في رثاء أولجا يسى


لا زال صوتها يرنّ في ذاكرتي السمعية، حتى بعد أن امتلأت تلك الذاكرة بملايين النغمات الموسيقية التي كوّنت وتكوّن تاريخي الفني، وشخصيتي الموسيقية، لازلت أتذكّر تلك الكلمات القادمة من الجانب الآخر من شقتنا الكائنة بوسط المدينة، وهي تمسك بي متلبساً:

    - رمزي، لم أسمع شهقتك في بداية المازورة..تذكّر يا حبيبي أن السكتة جزء من الموسيقى لا صمت عاطل

كانت تتحدث وقتها عن اختراعات باخ ذات الصوتين، وكنا قد بدأناها سوياً لتونا، بعد انتهائنا من عدة مقطوعات من مجلد "آنا ماجدلينا" ليوهان سيباستيان باخ، لا زلت أذكر الحصة الأولى، وهي تشهق بصوت عال في بداية المازورة كي تؤكّد لى أن الموسيقى لا تبدأ من النصف الثاني للضلع الأول حيث توجد النغمة الأولى، بل تبدأ من النصف الأول للضلع الأول مباشرة، حيث توجد السكتة، التي نضع بدلاً عنها تلك الشهقة المسموعة. لقد مرت عشرات السنوات، قبل أن أفهم ذلك الدرس العميق حينما درست مع أستاذي الروسي في كونسيرڤاتوار موسكو، كان علي أن أسمع ملايين النغمات، وأقرأ ملايين الكلمات، وأمر بعشرات التجارب، حتى يتسنّى لي بعد تلك السنوات أن أعود لتلك اللحظات الأولى وأفهم ما كانت تقوله..كان علي أن أستمع إلى بيتهوڤن، وأعزف لبرامز، وشوبان وليست وديبوسي، حتى يتكوّن لدي تصور عن كيفية رسم اللوحة الموسيقية بكل مكوناتها وأعرف علاقة الكتلة والخط واللون بالفراغ، بل كان علي أن أعيش عشرات السنين قبل أن أفهم ما قالته لي عن الصمت...عن عمقه، وشخصيته، وأبعاده، وتأثيره...

"..إنها الطاقة التي تملأ الفراغ الساكن في انتظار الكتلة والخط واللون والنغمة والحركة" هكذا وصفها لي أستاذي دارينسكي بعد مرور عشرين عاماً، كان يقول لي أن المسافة الساكنة بين نغمتين أهم من النغمتين نفسيهما، لأن تلك المسافة هي ما يحدد حجم وثقل النغمتين المحيطتين، تذكرتها حينما كنت أسكت بين الحركتين في السوناتا، وكان أستاذي يقول لي: "استمع الى الصمت جيداً، لكن لا تجعله يمتصك، عليك أن تحس بثقل هذا الصمت، لن تتمكن من بداية الحركة جيداً إلا إذا تمكنت من اصطياد الـ"لحظة" الـ"مناسبة"، ذلك الجزء الذهبي من الثانية الذي تتمكن فيه من الإمساك بأنفاس المستمعين، فتصوب نغمات الحركة التالية مباشرة إلى قلوبهم، إنها لحظة مقدسة تستمع فيها إلى اللانهائي، إلى المطلق المعلّق في الهواء بين أنفاسك، وتعرف إيقاع قلبك المميز، الذي يتوحد في تلك اللحظة مع مئات، وربما آلاف من مستمعيك.”

كنت ألمح زجاجة عطرها ذات اللون الأزرق...”ليالي باريس"، كانت معظم النساء في ذلك الوقت تستخدم العطر ذاته، لكنه كان مختلفاً بينما اختلط برائحة جسدها وشعرها، مضافاً إلى ذلك كله رائحة خشب البيانو، ومطارقه، وأوتاره، كان مركباً لا يتكرر في العمر سوى مرة واحدة، كانت أجمل اللحظات حينما جاء لنا بعض الضيوف من الخارج بثروة من المدونات الموسيقية للأيادي الأربع، مزيج من رقصات مجرية لبرامز، وبعض سيمفونيات هايدن وبيتهوڤن، كانت تلك هي المتعة بعينها، السعادة المجسّدة في بحر الفن الذي نسبح فيه سوياً، فقد بدأنا نخلق الموسيقى معاً في ذلك الوقت، ونعزف للضيوف، في تلك الآونة تعرفت على سيمفونيات بيتهوڤن وهايدن عن قرب، وكنت شديد الانبهار بالهيكل الهارموني لقالب السيمفونية، وحرفية بيتهوڤن في هندسة اللحن، وعذوبة ألحان هايدن، وتداخلها العضوي مع قالب السوناتا، مررنا بكل ذلك سوياً.

كنت أدعوها بإسمها مجرداً دون لفظ "ماما"، كانت تجد في ذلك متعة وتفرداً بين زميلاتها من الأمهات الجدد، كان ذلك موضع انتقاد من الأجيال الأكبر، الذين تعودوا أن الاحترام والتقدير يأتي من الألقاب والمراسم، أما "أولجا" فلم تكن تعر ذلك أي اهتمام، كانت تعلم أن ما يربطنا أقوى مما يربط أي أم بإبنها، فما يربطنا هو الموسيقى، هو الفن...اللانهاية...المطلق..وذلك رباط لا ينفصم مهما اتسعت المسافات بيننا، وابتعد الزمن، وبالفعل كانت خطاباتنا بعد سفري للدراسة في الخارج حميمية لا يفهمها سوانا، كانت خليطاً من قصاصات من مدونات موسيقية، وحكايات عن حفلات، وطرائف من مسابقات، وقليل من تاريخ الموسيقى البولندية أو الروسية أو الفرنسية أو الألمانية...لم تكن مراسلات إبن وأمه، بل كانت مراسلات شخصين ارتبطا باهتمام واحد يملأ حياتهما، ولا يترك مكاناً إلا لنذر يسير من العلاقات العائلية الأخرى.

كانت أجمل من رأيت من النساء، وأول من أحبتني من النساء، وأصدق من أحبتني من النساء، لازلت أذكر ذلك العطر، وذلك المقعد بجانبي أمام البيانو، وذلك الصوت القادم من الجانب الآخر من الشقة، لكنها سوف تكون ذكريات حاضرة بنفس حضور بيتهوڤن وبرامز وشوبان وليست، ففي كل نغمة، وفي كل مقطوعة، سوف أجدها حاضرةً في لفتة أو في نظرة أو في ملاحظة أو في إطراءة، لقد صنعتني أولجا، جاءت بي من العدم بكل ما تحمله تلك الكلمة من معنى، وعلى كل المستويات إبتداءً من المستوى الفسيولوچي.

لقد قالت أولجا يسى كلمتها في هذا العالم ثم رحلت، وكنت ولازلت أنا "كلمتها" التي قالتها إلى هذا العالم، كانت تعلّم وتربي الآخرين، ومنحت كثيرين إلى جانبي حباً ورعاية وتعليماً وتربية، لكنني كنت "الكلمة" الأقرب إلى قلبها، بل كنت قلبها نفسه، ذلك القلب المرهف الذي توقف اليوم، لكنه ترك سكوناً لا يقل روعة عن خفقانه، ترك إيقاعاً لا يتوقف، ترك بصمة لا يستقيم المستقبل بدونها، هكذا تركت لي الحب والموسيقى، وطريق نحو اللانهاية معبّدٌ بالفن...

وداعاً حبي الأول...

وداعاً أولجا يسى..

Comments

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة