كتيبة الصواريخ تطلق النيران

اصطحبت إبني بالأمس في رحلة لبانوراما حرب أكتوبر، وساءني ألاَ أجد أي ذكر لأي مشاركة سوفيتية في حرب الاستنزاف، والتي ساعدت فيها كتائب كاملة من الجيش السوفييتي. لذلك قررت أن أنشر مقال كنت قد ترجمته منذ عام لأحد الضباط  السوفييت المشاركين في حرب الاستنزاف.
كتيبة الصواريخ تطلق النيران

ك.إ.بوبوف

لقد مضى أكثر من ثلاثين عاماً منذ تلك الأيام الساخنة بالمعنى المباشر وغير المباشر لتلك الكلمة. وفقدت الذاكرة الكثير كما رحل كثيرون عن هذا العالم. تاهت الأسماء والتواريخ، وبعض التفاصيل. وهكذا فإن المرء حينما ينظر إلى الوراء ويتذكر ويقيم الماضي، يود أن يشاركه القراء في بعض الأفكار بشأن ما حدث.
في أكتوبر 1969 جاءني في كتيبة الصواريخ مدير شئون العاملين بالجيش العقيد ي.ج.بولوإيكتوف والقائد- العقيد ب.ي.جايفورونوك وبدأ كلاهما الاستعلام عن الاستعداد القتالي والسياسي، عن الالتزام، وعن التعبئة إلى جاتب عدد آخر من القضايا. ولم يجيبا على أسئلتي. وتقريباً في المرة الثالثة لزيارة مقر الفرقة أخبرني العقيد جايفورونوك أنه يتم تكوين فرقة للمساعدة في إعداد العسكريين المصريين في الاتحاد السوفيتي. لذلك فإن هناك مهمة عمل في ميدان الرماية في أشولوك، وتلك المهمة تتطلب ضباطاً وعرفاء وجنود على قدر عال من التعليم والانضباط وتحمل المسئولية. وفي الفترة من نوفمبر إلى ديسمبر 1969 قام طاقم القيادة بتعبئة كتيبة صواريخ حتى الكوادر المدنية على حساب عناصر من الوحدات والكتائب الأخرى. وفي ليلة 2 إلى 3 يناير 1970 خرجت ثلاثة كتائب صواريخ إلى محطة النقل في ألابينو وفي نهاية يوم 3 يناير انطلق القطار العسكري إلى أشولوك.
وصلنا إلى محطة الوصول تقريباً أيام 6-7 يناير، وانتشرنا وشرعنا في الاستعداد لتدريب العسكريين المصريين الذين بدأوا في الوصول. تم آنذاك تكوين لواء يتكون من ست كتائب مدفعية مضادة للطائرات وكتيبة واحدة فنية، وسرية مركبات، وتم تكوين إدارة للواء ووحدة تأمين.
كان النظام قاسياً، فكانت الدروس قبل الغداء، ثم نشرع في ضبط المعدات والتحضير لليوم التالي. وكان اليوم عادة ما ينتهي في منتصف الليل.
كنا نولي اهتماماً كبيراً بالجانب النظري للإعداد لعملية إطلاق النار. وقمنا بالتدريب على التصويب على أهداف حقيقية، وبخاصة تلك الأهداف التي تطير على ارتفاعات منخفضة ويعوق رؤيتها التشويش. ولابد من التنويه على أنني وعلى مدار خمس سنوات من قيادة كتيبة الصواريخ لم أر ولو لمرة واحدة تشويشاً مؤثراً، ولم يختلف الوضع هنا أيضاً.
في بداية فبراير استلمنا معدات جديدة وبدأنا تدريبات مكثفة لإطلاق النار. وشرعنا في التدريبات الليلية، وأولينا إهتماماً  كبيراً لصور أخرى من إعداد العسكريين. ولكن أحداً لم يخبرنا بالهدف الحقيقي من تلك التدريبات التي كنا نقوم بها. وكان الجميع يعلم تماماً أن علينا إعداد العسكريين المصريين فحسب. ولم يكن لدي كقائد للكتيبة صورة كاملة لما يحدث. وبعد وقت قصير وصل إلى أشولوك اللواء طيار نيكولاي أليكساندروفيتش كوزلوف وأمرني بأن أعلن لجميع طاقم القيادة أننا بأنفسنا سوف نقوم بالاستعداد للسفر قريباً للحرب في مصر. ولم تكن هناك أي معلومات إضافية سوى ذلك.
في ذلك اليوم تم عقد اجتماع لطاقم القيادة لتحديد المهام. ثم كثفنا عمليات التدريب على إطلاق النار والتصويب، ودراسة الجانب المادي. زادت التدريبات الليلية، وتدريبات فك وتركيب المعدات. وفي منتصف شهر فبراير قمنا بتدريبات إطلاق النار على أهداف طائرات حقيقية دون طيار تطير بسرعات عالية على ارتفاعات منخفضة. وحصلت الكتيبة على درجات مرتفعة في تقييم إطلاق النار. ثم وجهنا اهتمامنا لدراسة البلد التي سنحارب بها.
في 27 فبراير تلقت الكتيبة الأولى التعليمات بالتجمع 28 فبراير والخروج إلى محطة النقل وخرج القطار من أشولوك في الأول من مارس. وصلت الوحدة إلى نيكولاييف. وهناك حصلنا على 3 مدافع مضادة للطائرات ذاتية الدفع (شيلكا) ZSU23-4 ومجموعة الصواريخ المحمولة Strela-2 وقاطرات. وكان أفراد فصيل التأمين للمدافع والصواريخ والسائقين من سلاح القوات البرية، ورأيناهم آنذاك للمرة الأولى. ثم تعارفنا بعد ذلك وتبادلنا المعلومات عن بعضنا البعض أثناء الطريق البحري. كان جميع أفراد طاقم القيادة في ملابس مدنية. وتم إرسال الملابس العسكرية إلى عناوين المنازل. وفي 8 مارس صعدت الكتيبة إلى الحاملة "جيورجي تشيتشيرين" والتي أبحرت من الميناء في الثانية عشر ظهراً. في أسفل الحاملة كانت هناك معدات القتال والصواريخ والذخيرة والمواد التموينية ومعدات وأجهزة أخرى. بينما كانت العربات والديزل على سطح الحاملة. حيث تم تحميل كتيبتي صواريخ على تلك الحاملة.
وشغل الرقباء والجنود عنابر المركب بينما شغل الضباط الكبائن، وتم تجهيز نظام غذائي مكون من ثلاث وجبات ساخنة للجميع.
في الساعة التاسعة من مساء يوم 11 مارس وصلت الحاملة إلى ميناء الإسكندرية، حيث كان في استقبالنا ممثل كبير المستشارين العسكريين، قائد الفرقة اللواء أ.ج.سميرنوف، وقائد لواء العقيد ب.ي. جايفورونوك وآخرين. وتمت عملية إنزال الحمولة وتلوين المعدات الحربية باللون الرملي، وارتدى أفراد طاقم القيادة الزي العسكري المصري وتم تحميل كل المؤن على القاطرات. و يوم 12 مارس في السادسة صباحاً شغلت الكتيبة مواقع إطلاق النار المعدة خصيصاً لها. وكانت التعليمات الموجهة إلينا أن نكون على استعداد لإطلاق النيران بدءاً من الساعة التاسعة صباحاً. وقد تمكنت الكتيبة من تنفيذ تلك التعليمات.
أثناء شهر مارس من عام 1970 تم في جمهورية مصر العربية تكوين كتيبة مضادة للصواريخ.
وكان اختيار مواقع إطلاق النار لكتائبنا المضادة للصواريخ والكتائب التقنية (الفنية) قد تم من قبل، وتم بناء غطاء من الأسمنت المسلح للكابينة (K)، وللديزل و  УНСو ПРМ و СРЦ-П-15 ومحطة الاتصال Р-405 لأفراد طاقم القيادة. بينما تم تغطية معدات الإطلاق ومواقع الإطلاق ТЗМ بأكياس من الرمال. وكانت معدات النقل ووحدة التغذية لأفراد الكتيبة على بعد كيلومتر ونصف الكيلومتر من منصة إطلاق النار.وكانت المدافع الثلاثة المضادة للطائرات ذاتية الدفع (شيلكا) ZSU23-4 موجودة على بعد 300-500 متر من منصة الإطلاق. وأزيحت مجموعة الصواريخ المحمولة Strela-2 على بعد 5-7 كيلومتر من موضع إطلاق النار، في الأماكن الأكثر احتمالاً لطيران طائرات العدو على ارتفاعات منخفضة. كذلك فقد تم وضع نقطة للمراقبة. وكانت وسيلة الاتصال بين جميع النقاط بشكل أساسي عن طريق مكبرات الصوت المتصلة عن طريق الأسلاك. وكان تأمين مواقع الإطلاق يتم بواسطة طاقم قيادة الكتيبة وفصائل الجنود المصريين. وكان تركيز (شيلكا) وStrela-2 على مواقع الإطلاق يتم أثناء الليل ثم تعود أماكن تمركزها عند الشروق. وكان مصدر الطاقة الكهربائية للمعدات من خلال مولدات الديزل للكتيبة والتي تعمل طوال اليوم. ولابد من التنويه على أنه في خلال عام من العمل المتواصل لم يكن هناك أي أعطال أو مشكلات في УНС أو مولدات الديزل.
وهكذا فإنه في 12 مارس في التاسعة صباحاً تسلمت الكتيبة نوباتجية القتال. (تم تسليم الكتيبة للواء آخر وظل في الإسكندرية). حيث لم يستطع أحد أن يترك أماكن وضعه القتالي. وكانت أعمال الصيانة تتم فقط أثناء الليل. وبغض النظر عن أن المعدات كانت تحت غطاء من الأسمنت المسلح فإننا لاحظنا أثناء عمليات الصيانة في لوحات التحكم طبقات من الأتربة. وقررنا آنذاك وضع طبقات من الخيش على أرضية الكابينة وترطيبها بالماء من حين لآخر. ولكن ذلك أدى في الوقت نفسه إلى تسرب الصدأ إلى اللوحات وانخفاض معدل العزل. لذلك اظطررنا إلى العدول عن فكرة الترطيب بالماء. ولكننا أبقينا على الخيش واسعننا أيضاً بأغطية المعدات وأصبحنا نجري عمليات الصيانة بمعدلات أكبر. وتلك كانت الصعوبات التي واجهناها.  ولكن ما زاد الأمر الصعوبة هو عدم معرفتنا باللغة العربية أو الإنجليزية. كما لم يكن هناك مترجمين. وكانت ظروف الطقس قاسية، والتهديد المستمر للهجوم الجوي من قبل العدو من الأمور التي جعلت الأمر شاقاً بالنسبة لنا. كذلك فلم تكن هناك أي اتصالات متبادلة بين كتائبنا، ولم نكن نحصل سواءً من الكتائب الروسية الأخرى أو من الجانب المصري على أي معلومات على اللوحة  الطوبوغرافية عن الطلعات الجوية. كنا نعمل بشكل مستقل تماماً. حتى أن المعلومات المتاحة التي كنا نتلقاها من نقطة القيادة كانت خاصة بالأربع والعشرين ساعة الماضية. كما أن الطيران المصري لم يكن على مما يرام هو الآخر ولم نكن نتلقى إشارة "طيران صديق" من الطائرات المحلقة.
في 17-18 مارس على وجه التقريب تلقينا تعليمات من لواء نقطة القيادة ب"اعتبار الطائرات المحلقة على ارتفاع أقل من 6 كم وأقرب من مسافة 25 كم طائرات معادية وتدميرها" . وتم توصيل تلك التعليمات لجميع طاقم القيادة. وفي مساء أحد الأيام وعلى ارتفاع 1000 متر حلقت طائرة عبر موضع الإطلاق. وكانت تحمل أنواراً على جسم الطائرة ومن الممكن رؤيتها بالعين المجردة. وكنت في هذه اللحظات مع نائب قائد الوحدة للشئون السياسية الرائد ي.م.فوزدفيجينسكي أمام مدخل المخبأ. فسمعنا فجأة إطلاق للنار ورأينا صاروخاً انطلق باتجاه الطائرة. ثم سمعنا انفجاراً وانطفأت أنوار الطائرة.
فهمنا حينئذ أن إطلاق النار جاء من أحد مواقع إطلاق الصواريخ المحمولة Strela-2، هرعت إلى نقطة قيادة الفرقة  وسألت باللاسلكي:"من أطلق النار؟". ومن المنصة الأولى لإطلاق الصواريخ المحمولة Strela-2 جاء الإبلاغ عن إطلاق صاروخ وتدمير الهدف، وعدد الصواريخ التي تم إطلاقها- واحد. وتم الإبلاغ عن ذلك على وجه السرعة إلى وحدة القيادة للواء. ثم اتضح بعد ذلك أن الهدف كان طائرة ركاب من طراز AN-24 وعلى متنها طاقم مصري وركاب متجهين إلى القاهرة. وعلى إثر الصاروخ تحطم المحرك الأيمن للطائرة ولكن الطيار استطاع أن يصل بالطائرة إلى جهة الوصول ونجح في الهبوط في مطار القاهرة الغربي. ونشرت الصحف المصرية في اليوم التالي أن أحد محركات الطائرة انفجر لسبب غير معلوم، ولكن طاقم الطائرة تمكّن بشجاعة ومهارة من إنقاذ الركاب والطائرة.
بعد تلك الحوادث تم إرسال طوبوغرافيين مصريين، وتم وضع إشارة الرد "طيران صديق" على جميع الطائرات وتم تنظيم الطيران. وأصبحت رحلات الطيران تتم بعلم الفرق التي كانت تتلقى معلومات على اللوحة الطوبوغرافية من الاستخبارات الحربية المصرية.
لابد من التنويه عن أن هناك خطأ كبير ارتكبناه أثناء الإعداد لمواقع الإطلاق، ألا وهو أننا كنا نقوم بوضع أركان معدنية مدببة على غطاء أنابيب عوادم الغازات الناتج من محركات الديزل، وكانت تلك الأركان المدببة تشبه في مواصفاتها الأركان المعدنية التي كنا نستخدمها أثناء تدريبات إطلاق النار بالقواعد العسكرية في الاتحاد السوفيتي. إلا أن تلك الأركان المدببة في ظل الطبيعة المحيطة في مصر كانت عواكس جيدة وكان من الممكن أن تصبح أهدافاً أرضية جيدة للعدو. أي أنها كانت تظهر أماكن الإطلاق بدلاً من أن تخفيها. فاضطررنا أن نزيلها ونضعها على بعد بضعة أمتار من مواقع الإطلاق.
بعد شهر تلقت الكتيبة أوامر: بإعادة التوزيع في منطقة الفيوم، والتي توجد على بعد 90 كم تقريباً من القاهرة. تمت عملية إعادة التوزيع للكتيبة بالتدريج وأثناء الليل فقط. فكنا أثناء الليل نقطع ما يقرب من 170 كم، واسترحنا في المنطقة الخضراء على أطراف القاهرة، وفي الليلة التالية قطعنا المسافة المتبقية، وأقمنا مواقع إطلاق جديدة في محيط بحيرة قارون بمنطقة تسمى كوم أيشوم وفي السادسة صباحاً كنا في وضع الاستعداد لإطلاق النار.
 وكانت مهمة الكتيبة حماية القاعدة الجوية هناك والتي كانت تستخدم في إطلاق طائرات ميغ-21 والتي كان يقودها طيارين سوفيت.
وتم إنشاء مواقع من الأكياس الرملية، واختبأ طاقم القيادة في الخنادق. كما تم وضع أكياس رملية على سطح كابينة الإطلاق. وكانت تلك وسيلة الحماية ضد صواريخ"شرايك" ذاتية التوجيه فقط والتي كان يستخدمها الطيران الإسرائيلي. وكان الاتصال بوحدة قيادة اللواء وبالقاعدة الجوية عن طريق اتصال سلكي، وتليفوني وبواسطة مكبرات الصوت. كما أن المعلومات الطوبوغرافية كانت تنتقل إلينا عن طريق وسائل اتصال سلكية. وكانت طرق الاتصال بشكل عام مستقرة.
وبعد وصولنا بيوم كانت طائرات الميغ-21 تستعد لنوباتجية قتال وتقوم بتدريبات للطيران. كما انطلقت طائرتي ميغ-21 من الجنوب، من منطقة بني سويف. كما كنا نتدرب نحن أيضاً على العمل القتالي. وبانتهاء الطيران رأينا على شاشاتنا هدفين (طائرتين تطيران جنباً إلى جنب). فسألت من بجانبي ما إذا كانت جميع طائراتنا في قواعدها؟ فكانت الإجابة أن طائراتنا في قواعدها ولكن طائرتي بني سويف لاتزالا في الجو. ثم أعدت السؤال، وتم تأكيد الوضع نفسه لي. في الوقت نفسه الذي تحركت فيه هاتين الطائرتين باتجاه الكتيبة. وتابعناهما. وكانتا تطيران على ارتفاع 6 كم بسرعة 250 متر/ثانية وهي الإحداثيات والظروف المثالية المواتية لإطلاق النار. ثم سمعت فجأة إشارة من القاعدة الجوية بأن طائرتي "فانتوم" تتحركان باتجاه الكتيبة. ثم أخبرني موقع "Strela-2" أن طائرتي "فانتوم" حلقتا فوق الموقع وابتعدتا باتجاه بني سويف. وكان ذلك التحليق لطائرات "الفانتوم" فوق مواقعنا يحدث من قبل على مدينة القاهرة. وكانت تلك الأحداث تثبت أن العدو على استعداد جيد، ودرس مواقعنا بدقّة ويستخدم أي أخطاء نقوم بها.
وبتحليل ذلك الموقف الخاص بتحليق طائرتي "الفانتوم" قمنا بتوجيه اهتمامنا بشكل أكبر نحو الاستعداد لإطلاق النار، والنوبات القتالية وفعالية الاتصال المتبادل مع طائراتنا.
في منتصف شهر يوليو جاءتنا نحن الكتيبة الأولى تعليمات بالتحرك نحو القناة وإعداد كمين وإطلاق ضربة موجعة للطيران الإسرائيلي. ومن أجل هذا الهدف اخترنا موقعاً للكتيبة جنوب مدينة الإسماعيلية. وقمنا بتجهيز مواقع الإطلاق الرملية (من أكياس الرمل). وعلى بعد 15-20 كم تقريباً إلى الجنوب تم اختيار منصة الإطلاق لكتيبة المقدم ن.م.كوتينتسيف.
تلقيت أمراً بتاريخ 29 يوليو بالتحرك لإعداد الكمين يوم 31 يوليو، وأثبت طاقم القيادة جدارته في تعبئة الكتيبة والتحرك نحو المواقع الجديدة، وتفوق على أدائه بضعفين ونصف الضعف. وكان علينا أن نقطع 150 كم ونشغل مواقع الإطلاق أثناء الليل واخفاءها والاستعداد لإطلاق النار في السادسة من صباح يوم 1 أغسطس.
قمنا بالتحرك أثناء النهار على ستة أسراب تتكون كل منها من 5-6 مركبات ويفصلها عن بعضها البعض15-20 دقيقة. وتم شغل مواقع الإطلاق على عجل وكان الاستعداد للقتال يتم في مدة زمنية مضغوطة، وفي ظلام دامس، وكانت مصابيح الإضاءة الصغيرة (مصابيح الجيب) هي الطريقة الوحيدة للتعرف على طبيعة الأرض الجديدة. وجنوباً من موقعنا تمركزت كتيبة المقدم ن.م.كوتينتسيف وشمالاً من موقعنا تمركزت كتيبة مصرية.
وبعدما شغلنا مواقع الإطلاق وأعددنا المعدات للإطلاق أولينا اهتماماً كبيراً لمسألة التمويه. فقد كان موقع الإطلاق تم اختياره على حافة أحد البساتين، وبجانب البستان كانت هناك ساقية، ومزارع للفلاحين. واستخدمنا للتمويه شباك من اللونين الأصفر والأخضر، وأغصان من الشجر، وعيدان من الذرة وكل ما وقعت عليه أيدينا. وأحطنا ماسورة العادم بحلقات من المطاط وربطناها بالقرب من الساقية. قمنا بتغطية مواقع الإطلاق لدرجة أنه كان من الصعب التعرف عليها من الأرض. وفي وسط الموقع نصبنا كابينة المراقبة العينية. وربطنا جميع النقاط سلكياً بمكبرات للصوت. كل ذلك تم عمله في ليلة واحدة. وقع النصيب الأكبر من العمل على ضباط الاتصالات، فقد قاموا بتوصيل ما يربو على 30 كيلومتر من الأسلاك.
في السادسة من صباح 1 أغسطس، كانت الكتيبة مستعدةٌ للقتال. تم تنظيم نوباتجية قتال. كانت قيادة الوردية التي لا تعمل تستريح إلى جانب الأماكن القتالية. وتم تنظيم عملية تقديم الطعام بواقع ثلاث وجبات ساخنة. كما تم إنشاء ماقع إطلاق وهمية على بعد 800 متر من مواقع الإطلاق وتم هناك أيضاً اتخاذ بعض إجراءت التمويه.
قام الطيران الإسرائيلي في الأول والثاني من أغسطس بعدد من الطلعات الجوية بمحاذاة القناة. من الممكن التكهن بأن الإسرائيليين قد علموا شيئاً عن مواقع تمركزنا، وكانوا يحاولون من خلال طيرانهم العثور علينا. ولكننا لم نعط أي أثر للحركة. كنا نقوم بالاتصال اللاسلكي لعدد من الثواني. وعملت وحدات الاتصال СРЦ П-15 باستمرار.
2 أغسطس وصل اللواء جروموف. وتناقشت معه حول قضية النوباتجيات، واتفقنا على أنه إذا ما مر يوم 3 أغسطس بنفس الهدوء، سنبدأ ليلة 4 أغسطس في التحرك لموقع آخر. فقام هو بدوره بشكر قيادة الكتيبة على دورها الجيد في إعداد الكتيبة للقتال.
الساعة 12:00 يوم 3 أغسطس حلّقت مجموعة كبيرة من الطائرات منسقة من حيث الارتفاع ومن حيث العمق. ولم تقترب الطائرات من مواقع إطلاقنا أقرب من 18 كيلومتر. قامت الكتيبة المصرية بإطلاق النار، وأسقط طائرة "ميراج". في الساعة 14:27 بدأت غارة جوية جديدة، وكان السرب مكوناً من 16 طائرة منسقة هي الأخرى من حيث الارتفاع ومن حيث العمق، واستخدموا مجموعة لصرف الانتباه. توجهت الطائرات لقصف الكتيبة المصرية التي قامت بإطلاق النار. رأينا جميع الأهداف على شاشاتنا الخاصة بكابينة المراقبة وبالعين المجردة. كانت الطائرات تحلّق في مجموعات مكونة من 2-4 طائرات على ارتفاع 6-8 كيلومتر في اتجاه درجة الصفر (من الجنوب نحو الشمال). تابعنا جميع الأهداف، وقمنا بتسليم مهمة مراقبتها من مجموعة لأخرى. سمعت التقارير حول الموقف من العقيد كوتينتسيف. فقد دخل سرب الطائرات إلى مجال كتيبته أولاً، وتلقّى تعليمات بتدمير الهدف، الأمر الذي ردّ عليه بأن كتيبته لم تتمكن من إطلاق صواريخ. ثم أبلغت أنا أنني تسلمت المجموعة وعلى استعداد للإطلاق، وجاءني الرد بالموافقة. تركنا الهدف حتى ابتعد مسافة 13 كم ثم قمنا بإطلاق الصواريخ، ولكن مجموعة المقدمة في السرب قامت بالمراوغة والالتفاف في اتجاه قناة السويس، وانطلقت بأقصى سرعتها، ولكننا أصبنا أحد طائرات الفانتوم. وانطلقت بقية المجموعة بأقصى سرعتها في اتجاه القناة. وتم إطلاق مجموعة أخرى من الصواريخ للحاق بتلك الطائرات، ولكن الصواريخ لم تلحق بالأهداف. في تلك اللحظة قامت أحد الطائرات بالالتفاف من مؤخّرة السرب وبدأت في إطلاق النار على مواقع الإطلاق، ولكن لحسن الحظ أصابت مواقع الإطلاق الوهمية ولم تصبنا بأذى. ففي الوقت الذي كنا نطلق فيه الصواريخ، كانت تنطلق من مواقع الإطلاق الوهمية تفجيرات تمويهية، فتبدو تلك المواقع وكأنها المواقع التي تم منها إطلاق الصواريخ، وانطلت تلك الخدعة على الإسرائيليين. وبغرض التقليل من عملية التمويه، كنا قد استخدمنا المياه من الترعة المجاورة لإطفاء النيران بعد إطلاق الصواريخ مباشرة.
وبكتابة التقارير حول عملية الإطلاق الأولى، بدأنا في تحليل أداءنا. بعد مرور 15 دقيقة ظهرت مجموعة جديدة من الطائرات، تتحرك مباشرة باتجاه الكتيبة. وبعدما تركنا المجموعة تتحرك لبعد 12 كم، قمنا بإطلاق صاروخين، أصاب كلاهما طائرتي فانتوم تحطمت إحداها في الجو، وتمكن الطيار الآخر من القفز من الطائرة وتم أسره وسلّمناه للمصريين. وقامت كتيبة العقيد كوتينتسيف بإطلاق الصواريخ على بقية المجموعة. راوغت الطائرات وانطلقت بأقص سرعتها إلى ما وراء قناة السويس. وهكذا كانت خسائر سلاح الطيران الإسرائيلي في ذلك اليوم خمس طائرات. وبعد إطلاق الصواريخ الثلاثة لم يعد لدينا سوى صاروخين، وأبلغت عن ذلك غرفة العمليات وتلقيت تعليمات بنقل صواريخ جديدة.
في حوالى الساعة 17 ظهرت بعض الأهداف تتحرك ببطء في اتجاهنا. ظننا في البداية أنها طائرات عمودية. وبسؤالنا مواقع "strella-2" وجدنا أنها لا ترى أو تسمع أي أصوات لطائرات عمودية. وقامت كتيبة العقيد كوتينتسيف بإطلاق الصواريخ ولكن الصواريخ تحطمت ذاتياً. ثم تأكدنا بعد ذلك أن تلك كانت كرات معدنية تحدث أزيزاً كي يدفعنا الإسرائيليون لإطلاق جميع صواريخنا (فقد كانوا يعلمون قدراتنا). وبحلول الليل تم تعبئة الكتيبة وذهب في تجمعات بمحاذاة القناة. كانت عملية الخروج من موقع الإطلاق تحدث قدرما تسمح المعدات بالحركة نحو نقطة التجمع. من تلك النقطة تحرّكت الكتيبة نحو موقع إطلاق مؤقت جديد، ولكننا بعد ذلك اضطررنا للحركة مسافة 700-800 متر ونصب موقع إطلاق جديد حوالى الساعة 9 صباح 4 أغسطس، وكنا على استعداد لإطلاق النار، وبعد يوم تمت تعبئة الكتيبة وعدنا لمكان الكتيبة القديم بجانب بحيرة قارون. وطوال يوم 4 أغسطس ظلت الطائرات الإسرائيلية تقصف مواقع الإطلاق التي كنا قد أطلقنا منها صواريخنا.
بهذه الطريقة استطعنا تنفيذ المهمة، وتمكننا من صد الطيران الإسرائيلي، وحطمنا في يوم واحد ثلاث طائرات وأصبنا طائرتين (من خلال تكاتف مجهود ثلاث كتائب). ولم يتكبّد الطيران الإسرائيلي كل هذه الخسائر في يوم واحد من قبل. وقد يكون ذلك هو السبب في طلب الجانب الإسرائيلي لوقف مؤقت لإطلاق النار والذي تم التوقيع عليه في الساعة الخامسة من صباح يوم 4 أغسطس 1970.
وكقائد أصابني بعض القلق قبل القتال، كنت قلقاً بشأن كيفية تصرف الأفراد حينما يواجهون في القتال عدوّاً حقيقياً وجهاً لوجه؟ خاصةّ بعد القتال المشئوم يوم 18 يوليو الذي راح ضحيته ثمانية أشخاص. لقد فاق النجاح الذي حققناه كل توقعاتي فقد كانت الحسابات التي قامت بها وحدات الاتصال СРЦ П-15 والحسابات اليدوية عن إنطلاق الطائرات، والحسابات التي قامت بها وحدة المراقبة والتي رأت سرب الطائرات المهاجم وهو يقترب من الكتيبة وسمعوا الأزيز المقترب ورأوا وقوع القنابل ولم يتحرك أحد من مكانه، وعمل الجميع بمهنية ليحددوا إحداثيات الهدف، وكتبوا التقارير عن تغير الأوضاع. إندلع حريق بعد القصف الأول احترقت فيه شباك التمويه وكل ما استخدمناه في التمويه. فقد كان الدخان والرمل الذي تصاعد في الجو حينما كانت الصواريخ تنطلق سبباً في تعريتنا. في تلك اللحظات لم يتردد الملازم الأول ن.ي.فورونين ولم يهتز، وأبدى شجاعة ومرونة في تعامله مع الموقف. وبصرف النظر عن إطلاق الصواريخ والقنابل فقد أوقف التسجيل لدقائق معدودة بينما تمكن من إخماد الحريق في منصة الإطلاق وحولها. لقد عمل طاقم القيادة بكامله بشكل ممتاز. ولكنني أود أن أنوه عن بعض الجهود المتميزة. وأعني هنا رئيس الوحدة الرائد ا.ا.كريلوف، قائد بطارية الاتصال اللاسلكي الرائد ي.ب.ديمين، قائد بطارية البدء النقيب ف.ف.زاخاروف، وضباط التوجيه النقيب ا.س.ديادكين والملازم أول ف.ج.كوروتشكا، ورئيس وحدة الهوائي الملازم أول ف.ا.ميرونوف، وقائد الفصيل الملازم  ن.ي.فورونين، وقائد فصيل التأمين الملازم ف.ف.كريفوشيي، وقائد مجموعة السائقين رئيس العرفاء المتطوع موروزوف، ورئيس العرفاء لكتيبة المتطوعين ا.ا.كوتشكين، والرقباء بودجاك، موفتشان، جانتشاروف، أنتونيوك، والجنود:لافروف، سولوماخا، بورينكو، ليسكين، شيفتسوف، شييان، زازدرافنيخ، بارتشي، خودياكوف، بيسبالوف، مارتشيشين، ميريسي وآخرين.
لقد تم منحي لقب بطل الاتحاد السوفييتي لإتمام هذه المهمة، وحصل كلا من رئيس الوحدة الرائد ا.ا.كريلوف، قائد بطارية الاتصال اللاسلكي الرائد ي.ب.ديمين على وسام الراية الحمراء، بينما حصل كل من نائب القسم السياسي الرائد فوزدفيجينسكي، وضباط التوجيه النقيب ا.س.ديادكين والملازم أول ف.ج.كوروتشكا و ورئيس وحدة الهوائي الملازم أول ف.ا.ميرونوف  ورئيس قسم المخابرات الملازم أول بيترينكو وقائد بطارية البدء النقيب ف.ف.زاخاروف وقائد الفصيل الملازم  ن.ي.فورونين على وسام النجمة الحمراء، كما حصل قائد فصيل التأمين الملازم ف.ف.كريفوشيي على وسام الشجاعة، وحصل على وسام الإنجاز العسكري في مجال النظم التقنية كل من الملازم أول ف.ج.كوجاكوف والملازم أول ب.ا. كوتشوبيي وقائد الوحدة الملازم ثاني ل.ن.بودجاك، وعامل تشغيل وحدة الاتصال الجندي ف.ن. شييان، وعامل تشغيل وحدة الاتصال اللاسلكي الجندي ا.ف.زازدرافنيخ، ومنح الجانب المصري جميع ضباط الكتيبة وسام "الواجب العسكري" من الطبقة الأولى، ومنح إثني عشر رقيباً وجندياً وسام "الواجب العسكري" من الطبقة الثانية.
ويجدر بنا من باب الإنصاف أن نشير هنا إلى أنه لم يحصل على التقدير جميع من استحقه، مع أن جميع قيادات الوحدات حصلت على شهادات تقديرية.
حينما عادت الكتيبة في 5 أغسطس إلى محيط بحيرة قارون، عادت الكتيبة إلى نوباتجية التأمين القتالي، ثم مؤخراً بعد ذلك أصبحت النوباتجيات تتوزع على الكتائب وفقاً لجداول الألوية. وبصرف النظر عن الاتفاق الذي تم توقيعه بالوقف المؤقّت لإطلاق النار فإن الطيران الإسرائيلي كان مستمر في خرق ذلك الاتفاق، وكانت الطائرات تطير بموازاة القناة.
كنا نقوم بالمرابضة القتالية على مدار الساعة، مؤمنين بأن دورنا الأساسي هو الجلوس المستمر أمام شاشات المراقبة وآلات المدفعية. لقد أولينا ذلك كل اهتمامنا ونسينا كل ما عداه. وذلك كان خطأنا. فبعد مرور شهر واحد تم اختبار الاستعداد القتالي للكتيبة، وأكد الاختبار على أن الكتيبة فقدت المعارف والمهارات التي كانت قد حصلت عليها في الاتحاد السوفييتي. فقد استغرقت تعبئة الكتيبة زهاء 8 ساعات، وحصلت الكتيبة على درجة "غير مقبول" في الاختبار المنعقد.
وبمناقشة الأمر مع الضباط والعرفاء توصلنا إلى استنتاج أنه لابد من تغيير أشكال ومناهج عملنا، وتوصلنا إلى خطوط عامة للمنحى الجديد لذلك العمل.
كنا نناقش جميع قضايانا الحياتية من خلال التنظيمات الحزبية والكومسومولية[1] (النوباتجية القتالية، تنظيم الاستعداد السياسي والقتالي، تنظيم المارشات العسكرية، الإطلاق القتالي للصواريخ، التغذية، الترفيه، التأمين، وغيرها من القضايا). إن عقد  الاجتماعات الحزبية والكومسومولية كان محدداً وموجهاً لاتخاذ قرارات واضحة وكانت المنظمات الحزبية تتابع بصرامة تنفيذ تلك القرارات. وكنت بوصفي قائداً للكتيبة دائماً ما أتشاور مع نواب وأمناء المنظمات الحزبية والكومسومولية.
وبالإضافة إلى يومين في الأسبوع كانا مخصصان لدروس السياسة، كانت هناك ساعة يومياً نناقش فيها الوضع السياسي في بلادنا، والوضع السياسي في البلد الذي نعمل به، في الشرق الأوسط بصفة عامة، وما نراه حولنا. كنا نقوم بمقارنة ذلك كله، ونقوم بالتوصل لاستنتاجات ونضع لكل منا مهاماً. كانت هناك واقعة حينما تجمع عدد من المصريين أمام نقطة من نقاط التفتيش صباحاً بغرض الاختبار للعمل. وتعارك اثنان من المصريين على خلفية التقدم للعمل. وحينما رأى أحد جنودنا أنهم يتعاركون، حاول فض العراك من خلال الحوار، أو الإقناع. ولكن شيئاً لم يحدث. ووقف المصريون من حول المتعاركين دون أي تدخل إيماناً منهم بعدم جدواه، إلا أن الجندي فاجأ الجميع بإطلاقه طلقة في الهواء. واستطاع بذلك أن يوقف العراك.
لقد ساعدنا القسم السياسي للواء كثيراً، وبخاصة اذكر رئيس ذلك القسم المقدم ي.ف.بروبيلوف، لقد كانت الأدبيات والمناهج السياسية التعليمية متوفرة دائماً إلى جانب كل احتياجاتنا بهذا الشأن. كانت الخطابات والصحف تصل إلينا دون تأخير. وكان القانونيون وأعضاء النيابة، والمحاكم، والعاملين في جهاز المخابرات السوفييتية (الكي جي بي) يقدمون محاضراتهم لنا، ويناقشوننا في المسائل القانونية، وفي الجرائم العسكرية والقانون العسكري. وكان ذلك يتم مع مراعاة فئة العسكريين الذين يتلقون تلك المحاضرات. لقد كنا دائماً ما نحس بالاهتمام بنا، وبالمسئولية تجاهنا والدعم المقدم إلينا من قيادة الكتائب ومن جانب القائد اللواء أليكساندر جريجورييفيتش سميرنوف، ومن رئيس القسم السياسي فيتشيسلاف جريجورييفيتش ميخايلوف.
كان اهتمامنا في مصر ينصب على دراسة العدو، التعرف على مواطن قوته وضعفه. ولابد هنا من الاعتراف بأن العدو كان قوياً، يتمتع باستعداد جيد (إن لم يكن ممتازاً)، ومجهز بأحدث معدات الطيران الحديثة. كنا نتلقى يومياً معلومات عن أماكن وأوقات وتكتيكات ونتائج الطلعات الجوية الإسرائيلية على الأهداف المصريةعن اليوم السابق. كانت تلك المعلومات تعرض على طاقم القيادة بأكمله، وكانت الخريطة الطوبوغرافية تعرض على الضباط العاملين في محطة الاتصال، وضباط التوجيه، والمصوبين والعاملين على الأسلحة للتمكن من التنبؤ بطرق الطيران المستخدمة، واستنتاج السيناريو المحتمل للقتال. كان من المعتاد أن تقوم الكتيبة يومياً بعد دراسة الطلعات الجوية الإسرائيلية بالتدريب لمدة ساعة ونصف الساعة على الأعمال القتالية في حضور الجميع، ومرة أسبوعياً كنا نتدرب على تعبئة الكتيبة.
كنا نستخدم في التدريب طائراتنا. وكنا نتفق مع طيارينا على البدائل الممكنة لتكتيك الطيران الإسرائيلي، وكثيراً ما كنا ننطلق من طبيعة المكان وطبيعة مواقع الإطلاق، ونخلق ظرفاً أكثر صعوبة للتدريب. وكنا على يقين من أنه إذا ما تدربنا على أحد الأماكن أثناء الصباح، فإنه ينبغي علينا أن نترك هذا المكان مساءً، وهو ما كنا نفعله بينما كان العدو عادة ما يقصف تلك المواقع الخالية ليلاً. وحينما كنا نتحرك نحو منطقة القناة كان من الضروري دائماً أن ننشأ موقعاً وهمياً بجانب الموقع الأساسي لإطلاق الصواريخ.
كما أولينا اهتماماً كبيراً بالاستعداد الجسماني، والتدريب من خلال أحمال جسمانية كبيرة. ففي بعض المهام كان على الكتيبة أن تغير ثمان مواقع للإطلاق، وفي ليلة الرابع من أغسطس قامت الكتيبة  بتغيير موقعي إطلاق. وكان الاستعداد الجسماني العالي هو ما ساعد في تلك المهام. وبفضل ذلك تمكنّا من اختصار وقت الفك والتركيب لموقع الإطلاق إلى 42-45 دقيقة في الوقت الذي تستغرقه تلك العملية ساعتين وأربعون دقيقة.
لقد تأكدنا بشكل عملي من الإمكانات القتالية والوظيفية العالية لمعداتنا مما أعطانا إمكانية تكثيف التدريب على الأعمال القتالية، وعلى الفك والتركيب لمنصات الإطلاق. لقد كانت معداتنا تعمل على مدار الساعة في الفترة من مارس وحتى أغسطس 1970 باستثناء الفترة التي كنا ننقل فيها المعدات أو نتدرب على فكها. وعملت المنصات في خلال سنة 2800 ساعة، ولم هناك أي خلل في تلك المعدات طوال تلك الفترة. لقد كانت الصواريخ الموجهة لأهداف الطيران المنخفض أحياناً ما تلمس الأرض أثناء طيرانها، ومع ذلك فكانت تصيب الهدف بعد ذلك. كذلك فقد سُجلت حالات لإصابة أهداف أرضية متحركة.
 تعودنا في حياتنا أن نتبادل الخبرات فيما أنجزناه. وهكذا فلم نكن نعرف قواعد لإستخدام الهوائي الجديد (УНЖИ) لمحطات الاتصال. ولتدريب أفراد طاقم القيادة ممن سيعملون على ذلك الجهاز وصل إلينا من أسوان قائد الكتيبة المقدم باشكوف. وقام بشرح عملي لاستخدام ذلك الهوائي.
كان طاقم القيادة لكتيبة المقدم كامياجين أول من استطاع أثناء الليل فك منصة الصواريخ في ظرف 42 دقيقة. وصدرت أوامر من اللواء بتنظيم زيارة للمقدم كامياجين بصحبة رئيس وحدة الهوائيات ورفقاء آخرين لتبادل الخبرات.
في 30 يونيو تمكنت كتيبة النقيب ف.ب. مالياكي من إصابة أول طائرة من طراز "فانتوم".  وتم حينها أيضاً تنظيم زيارة للضباط المسئولين عن عملية التصويب والإطلاق، والعاملين على وحدات الاتصال СРЦ П-15 والتتبع اليدوي. كانت تلك الزيارات لتبادل الخبرات مع من كان لهم الخبرة في التعامل مع العدو الحقيقي في الواقع ليشرحوا ثمرات تلك التجارب.
في 18 يوليو تمكن طاقم القيادة لكتيبة المقدم ف.م. تولوكونيكوف من إصابة طائرتي "فانتوم"، ثم وقع تحت القصف بالقنابل وتحطمت أجهزة الاتصال الخاصة بالكتيبة، فاضطر أن يدور بالإحداثيات القتالية على مراكز القيادة لمعظم الكتائب. ليبدؤا هم الاتصال بالبقية وإبلاغ التفاصيل الخاصة بأنشطة العدو، وتوصياتهم بشأن الإطلاق لضباط التوجيه وضباط الاتصال.
كذلك فقد تبادلنا الخبرات بشكل مثمر فيما يتعلق بالعمل على تنظيم التدريب القتالي، واستخدام المعدات، فيما يتعلق بالحياة والأمور الحياتية، وتأمين مواقع الإطلاق إلخ. كثيراً ما زارنا ضباط من الكتائب المصرية بصحبة رقبائهم، وكنا نخبرهم عن كيفية تعاملنا مع أمور التدريب القتالي لنقطة القيادة، الحسابات المبدئية وتأمين مواقع الإطلاق إلخ.
ولكن كل شيء لم يكن يسيراً سلساً. كانت هناك كبوات في العمل، وفي التدريب والتربية. بعد أسبوعين من الوجود في مصر قام قائد الوحدة وكبير الضباط بالكتيبة بالخروج ليلاً في سيارة من طراز "جاز-39" إلى ملهى ليلي في المدينة، وشربوا حتى الثمالة، كذلك خرج اثنان من الجنود السائقين بمفردهم ليلاً إلى المدينة. بعد تلك الحوادث، تم التفتيش على الاستعداد القتالي للكتيبة وحصلنا على تقدير"غير مقبول".
وتمكنت طائرتي "فانتوم" ذات مرة من الوصول إلي قاعدة الطيران وإلى مواقع إطلاقنا في محيط بحيرة قارون، وذلك بسبب التنسيق الضعيف بيننا وبين الطيران أثناء تبادل نوباتجيات القتال.
في يونيو وأثناء الاستعداد لنوبة حراسة موقع الإطلاق، قام أحد الجنود من وحدة الاتصالات بإطلاق الرصاص من بندقية على قائده.
لقد كانت أكثر الأوقات صعوبة، هي الفترة ما بين ديسمبر 1970 وفبراير 1971 حينما كانت فترة التجنيد الإجباري للرقباء والجنود تنتهي. كانت هناك بعض حالات العصيان في كتيبتنا من قبل بعض الجنود وحتى الرقباء. كذلك كان الوضع شاقاً بالنسبة للضباط الذين كانوا يسكرون، وكان ذلك ينعكس على جنودهم ورقبائهم. كانت المحاورات والنصائح لا تجدي نفعاً. كانت تلك فترة عصيبة للغاية. وكان أخطر ما في الأمر أن بعض من المشاركين في تلك التصرفات السيئة كان من الشيوعيين. واضطررنا إلى الاستعانة بقيادات الكتائب، والعاملين في النيابة، والقضاء وجهاز المخابرات. وأخذنا نبلغ أطقم القيادة أسبوعياً أوامر بأحكام لمحاكم عسكرية، مما ساهم بالطبع في حل المشكلة. ومع كل ذلك فإنني أرى أننا أتممنا المهمة التي ألقيت على عاتقنا بأمانة وشرف. ولم نفقد في خدمتنا هذه سوى فرد واحد، وأعتقد أن ذلك أمر يستحق الفخر.
في 5 مارس 1971، وصلت الكتيبة التي ستبدلنا، وخلال أيام ثلاثة قمنا بتسليمهم كل أمانات وممتلكات الكتيبة، وفي 9 مارس أبحرت بنا السفينة "إيفان فرانكو" من الإسكندرية وفي 12 مارس وصلنا إلى سيفاستوبل. وبهذا انتهت مهمتنا.
لابد من الإشارة إلى أنه تم منح كافة الضباط المنتمين لوحدة موسكو للدفاع المضاد للطائرات تسهيلاً وحيداً هو إمكانية التحاقهم بالأكاديمية. وبقي من لم يلتحق منهم في منصبه السابق، وتمكّنوا في ظرف 10-15 عاماً من الخدمة من التدرج العسكري برتبة أو رتبتين. لقد كان هؤلاء شباباً متعلّماً، ذو خبرة قتالية كبيرة مع عدو يمتلك سلاحاً جوياً حديثاً، كانوا ضباطاً من الممكن أن يقدموا الكثير من الخبرة العملية في مجال تربية الجنود والرقباء.
وإضافة أخرى، ففي الفترة الأخيرة ازداد كم المعلومات المتاحة لشعبنا. لقد أصبحنا نعلم الكثير عما كان في الماضي "سرياً". ولكن الكثير لا يزال محاطاً بالسرية ولا يعرفه الشعب. فلمدة 18 عاماً ظلت معلومة وجود خبرائنا في مصر في الفترة بين عامي 1967-1972 سريةً في طي الكتمان، بداية بالخبراء العسكريين والمتخصصين ثم ابتداءً من مارس 1970 بوحدات دفاع مضاد للطائرات بأكملها مكونة من منصات إطلاق صواريخ مضادة للطائرات وطائرات مقاتلة وإن كان ذلك بشكل محدود.
لقد ظهرت أول معلومات في الصحافة المنشورة عن العمليات القتالية على الأراضي المصرية في نوفمبر 1988 (في الجريدة الأسبوعية "سوبيسيدنيك" (المحاور) العدد رقم 47)، بينما بدأ الأمريكيون الحديث عن ذلك بداية من يوليو 1970 ، وكان العالم بأجمعه يعلم أن وحدات الدفاع المضاد للطائرات السوفييتية والطيران المقاتل موجود على الأراضي المصرية، وكان شعبنا آخر من يعلم وذلك هو الأمر المحزن. 

 [1]نسبة إلى منظمة الكومسومول وهي منظمة شباب الشيوعين التابعة للحزب الشيوعي السوفيتي-المترجم

Comments

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة