عليها رسالات السماء. إن شعبنا يعيش ويناضل من أجل المبادئ الإنسانية السامية التى كتبتها الشعوب بدمائها فى ميثاق الأمم المتحدة، إن فقرات كثيرة فى هذا الميثاق قد كتبت بدماء شعبنا، ودماء غيره من الشعوب.
إن شعبنا قد عقد العزم على أن يعيد صنع الحياة على أرضه بالحرية والحق.. بالكفاية والعدل.. بالمحبة والسلام. وإن شعبنا  يملك من إيمانه بالله، وإيمانه بنفسه ما يمكنه من فرض إرادته على الحياة ليصوغها من جديد وفق أمانيه.
أيها الإخوة:
هذا هو الميثاق.. هذا هو مشروع الميثاق أقدمه إليكم. والله يوفقكم.
والسلام عليكم ورحمة الله.

Comments

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة