جليد صنع الله

من السطر الأول، ومن الكلمة الأولى لرواية "الجليد"، نبحر مع صنع الله إبراهيم نحو حالة حنين حبيسة في جغرافيا لم تعد موجودة (حيث تفكك الإتحاد السوفييتي الذي كان يمثل سدس مساحة الكرة الأرضية، وتفككت معه أحلام وآمال الملايين من البشر، بصرف النظر عن انتمائهم للأيديولوجية الشيوعية)، وتاريخ شخصي وعام ارتبط فيه شح المواد الغذائية، والنكهة المميزة للحياة السوفييتية آنذاك، والطابع الدعائي الشيوعي وتباين رد الفعل تجاهه بحرب فييتنام، وحرب السادس من أكتوبر، وبواكير خطة السادات في التنازل عن جميع أوراق اللعبة لأمريكا. خليط مدهش من الجنسيات، والأعراق، والرؤى، يجتمعون جميعاً حول قنينة فودكا، وبعض المزات الغريبة، يلتقون في أماكن غير تقليدية، في مدن جامعية، أو في منازل مستأجرة بشكل غير قانوني خلسة بعيداً عن أعين السلطة، أو في وسائل النقل العام، التي يصف لنا فيها صنع الله ابراهيم المزاج العام للشعب السوفييتي، ويصف في ذات الوقت أنماط بشرية غريبة عنا وجدت هناك في السفينة الضخمة التي لم يعد لها وجود (الإتحاد السوفييتي)، وفي اللحظة التاريخية الفاصلة (1973)، خليط مميز من الطلبة القادمين من أمريكا اللاتينية، والعراق وسوريا وألمانيا الشرقية وأفريقيا يمارسون طقوس عجيبة في الشرب والمأكل والجنس، حتى ليبدو للوهلة الأولى أن الرواية حسية في المقام الأول.
إنها رواية عميقة، تتحدث عن الإنسان الباحث عن الحلم والأمل، الذي يعود كل يوم فيكفر عن تهتكه، وانغماسه في ملذات حسية، بالقراءة، والعمل، وسماع الموسيقى الكلاسيكية، وزيارة المتاحف والحفلات الرفيعة، يضع لنفسه دائماً بوصلة، تجعل مغامراته الجنسية، وإن دار الحديث عنها بشكل مفصل ومكثف، خلفية لحالة إنسانية، واجتماعية، وتاريخية وسياسية فريدة. فالبطل وإن بدا سلبياً في معظم الأحيان مهتم، وراصد، وصاحب مشروع تحليلي شديد التفرد، في قراءة وتجميع قصاصات من جميع الصحف التي نقلها إلى غرفته في المدينة الجامعية في سيارتي أجرة، ونقلها إلى غرفته على مرتين. إنها نفس القصائص المتوازية التي جمعها عن المجتمع السوفييتي، ومجتمع الطلبة الأجانب وعلاقتهم بزملائهم السوفييت، ويشاركنا فيها على صفحات الرواية، بحيث تنسج تلك القصائص صورة بديعة متوترة، تطرح تساؤلاً بغير إجابة: "هل كانت السعادة هناك؟"..
كتاب لابد من قراءته...

Comments

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة