17a

-          مقعد بجانب النافذة لغير المدخنين من فضلك
-          الطائرة كلها لغير المدخنين يا سيدي، لا تقلق
-          إذن بجانب النافذة
"يالها من حمقاء لعينة، من أين يأتون بهم؟"...لا تقلق! حسناً أيتها الغبية...لن أقلق.
أخذ الأستاذ/ محسن أحمد عطا موجه اللغة العربية بوزارة التربية والتعليم كارت الصعود للطائرة، واتجه نحو جوازات المطار ليواجه مشكلة أخرى مع غبي آخر سوف يسأله عن سر وجود "عطا الله" في تصريح الخروج بدلاً من "عطا"، وسوف يضطر لشرح أن هناك ختم على ظهر الورقة، وإمضاء من رئيس المصلحة...كم لعينة هذه الدولة، إن الدقائق الأخيرة من وجوده بمطار الكويت، هي أصعب الدقائق على الإطلاق، فبعد مرور عام كامل من مصاعب العمل والمعيشة والطقس الردئ تأتي تلك اللحظات لتتوج ذلك العام، وتجعل الفرار من هذا البلد حتمي في نهاية المطاف، ولا يجدي في تلك اللحظات التفكير في أشرف أو إيمان أو دينا أبناءه الثلاثة الذين يحتمل الغربة والعذاب من أجلهم.
مرت المهة بسلام، ولم يكن موظف الجوازات سخيفاً كما توقع، واتجه الأستاذ/ محسن نحو الأسواق الحرة يمارس هوايته المفضلة في خلط العطور، إنها أمتع اللحظات في بداية عطلته الصيفية، حينما يبدأ في التعطر بزجاجات تجارب العطور المختلفة، ويخلطها جميعاً على جسده..حقاً أنه لا يميز في النهاية رائحته على الإطلاق، ولكن ذلك التقليد يعطيه شعوراً غير مبرر بالتفوق...كان عليه أيضاً أن يشتري أربع زجاجات عطر لأبنائه الثلاث وزوجته، سوف يدفع ما يقرب من سبعين دينار كويتي، بحساب بسيط وجد أن ذلك يعادل تقريباً عذاب أربع ساعات في زيارة مدرسة من المدارس الحكومية، أو ساعتين من اجتماع مع رئيسه، أو ساعة في تصحيح عينة من أوراق الامتحانات...لابأس! فأولاده وزوجته هم رأس ماله في هذه الدنيا، حقاً أنه لا يلقاهم سوى مرة في العام لمدة لا تزيد عن الشهرين ونصف الشهر، وحقاً أنه لا يتمكن من الاستمتاع بهم حتى في تلك الفترة لانشغالهم جميعاً بوسائل ترفيهية تختلف من سن لآخر، ولكنهم في النهاية أبنائه وزوجته.
لاحظ الأستاذ/ محسن عطا الله في نهاية السوق الحرة شكلاً مألوفاً لامرأة تبدو في الخمسينات من عمرها، طالعها وحاول أن يفهم سر الألفة، ولم يتمكن في بداية الأمر، وحينما اتجهت نحوه، بدأ في الفهم، بينما كانت هي ماضية في اتجاهه بعزم وألفة وابتسامة صديق قديم...
-          محسن أحمد عطا الله
-          عطا مش عطا الله
-          يا خبرك أبيض يا محسن...إنت لسه هناك ...واحشني.
مريم البنان...نعم إنها مريم، يا سبحان الله، هنا في مطار الكويت... "واحشني"...لم يسمع هذه الكلمة بهذا الصدق، وبهذه الأنوثة، وبهذا المعنى منذ ردح من الزمن، لعله لم يسمعها منذ افترقا ذات مرة في عطلة صيف ذهبت بصحبة أهلها إلي مرسى مطروح، وكان عليه أن ينتظرها زهاء أسبوع كامل. يا ألطاف الله، مريم البنان...ما الذي أتي بها إلى هنا؟ نظرت كعادتها إلى عينيه ودخلت منهما إلى روحه وأمسكت بها في قبضة يديها، وبدأت الحوار كعادتها من المنتصف، وكأنهما عاشقين كانا سوياً بالأمس...تلك هي مريم التي يعرفها، نعم. مريم الجميلة الرائعة، المدهشة، الحبيبة...لم تتغير قيد أنملة، بعض التجاعيد هنا وهناك، وقليل من الاكتناز، وبعض المساحيق غريبة الألوان، ولكنها العينين، والطاقة، والأنوثة، نفس الشخص يمثل أمامه بعد مرور...رباه!!! بعد مرور ستة وعشرين عاماً...ربع قرن من الزمان.
-          باشتغل هنا في شركة قطاع خاص، على فكرة غيرت الكارير، بعد ما سبت جوزي، غيرت كل حاجة ف حياتي، وابتديت من أول السطر...زمانك مستغرب، بس على فكرة فيه ناس بترجع تبتدي من الأول أكبر من كده بكتير. معايا حسام 19 سنة عايش مع ماما، وبانزل له مصر كل تلات اشهر...إنت عامل إيه؟ معاك اولاد إيه؟
-          ماشاء الله. معايا أشرف وإيمان ودينا 20 و15 ودينا تسع سنين.
-          ماشاء الله. إنت على أنهي رحلة؟
-          611 وإنتي؟
-          نفس الرحلة، ممكن نبدل كراسي مع حد في الطيارة وندردش في الرحلة، إنت كرسيك كام؟
هكذا بدون أي مقدمات، دائماً ما أعجبته جرأتها، وقدرتها على تخطي الحواجز التي كان من الصعب عليه هو "الرجل" تخطيها، لعل ذلك ما أثناه عن الارتباط بها، كان لديه هاجس غبي (اكتشف غبائه بعد زواجه وتورطه مع أحد قريباته من بعيد) أن المرأة لا يجب أن تكون جريئة، ولا يجب أن تكون لامعة الذكاء..وكانت مريم الاثنين معاً، وكان ذلك ما يطير عقله.
استخرج كارت الصعود للطائرة.
-          17a
-          17b، تفتكر صدفة؟
-          إنتي لسه هناك يا مريم؟ على فكرة إنتي ما كبرتيش ولا سنة واحدة.
-          وإنت عينيك زي ما هيه لسه جعانة...ولسة زي ما انت فلاح...اعدل ياقتك (اقتربت يدها لتعدل ياقته، وأحس بعطرها الفواح، وطاقتها الأنثوية الطاغية، وكاد يقع من طوله حينما فكر فيمن يمكن أن يراه في هذا الوضع المخل، ولكنه استسلم، أحس أنه يعود إلى أحضانها في غمضة عين...)
-          .....
-          .....
أحياناً ما يكون الصمت أبلغ رد على كل الأشياء، بالطبع أثبتت مريم نظريتها القديمة الأزلية، أن الإنسان هو من يصنع قدره، الإنسان هو ما يريده، ولاتحدث الأشياء إلا بإرادة الإنسان وسعيه على جميع المستويات لتحقيق ذلك، وتحديداًعلى مستوى الطاقة، والرغبة...هل كانت رغبتها تلك أن يتقابلا هي حقاً السبب في ذلك؟ هل كانت أفكاره المستمرة عن ذلك الحب الأول هي السبب؟ لا يعلم شيئاً، ولكنه يعلم شيئاً واحداً أن عطلته تلك لن تكون مثل كل العطلات.
على مقعد الطائرة أحس بدفء ذراعها يلتصق بذراعه، وكان ذلك كفيلاً بأن يستثيره كرجل، نسي تماماً ولمدة طويلة أنه رجل، لقد كانت تلك هي المرة الأولى في الساعة الماضية التي فكر فيها في زوجته وأولاده...اللعنة! إنه متزوج، وتعاقبت بعد تلك الفكرة ومضات لأفكار مجنونة عن تعدد الزوجات، وعن الزواج العرفي، وعن الطلاق، وعن وجه زوجته التي سيقابلها في البيت حال عودته في المطار (فهي لم يسبق أن استقبلته في المطار يوماً! الحمد لله سيمنحه ذلك وقتاً كي يلملم أشلائه بعد رحلة ممتعة سيقضيها بجانب حب حياته)، الأولاد صغار، لن يلمحوا السعادة في ركن عينيه..
لا يتذكر الأستاذ/ محسن كيف مضت تلك الساعات الثلاث، ولكن مريم التصقت به بأنوثة وحنين ورغبة،  حتى أنه أحس وكأنما كانت تلك ليلة زفافهما الذي لم يحدث مطلقاً. كان يعلم تماماً أن مريم غيرت حياته في السابق، ولكنه لم يكن يعلم كيف ستغير حياته في المستقبل.
في مطار القاهرة، وقف الأولاد الثلاثة في انتظاره، غرباء يكاد لا يعرفهم...احتضنه أشرف بقوة وفكر في نفسه لعله يحتضنه طمعاً في أن يغير سيارتهم القديمة بأخرى جديدة في تلك العطلة، ولكنه طرد تلك الفكرة على الفور، إنه إبنه الذي يحبه، وقطعاً لا يفكر في تلك التفاهات، ثم احتضنته إيمان، ولم يمنع نفسه من التفكير أنها ستطلب منه في خلال الأسبوع ألف جنيه ثمناً لفستان "سينييه" عليه تخفيضات في "سيتي ستارز"، وأيضاً لام نفسه أشد اللوم أنه يفكر في أبنائه على هذا النحو الفظيع، ثم احتضنته الصغيرة التي كان يحبها أكثر منهم جميعاً، ولكنها أيضاً كانت غريبة عنه...رائحتهم جميعاً غريبة، أو لعل رائحته هي الغريبة بعد تقليد الخلط الذي مارسه في مطار الكويت...
في جانب المشهد نسي الأستاذ/ محسن أن يعرّف الأبناء على زميلته في الرحلة وفي العمل وفي الدراسة طنط/ مريم...
-          على فكرة يا اولاد، طنط مريم كانت معايا في الجامعة، تصوروا بقه؟
-          فرصة سعيدة يا أشرف، فرصة سعيدة يا إيمان، فرصة سعيدة يا دينا، حمدالله على سلامة بابا يا اولاد، بعد إذنك يا أستاذ/ محسن أشوف وشك بخير.
أدرك محسن في تلك اللحظة أن حياته قد تغيرت للأبد، وأن مصدر تلك الرائحة كانت تلك الفيرمونات التي طفح بها جسده، واشتمها أبناءه ورأوا في عيني والدهم للمرة الأولى أثراً للحياة، وبجانبه كانت امرأة أخرى، اشتموا منها نفس الفيرمونات...
صباح اليوم التالي، استيقظ الأستاذ/ محسن أحمد عطا في السادسة، واستمع إلى تغريد كل عصفورة خارج نافذته، وحينما استيقظت زوجته في الحادية عشر، والقت عليه تحية الصباح.
-          صباح الخير يا بابا
لم يكن منه سوى أن رد عليها بكلمات ثلاث مقتضبة:
-          أنا اتجوزت عليكي.

Comments

  1. في رأيي المتواضع أن الحب الاول يتحول إلى مشكلة إذا كان ما يأتي بعده ليس بحب.. أما إذا صادف الانسان حباً آخر حقيقياً بعد الحب الأول فسيكتشف أن "حبك الأول هو حبك الأخير" كما قال احسان عبدالقدوس.
    أعجبتني القصة ،وانتبهت إلى الطريقة التي يفكر بها عطا نحو أولاده، فقد تغرب ليغرقهم في الأموال وبالتالي لم يعد ينظر إليهم إلا بتلك الطريقة. بل ربما إذا خلا الزواج من حب لن يتظر الانسان إلى بيته إلا بتلك الطريقة.

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة