صوت الفنان

"...كنت أعاني من الأرق، وكنت أنام قليلاً. ونصحني بعض الأصدقاء أن ألجأً إلى منوم مغناطيسي (وكانت تلك مهنة ممنوعة إبان الحكم السوفييتي)، وساعدوني في التوصل لأحد أفضل المنومين المغناطيسيين في موسكو، واتفقوا على ميعاد محدد سوف يزورني فيه.

جاء المنوم المغناطيسي في موعده، واستقبلته، ودخل إلى بهو الشقة واتجه نحو أحد التحف، وسألني: "جميلة للغاية! من أين اشتريتها؟" وكانت إجابتي أنني اشتريتها من هونج كونج أثناء جولة فنية كنت أقوم بها هناك. فكان رد المنوم الموسيقى: "حسناً، أعتقد أنني اكتفيت بهذا القدر، أتركك الآن!!!" فشعرت بالحرج لأن الرجل جاء خصيصاً من أجلي، ولم يمكث سوى لحظات قليلة، وما كان مني إلا أن عرضت عليه نقوداً كنا قد اتفقنا عليها مسبقاً، وأخرجت عشر روبلات (وكان ذلك مبلغاً محترماً في ذلك الوقت)، لأفاجأ بأن الرجل يأخذها عن طيب خاطر، ويغادر المنزل...ليلتها نمت نوماً عميقاً، ولم يعاودني الأرق بعدها.

بعد مرور عدد من السنوات تعرفت على الرجل مرة أخرى في ظروف مختلفة، ونشأت بيننا صداقة، وسألته ذات يوم، عما حدث في ذلك اليوم حينما جاء لمدة خمس دقائق، وتمكن من مساعدتي على النوم!! فأجاب أن الناس يركزون اهتمامهم على مضمون الكلمات دون أن يركزون على تنغيم الكلام Intonation ، ولايهم أي جملة قلتها لك وقتها، بل المهم هو الطريقة التي تمكنت من خلالها من توصيل طاقة معينة إليك تساعدك على التخلص من الأرق."

كان ذلك الحديث لميستسلاف راسترابوفيتش عازف التشيللو الشهير، أثناء ورشة عمل بكونسيرفاتوار بطرسبرغ في أواخر التسعينات، وكان يؤكد من خلال تلك القصة على أن الموسيقى، والتنغيم الموسيقي، والعلاقة بين النغمات ما هي إلا الوسيط الذي يتمكن من خلاله العازف من نقل الطاقة التي يريد نقلها إلى المستمع، وهو الفرق بين الاستماع إلى الموسيقى الحية، والاستماع إلى الموسيقى من خلال الأجهزة. فعملية تبادل الطاقة بين العازف وبين المستمع أمر في غاية الأهمية، تبنى عليه فنون الأداء جميعها.

كثيراً ما تستمع إلى عازف كمان ماهر، وتدقق في نغماته وأقواسه وترجمته للنص الموسيقي، فتجده مجتهداً حصيفاً، وكل شئ في مكانه السليم على أكمل وجه، ولكن شيئاً لا يمس قلبك، وتتساءل وقتها: "ما السبب؟"...

إن السبب في أن الأداء الموسيقي، والأداء الفني بصفة عامة يشبه بصمة الصوت التي يملكها وينفرد بها كل إنسان على وجه الأرض، والتي تتكون من شقين:

الشق الأول: نسيج الصوت (خامة الصوت)

الشق الثاني: تنغيم الصوت، وتنغيم الصوت في داخله ينقسم إلى التنغيم التونالي (نغمي: أي ارتفاع وانخفاض تردد الصوت غلظة أو حدة) و إيقاع التنغيم: من حيث سرعة أو بطء مقاطع الحديث أو الموسيقى وحجم الصوت: بين القوة أو الضعف.

فأما عن الشق الأول، فهو ثابت، فلكل إنسان نسيج صوتي يميزه عن الآخرين، وللنساء نسيج صوتي يختلف عن الرجال، وللحيوانات نسيج صوتي (خامة صوت) مختلفة عن الإنسان، وبنفس الكيفية فإنه لكل آلة موسيقية نسيج صوتي يختلف عن غيرها، بل إن لكل آلة نسيج صوت يختلف عن مثيلاتها، فالكمان الإيطالي من القرن السادس عشر يختلف نسيجه الصوتي عن كمان فرنسي صنع في القرن التاسع عشر وهلم جرا، والبيانو الألماني "شتاينواي آند سانز" يختلف نسيجه الصوتي عن البيانو الياباني "ياماها".

أما عن الشق الثاني فإن عناصره الثلاثة (التنغيم التونالي، وإيقاع التنغيم، وحجم الصوت) تمثل الأدوات التي يتمكن من خلالها الإنسان التعبير عن نفسه سواء من خلال الآلة الموسيقية أو من خلال استخدام الصوت دون وسيط.

ويساعد التنغيم التونالي في اللغات الشاعرية مثل اللغة العربية (وهي اللغات التي لا يختلف فيها مكان الفعل من الجملة بين السؤال والإجابة) في نقل المعلومة، فعلى سبيل المثال يمكننا أن نعبر عن جملتين سؤالاً أو جواباً من خلال التنغيم وحده، كالدعوة لشيء ما:

- نروح السيما؟

- نروح السيما.

فالفرق هنا بين السؤال والإجابة فقط في التنغيم، فبينما جاء التنغيم التونالي في الحالة الأولى متجهاً إلى صعود، معبراً بذلك عن الدعوة، جاءت الإجابة من خلال التنغيم التونالي المتجه إلى الانخفاض أو الثبات على نفس النغمة تعبيراً عن الإجابة. وفي ذلك المثال السابق، فإن الفرق بين الجملة الأولى والجملة الثانية هو في التنغيم التونالي فقط، وهو الذي نقل لنا أن الجملة الأولى سؤال، بينما جاءت الجملة الثانية إجابة. كذلك فإن التنغيم التونالي ينقل عدداً لانهائياً من العواطف تتنوع بين الغضب والسعادة والحب والكراهية والغيرة والإغراء والوعيد والتكتم والإعلان ...الخ.

الإيقاع هو الإرادة المتمثلة في مقاطع التركيبات اللغوية، ويتناسب إيقاع كل إنسان مع ضربات قلبه التي تعد بالنسبة للإنسان المرجعية الأساسية لكل الإيقاعات من حوله، وإذا ما تسارعت ضربات القلب بدت لنا الإيقاعات من حولنا أبطأ (وهذا هو السر في الاتجاه الدائم للعزف الأسرع على خشبة المسرح، فرهبة المسرح تسبب تسارعأً لضربات القلب، فيبدو للعازف أنه يعزف أبطأ من المعتاد، فيتجه للسرعة، ويعزف أسرع من المعتاد). والإرادة الإنسانية تختلف من شخص لآخر، وتختلف قوتها وطبيعتها من شخص لآخر. ولا يعني ذلك قطعاً أن الأشخاص ذوي الإرادة القوية لابد وأن يتسم نطقهم للمقاطع بشكل يختلف عن أولئك ممن تضعف إرادتهم، ولكن كل إنسان يجد في حديثه أو خطابه أو إلقائه على المسرح أو عزفه على آلة موسيقية طريقة للتعبير عن تلك الإرادة الكامنة في إيقاع الكلمات أو النص المسرحي أو الموسيقي.

وأما عن حجم الصوت، وأعني هنا إرتفاع الصوت أو إنخفاضه باللغة الدارجة، فإن ذلك أيضاً يرتبط إرتباطاً وثيقاً بطبيعة المؤدي، وطبيعة الموقف، وطبيعة الظروف الخ.

الشق الأول: نسيج الصوت (خامة الصوت)

الشق الثاني: تنغيم الصوت، وتنغيم الصوت في داخله ينقسم إلى التنغيم التونالي (نغمي: أي ارتفاع وانخفاض تردد الصوت غلظة أو حدة) و إيقاع التنغيم: من حيث سرعة أو بطء مقاطع الحديث أو الموسيقى وحجم الصوت: بين القوة أو الضعف.

كل تلك الخصائص المميزة للصوت (نسيج الصوت والتنغيم به من خلال التون والإيقاع والحجم) تتحكم فيها العواطف بنسبها الكيميائية المختلفة والمتنوعة والمدهشة فتعطي لكل منا في شتى بقاع الأرض، صوتاً ذو شخصية متفردة به لا يتكرر أبداً حتى ولو حاولنا التقليد (ولعلنا نلاحظ حينما يتصنع أحدهم، مهما بلغت مهارته، صوت شخص آخر..ومع أن العقل ينخدع بأن ذلك هو الشخص الذي نعرفه، إلا أن شيئاً ما في حدسنا يدفعنا دفعاً للإحساس بالشك، وقد لا نعرف سبباً لهذا الشك).

ويأتي بعد كل ذلك المضمون، مضمون النص اللغوي أو الموسيقي أو المسرحي أو الخطاب السياسي أو الديني الخ، بحيث تكون الكلمات أو النغمات الموسيقية هي ما يتلقاه العقل الواعي، بينما يتلقى الحدس (على مستوى أعمق) وتتلقى المستقبلات الحسية العاطفية عندنا خصائص الصوت (بصمة الصوت)، بحيث نتأثر بالبعض بشكل ما، بينما نتأثر بالبعض الآخر بشكل مغاير تماماً، ونستمع لنفس العمل، ونفس الأغنية من مؤد أو مغنية فنعجب بشدة، بينما ننفر من آخرين.

وتتغير بصمة الصوت (النسيج والتنغيم به من خلال التون والإيقاع والحجم) للإنسان الواحد في مراحله العمرية المختلفة، وبتغير طريقة تفكيره، وبتعدد ثقافاته. وتتغير طريقة التنغيم من لغة لأخرى ومن ثقافة لأخرى (فاليابانيون على سبيل المثال ينخفض صوتهم كلما إزداد غضبهم، بينما تتميز معظم الثقافات الأخرى بالعكس)، وفي حالات كثيرة تطغى طريقة التنغيم للغة الأم على الحديث بلغة أجنبية (فنتمكن في معظم الحالات من تمييز اللكنة الفرنسية في الحديث باللغات الأخرى، وبخاصة الإنجليزية).

إن صوت الفنان (البشري أو صوته على آلته الموسيقية) هي بصمة شخصيته المتفردة التي لا يشترك فيها معه أحد على الإطلاق، وهو صوت قابل للتطور والتغيير والتحول، ويجب أن يتماهى ذلك الصوت مع عمق المضمون الفني الذي يعمل الفنان طوال حياته على صقله، وتطويره، وجعله صادقاً قدر الإمكان ليعبر عن شخصيته، فالفنان هو من يملك القدرة على التجرد من أقنعته، هو من يستطيع التعبير عن مكنون روحه، إذا ما كانت تلك الروح تستحق أن يُعبَّر عنها. لابد وأن يكون التنغيم أداة طيعة يتمكن من خلالها الفنان أن يطلق طاقته نحو جمهور يأتي خصيصاً ليستقبل تلك الطاقة دون غيرها. فالفنان الحق هو من يستطيع ويمتلك الجرأة كي يتعرى، كي يكتسي الأخرون.

"نحن نتعرى لكي يكتسي الآخرون" – يحيى حقّي

Comments

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة