الثامن من يوليو: الثورة على البراند

القيادة والعبور للمستقبل...فكر جديد...بلدنا بتتقدم بينا...علشان تتطمن على مستقبل أولادك...
في عام 2005 بدأ فريق جمال مبارك لصياغة المستقبل في عملية تحويل الحزب الوطني وأفكاره ورئيسه إلى سلع وعلامات تجارية يمكن تسويقها من خلال آليات تسويقية متعارف عليها، تعتمد على مؤشرات ومعايير يمكن بسهولة التعامل معها، وقياسها، وبالتالي استخدامها على نطاق واسع بنفس كيفية بيع السلع التجارية. وكان الفريق مكوناً من صحفيين محترفين، ومخرجين، وإعلاميين، وخبراء أمريكيين، وجيل جديد من شباب الحزب الوطني تربى في المدارس البريطانية والأمريكية والدولية، ثم أعقبها بدراسات في جامعات أوروبية وأمريكية، فأصبح الفريق مدهشاً في خلطته، واضحاً في انسلاخه عن الجلد القديم للحزب الوطني وانسلاخه التام في الوقت ذاته عن الشارع والريف والصعيد.
تعودنا في أوقات سابقة على الحزب الوطني الديمقراطي التقليدي الذي كان يميز أعضاءه الفجاجة، والغرور، والغباء في معظم الأحيان، الحزب الذي كان يؤثر على نتائج الانتخابات من خلال التزوير، وشراء الأصوات، والقبلية في الريف والصعيد، بل إننا تعودنا على مظهر الرئيس الرصين في صورته الكلاسيكية المعروفة في كل المصالح الحكومية منذ الثمانينات. ولكن في 2005 ظهر لنا الرئيس دون ربطة عنق (كاجوال)، ممسكاً بقلم فاخر في يده، وبدت الصورة طبيعية (مع استثناء صبغة الشعر) كصور الناخبين الأمريكان، وكان مؤدلجو المرحلة آنذاك يفكرون في نقلة نوعية للحزب، يتمكن من خلالها جمال مبارك الوريث المنتظر من القفز على السلطة، والتأثير بسحره وكاريزمته كلمسة أخيرة على تلك الحملة التسويقية باهظة التكاليف، والتي دفعنا جميعاً ثمنها من ضرائبنا كعادة الأشياء.
مع الوقت لم يتمكن ولي العهد من إثبات وجوده من خلال التسويق أو الكاريزما أو السحر الطاغي لشخصيته، وكان من الضروري استخدام أسلحة أخرى، فكانت "الثورة الاقتصادية"، وصك زميله أحمد عز لقب "مفجر الثورة الاقتصادية"، وامتلأت أروقة السلطة برجال الأعمال من أصدقاء "البيه الصغير"، وبدأ التخبط بين نظام مترهل يجر ملايين الموظفين في الدولة، ويعاني من بطالة مقنعة، وبين سياسات خصخصة تبحث عن التربح، والكسب السريع، والمشاريع المحدودة المضمونة، كذلك فقد بدأ التخبط بين شباب المستقبل وبين الحرس القديم، في صراع حسمه شباب المستقبل الذي حلق بعيداً عن جمود الحرس القديم بشعره المصبوغ أو المستعار وحلق أيضاً بعيداً عن آلام الملايين المطحونة من شعب لم يتخلص بعد من أميته ومن فقره ومن مرضه. وبعد "مفجر الثورة الاقتصادية" جاءت "محطة الضبعة النووية" ودخول مصر "العصر النووي" كي يصبح جمال مبارك هو القائد الجديد لمصر النووية. ولكن ذلك أيضاً لم ينجح...
في الأيام الأولى للثورة كانت بوصلة المصالح الأمريكية في مصر لاتزال في اتجاه النظام، في اتجاه الصديق القديم والحليف الاستراتيجي، ورجل المهمات والأجهزة القذرة التي تنفذ العمليات التي لا يمكن تنفيذها على أراض أمريكية أو أوروبية، فنظام مبارك لم يكن سوى ماسورة الصرف الصحي للحليف الأمريكي الذي يرتبط معه بمعاهدة الحرب على الإرهاب ومطاردة القاعدة. لذلك كانت تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية في بداية الثورة، مشجعة للنظام على اتخاذ كل ما يراه ملائماً (بما في ذلك الإجراءات القذرة التي يعلمها كلا الحليفين) للحفاظ على الاستقرار، الذي يروج له جهاز الميديا الجديد، المرتبط ارتباطاً وثيقاً بمبارك الإبن وأصدقاءه وحاشيته.
ومع كل يوم يمر، ومع كل معلومة تتسرب، وجد الأمريكيون أنفسهم أمام حقيقة مؤلمة، تشبه حقيقة مستنقعاتهم المتفرقة في أفغانستان والعراق، وهي أن مصر هي الأخرى مجتمع غير ممسوح بالكامل على رادار السياسة الخارجية الأمريكية، مع كل المعونات، وكل التدخلات، وكل الدعم لمنظمات المجتمع المدني (التي كانت تنفذ إلى المجتمع المدني من خلال ماسورة واحدة يتحكم فيها الحزب الحاكم وأعوانه)، فمصر تتكون من مفرمة ضخمة لثقافات ومجتمعات متفسخة فيما بينها طبقياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وجغرافياً.
كذلك وجد الأمريكيون أن الصورة التي ينقلها النظام لهم عن مصر كانت بعيدة كل البعد عن الواقع، ناهيك عن التهويل والكذب والفساد الذي كان الشريك الأمريكي كثيراً ما يتغاضى عنه في سبيل مصالحه الاستراتيجية في المنطقة. تخلى الأمريكان عن مبارك، وكانت أمريكا وإسرائيل هي القاعدة التي يستند إليها مبارك في حكمه لمصر، بينما ظلت إسرائيل تقف إلى جانبه حتى اللحظة الأخيرة (بل وإلى الآن، وهو يرقد في شرم الشيخ مركز عمليات القيادة الإسرائيلية في حرب أكتوبر).
في تلك اللحظة ارتكب مبارك أكبر حماقاته على الإطلاق، بلجوءه ولأول مرة بشكل واقعي وحقيقي إلى الشارع، ولكن الشارع قد نسيه تماماً كما نسي هو الشارع زهاء ثلاثين عاماً، ومع ذلك فقد تمكن من جمع شتات طبقة المصالح المرتبطة به وبولديه، وتمكنت تلك الطبقة من حشد عدد لابأس به من الجمال والبهائم والمرتزقة ممن تضرروا من أحداث الثورة وتوقف السياحة، فكانت موقعة الجمل التي قطعت كل أمل له في استعادة أي شرعية لوجوده سواء خارجية من جانب الأمريكان أو داخلية من جانب الشعب الذي تضاعفت كراهيته مع كل معلومة جديدة عن فساد حاشيته ونظامه. وفي تلك اللحظة كان الخطاب التاريخي الذي طعن مبارك في شرفه طعنة  ظنناها وقتها الأخيرة فقال بالنص:
"أقول لكم قبل كل شئ أن دماء شهدائكم وجرحاكم لن تضيع هدرا، وأؤكد أنني لن أتهاون في معاقبة المتسببين فيها بكل الشدة والحسم. وسأحاسب الذين أجرموا في حق شبابنا بأقصى ما تقرره أحكام القانون من عقوبات رادعة. وأقول لعائلات هؤلاء الضحايا الأبرياء، أنني تألمت كل الألم من أجلهم، مثلما تألمتم، وأوجع قلبي ما حدث لهم، كما أوجع قلوبكم. أقول لكم أن استجابتي لصوتكم ولرسالتكم ومطالبكم هو التزام لا رجعة فيه، وإنني عازم كل العزم، على الوفاء بما تعهدت به، بكل الجدية والصدق، وحريص كل الحرص على تنفيذه دون ارتداد أو عودة إلى الوراء. إن هذا الالتزام ينطلق من اقتناع أكيد بصدق ونقاء نواياكم وتحرككم وبأن مطالبكم هي مطالب عادلة ومشروعة، فالأخطاء واردة في أي نظام سياسي، وفي أي دولة. لكن المهم هو الاعتراف بها وتصحيحها في أسرع وقت، ومحاسبة مرتكبيها... أصدرت تعليماتي بسرعة الانتهاء من التحقيقات حول أحداث الأسبوع الماضي، وإحالة نتائجها على الفور إلى النائب العام ليتخذ بشأنها الإجراءات القانونية الرادعة."
ليتحول مبارك القوي العنيد، صاحب العصا الحديدية البوليسية الغليظة، إلى حمل وديع، وأب رؤوف يتحدث عن الشهداء، ويتألم لمقتل الأبرياء (الذين قتلهم بقرار جبان خسيس تحت سمعه وبصره!)، ليتحول مبارك إلى زعيم يستمع ويستجيب لصوت ورسالة ومطالب الشعب والشباب ويلتزم بذلك التزاماً لا رجعة فيه، التزام ينطلق من صدق نواياكم وتحرككم. بل وفي نهاية المطاف يعترف بالأخطاء، ويعد بتصحيحها...
قال مبارك تلك الكلمات، ولم تكن كلماته في مجلس الشعب: "خليهم يتسلّوا"قد برحت ذاكرة نفس الشعب الذي لجأ إليه...قال تلك الكلمات، ودماء الشهداء لاتزال رطبة على أسفلت الميدان...لم تكن كلماته تلك سوى سكب للزيت على النار، فانطلقت الجموع نحو قصر العروبة ليلتها، وخرج مبارك مخلوعاً بعاره، ومسحت الدماء التي لطخت يديه كل بطولة واهية حاول نظامه إقناعنا بها طوال ثلاثين عاماً.
بعد أحداث الثورة، تنبه مؤدلجو النظام بسرعة فائقة إلى الحاجة الماسة للقفز على العلامة التجارية الجديدة (25 يناير)، لذلك كانت هناك بعض الحركات التي بدأت بالفعل في إنشاء أحزاب جديدة على أنقاض شباب المستقبل، وسميت (شباب 25 يناير). ومع الوقت ومع تلاشي الرئيس والحزب والوريث من المشهد السياسي، بقيت الحاشية، وبقي المؤدلجون، وبقي نفس الفريق الذي كان يعمل بحمية من أجل تلميع الحزب منذ 2005، وبدأت العلامة التجارية في التحور قليلاً، وبدأت الديكورات والملابس وطبيعة المشهد السياسي تتغير، ودخلت على الخط آليات قديمة في ثوب جديد، فتنة طائفية، وإشاعة الذعر من الانفلات الأمني، ومحاكمات عسكرية لمدنيين تنتشر أخبارها فترهب السائب من خلال ضرب المربوط.
تحولت الثورة مع الوقت إلى "براند" (علامة تجارية) تشبه علامات الحزب التجارية في 2005، تحولت الثورة إلى كافيه "25 يناير"، وإلى نياشين "الثورة" وإلى تي شيرتات "الثورة" التي أصبح أي سائح أو مسافر إلى الخارج يصطحبها معه، وأصبح "الورد اللي فتح في جناين مصر" مجرد مصطلح يفتقد إلى الجدية، أو الترجمة لواقع ملموس في معاشات أو أسماء شوارع أو أسماء معارض (بالمناسبة: لاتزال هيئة المركز الثقافي القومي (دار الأوبرا) ترفض الانصياع لقرار وزير الثقافة بتسمية قاعة العرض بها بإسم الشهيد/ زياد بكير). وتزامن ذلك أيضاً مع ظهور آليات قمعية قديمة من قبل المجلس العسكري الحاكم تمثلت في المحاكمات العسكرية، واستصدار قانون بمنع التظاهر والاعتصامات، والمحاكمات الصورية البطيئة لرموز الفساد، بل وبراءات بعض الفاسدين، وإطلاق سراح الضباط المتورطين في قتل المتظاهرين. وانطلقت في الوقت نفسه عدد من الإشارات تؤكد بداية ثورة مضادة، تكتسب زخماً يتناسب طردياً مع تضارب الرؤى السياسية للنخب الوليدة المتصارعة، وتتناسب طردياً مع سيادة نفس حالة الاستقرار الوهمية التي سادت قبل الثورة.
اليوم وقف الشعب المصري العظيم مرة أخرة في الميدان يصارع الطبيعة متمثلة في الجو الحار، ويصارع ثورة مضادة تتمثل في بطء محاكمة الفاسدين، وعدم محاكمة الرئيس المخلوع، ويصارع تباطؤ وتواطؤ القضاء مع قتلة الثوار، ويصارع مجلساً عسكرياً جاء بفعل الثورة ووعد بحمايتها، ثم رأينا الثورة تتحول أمام أعيننا إلى علامة تجارية خالية من المضمون.

Comments

  1. قراءة جديدة و جريئة و تحليل منطقى للأحداث,
    يجب ان ينشر هذا هذا المقال فى الصحف الورقية,

    ReplyDelete
  2. رائع كا العادة يا فنان

    ReplyDelete
  3. تحولت الثورة مع الوقت إلى "براند" (علامة تجارية)
    وأصبح "الورد اللي فتح في جناين مصر" مجرد مصطلح يفتقد إلى الجدية

    da keda 2a5er kalam .. a7sant kal3ada

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة