الشخصي والعام


شاهدت منذ يومين، بل كنت مشاركاً في اجتماع كان الهدف منه تأديبي، وتأديب قلة مندسة، انتخبها المجموع لترعى مصالحه، فما كان منهم (القلة) إلا أن تطاولوا على الرئيس، وحاولوا نزعه سلطاته المغتصبة خارج إطار اللوائح والقوانين، بل وتجرأت القلة المندسة على المساس بأوضاع مختلة، وغير عادلة يتمكن فيها الرئيس من منح مقربيه ومحظيته ميزات يكتسب بها سطوة في القلوب، وحباً من الجماهير.

وفي الاجتماع، وفي آلية الحشد التي اتبعها الرئيس ظهرت في الأفق مفاهيم مثل "احترام الكبير" و"التطاول على القيم الفنية الراسخة" و"انهيار الكيان" واختفت مفاهيم "المصلحة العليا" و"المال العام" و"العمل"، وتركزت القضية في شخص الرئيس، وعدم جواز المساس به، تحت أي ظرف من الظروف.

وكان السلاح الأعتى والأكثر خطورة الذي امتلكه الرئيس إما من خلال تكتيك استراتيجي منظم، أو ذكاء اجتماعي فطري لامع (لا أعلم!) هو: فرق تسد، حيث كان المجموع في حالتنا يعتمد على ميزات يغدق بها الرئيس بين الحين والآخر على ذلك الفرد أو ذاك، وتنازلات في إطارات تتسع أو تضيق وفقاً لأهمية الفرد في مجتمع العمل، مما تسبب في خلق بيئة أقرب إلى النادي الاجتماعي، أو إلى السوق التجاري حيث يقوم الأفراد بتبادل المصالح والخدمات مقابل تسيير الأعمال. ومع أول تهديد بانهيار المنظومة النفعية، يبدأ المنتفعون (وهم كثرة!) بالدفاع المحموم عن شخص الرئيس، وعن وجوده، وعن كينونته بوصفها كينونتهم الشخصية، ذلك أن الرئيس في مخيلتهم هو الضمان الوحيد لاستقراراهم، ولاستمرار مزاياهم ومنافعهم. وبينما من المؤكد أن الرئيس لا تعدو وظيفته كونه متصرفاً "فنيّاً" في أموال الدولة، وأن المزايا التي يمنحها ما هي سوى حق أصيل للفرد، يحصل عليه مقابل مهنيته، لا تفضلاً من سيادة الرئيس، إلا أن الجو العام يجعل من الرئيس ملكاً متوّجاً، يمنح ويغدق، ويتغاضى ويترفع (فضلاً منه وكرماً)، ويصبح للرئيس مع كل فرد على حدة علاقة شخصية عن طريق أدوات ووسائل لا يعلمها سوى الرئيس وصاحب المصلحة، ويصبح كل فرد مرتبط بالرئيس على حدة، عن طريق خدمة أو مصلحة أو لفتة كريمة منه. بينما لا تجتمع الجماعة، وتبقى الأسرار في القلوب، ولا يعلم الصورة كاملة سوى الرئيس الذي يتمتع في سكينة بمشاهدة "أفضاله" على المجموع، وعلى كل فرد منه. بل إنه يتلذذ بنظرات العرفان، والشكر والثناء.

وحينما جاء وقت الحساب، في الاجتماع الذي ذكرته، وحينما تطاولت القلة المندسة على الرئيس، وامتيازاته، واختصاصاته، وفندت تجاوزات الرئيس بشكل يقترب من الحقيقة ولا يمس إلا أيسر النذر من المخالفات الواقعة، قامت الدنيا ولم تقعد، وانتفضت الجماهير لتزيح هاجس الصدق، والصراحة، والتغيير، والشفافية، و"الفوضى"...التي تجلت في أبشع صورها، حينما اشتبكت الأفراد، وكل يحمل في نفسه ضغينة وسراً يهدد بإفشائه، وكل ينظر لزملائه المساكين ممن لا يعرفون سر الأشياء، ثم ينظر لرئيسه مهدداً بإفشاء "كل شيء"، ظناً منه أنه يمتلك السر كاملاً، فيخرج عليه زميل آخر يمتلك جزءاً آخر من السر، ويهدد به المجموع، واندلعت الخلافات التي كادت أن تمس الجسد بعد أن جرحت الروح جرحاً عميقاً سوف يمحيه الزمن، ولكن بعد حين.

لقد كان الاجتماع مثالاً حياً على تداخل الشخصي والعام، ومع أنني في ظل قيادة سابقة كنت أعتب على الاختفاء التام للشخصي والإنساني في الرئيس، وجفافه وقسوته مع مرئوسيه لدرجة العنف والصلف، وكان ذلك على حساب العام (الذي يفضي في النهاية إلى الشخصي في نهاية المطاف)، إلا أن ما حدث منذ يومين جعلني أعيد التفكير في أن بيئة العمل لابد وأن تكون صارمة، ومهنية بفجاجة...ولا مانع أن يختفي منها الشخصي والإنساني إلى حين أن نتعلم كيفية الفصل بينه وبين العام.

Comments

  1. we nafs el mawdou3 yatakarrar fi kol el magalat fi masr!
    3ashan keda el nass bet2oul el massreyyin ma beygoush gheir bel korbag.
    El moshkela fel ta3lim wel tarbeyya elli betezra3 fel nass el fark bein el shakhssi wel 3am!
    Law el nass bete3raf tefarra2 bein el etnein, lan yanga7 ayy ra2iss ennoh yel3ab ell le3ba dih!

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة