الجمل

مشهد 1: منذ بضعة أيام أعلن مارك تسوكيربيرج مؤسس موقع فيسبوك للتواصل الاجتماعي عن إضافته لتكنولوجيا سكايب للإتصالات إلى موقعه الشهير، بحيث لايحتاج المستخدم للخروج من فيسبوك للحديث من خلال الفيديو مع نظيره، على أن يتمكن المستخدم من إضافة مستخدمين للمحادثة بحد أقصى عشر مستخدمين. وفي إطار ذلك الخبر أيضاً علمنا أن عدد مستخدمي الفيسبوك حول العالم يبلغ 750 مليوناً. ويبلغ عدد مستخدمي التويتر 280 مليوناً (بالطبع فتلك إحصائات تقريبية، وتتغير بينما تقرأ كل كلمة من كلمات المقال). نهاية المشهد
مشهد 2: بالأمس سمعنا جميعاً بيان المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي تلاه علينا اللواء/ محسن الفنجري والذي استخدم فيه لهجة استثارت البعض واستحسنها بعض آخر، بل واستخدم الشعب المصري الساخر العظيم حركة إصبعه كمادة فكاهية انتشرت على مواقع كثيرة. وجاء في ذلك البيان:
"ويؤكد المجلس الأعلى للقوات المسلحة أنه لن يتخلى عن دوره في إدارة شئون البلاد في هذه المرحلة الفارقة من تاريخ مصر، على النحو الذي عبرت عنه جماهير الشعب وأكدته نتيجة الاستفتاء، كما أنه لن يحيد عن هذا الدور الوطني للقوات المسلحة وقيادته الوطنية. وإنطلاقاً من هذا الدور فإن القوات المسلحة ممثلة في مجلسها الأعلى تؤكد الآتي:
أولاً: أن حرية الرأي مكفولة للجميع، ولكل مواطن الحق في التعبير عن رايه في حدود القانون.
ثانياً: إلتزام المجلس الأعلى للقوات المسلحة بما قرره في خطته لإدارة شئون البلاد خلال الفترة الانتقالية من خلال إجراءات انتخابات مجلسي الشعب والشورى، ثم إعداد دستور جديد للبلاد وانتخاب رئيس للجمهورية وتسليم البلاد للسلطة المدنية الشرعية المنتخبة من الشعب.
ثالثاً: استمرار دعم السيد رئيس مجلس الوزراء...
رابعاً: إعمال أحكام القانون، عند إحالة الجرائم للقانون المختص
خامساً: الاستمرار في سياسة الحوار لتلبية المطالب المشروعة
سادساً: إعداد وثيقة مبادئ حاكمة وضوابط لاختيار الجمعية التأسيسية..."
وفي معبر حديثه عن القلة المندسة التي تعبث بمصالح وأمن البلاد صرح سيادته أن التظاهرات تحيد عن نهجها السلمي (وقد أتفق معه في خطأ الثوار الفادح في إغلاق مجمع التحرير، والتلويح بإغلاق قناة السويس، ونفق سيناء...)
"وتسير وفق منهج يضر بالمصالح العليا ينبئ بأضرار جسيمة..."
ومن ذلك المنهج: "ترديد الشائعات والأخبار المغلوطة التي تؤدي إلى الفرقة والعصيان وتخريب الوطن، وتشكيك
تغليب المصالح الخاصة المحدودة على المصالح العليا للبلاد.."
وعليه فإن القوات المسلحة
"تدعو المواطنين الشرفاء للوقوف ضد كل المظاهر التي تعيق عودة الحياة الطبيعية لأبناء هذا الشعب العظيم
التصدي للشائعات المضللة..."
وإنطلاقاً مما سبق فـ
"إن القوات المسلحة مؤيدة بثقة الشعب انطلاقاً من ثوابتها الوطنية لن تسمح بالقفز على السلطة، أو تجاوز الشرعية لأياً من كان، وسيتم اتخاذ ما يلزم من إجراءات لمجابهة التهديدات التي تحيط بالوطن وتؤثر على المواطنين والأمن القومي من أي عبث يراد بها، وذلك كله في إطار من الشرعية الدستورية والقانونية، وقى الله مصر من كل الفتن وحفظها من كل سوء." نهاية المشهد

بمقارنة المشهدين تذكرت ما حدث في موقعة الجمل فوراً عقب الخطاب العاطفي لرئيس الجمهورية، وتأكدت أن المشكلة الرئيسية في الفارق العمري الهائل، وبالتالي الفارق في الوسائل وطريقة التفكير
إنه الفرق بين جيل يرى أن الحل هو القمع، والحل هو قطع شبكات المحمول والإنترنت، وجيل يعلم تماماً أن السماء مفتوحة، والخيال مفتوح وحتى مع قطع الشبكات الأرضية أو حتى التشويش على بعض الأقمار، فإن هناك ثقباً ما في مكان ما، سوف تنفذ من خلاله الصورة والمعلومة (مثال سوريا)...
بين جيل يستخدم حتى القطرة الأخيرة كل مهاراته التمثيلية والأدائية في خطاب يثير الدموع من مبارك الكهل العنيد القاتل، وبين جيل يميز بين الحقيقة والتمثيل ورأى في أفلام عالمية تملأ الفضائيات تمثيلاً أكثر حرفية وتأثيراً من ذلك الهزل الذي حاول المخلوع افتعاله في خطابه الشهير...
بين جيل يتعامل من خلال أجهزة وأسلحة استوردها بملايين الجنيهات من الولايات المتحدة الأمريكية، ويستخدم عشرون في المئة من قدارتها على أفضل تقدير، لعجزه، وعجز كوادره، ولكبر سنه..وبين جيل تحمل نخبته المحركة أسلحتها الوحيدة متمثلة في كاميرات وهواتف محمولة ببضع مئات من الجنيهات من جيل السمارت فون، والبلاك بيري، و تستخدم ما يربو على الخمسين بالمئة من إمكانيات تلك الأجهزة، وتتعامل من خلال التويتر والفيسبوك، ومن خلال الأقمار الصناعية التي أصبح من المستحيل الحياة من دونها..
بين جيل قرر استخدام السيف والبهيمة والجمل، وجيل استخدم كاميرات رقمية، وكاميرات هواتف محمولة...
أقول أنه الفرق بين جيلين، يتحدث كل منهما لغة مختلفة، فحديث الوعيد والتهديد الذي استخدمه اللواء/ الفنجري، يصب في نهر العنف، وربما الدم. في الوقت الذي نسمع فيه ونرى ما تنتجه دوامة العنف في سوريا وليبيا (وتحديداً في ليبيا)..بل ويستمع المرء إلى تحليلات عبقرية من مواطنين مصريين "شرفاء" بالتذكير او لعله التهديد بما يحدث في سوريا وفي ليبيا..وذلك التهديد حسب ما أراه إذا ما كان موجهاً لأحد، فهو موجه للمجلس قبل أي أحد آخر، فالشارع لا يخسر بقدر ما يخسر القصر...كلاهما خاسر في نهاية المطاف بالتأكيد، ولكن خسارة الأول لا تقارن بخسارة الثاني..أي أن خسارة الشعب الليبي الذي يفقد أبناءه شهداء أبطال لا تقارن بخسارة القذافي وأبناءه الذين يخسرون إلى جانب حياتهم الكرامة والشرف والتاريخ والقيمة...ومع أن الحديث عن أي مادة يتلاشى أمام الحديث عن القيم والحياة الإنسانية، إلا أنه لا يمكن إغفال الجانب المادي، والحياة المستقرة الرغدة في القصور المنيفة، التي لا يعلم عنها الشارع شيئاً وخسارة القصر في ذلك أكبر بملايين المرات من خسارة الشارع الذي لا يملك سوى قوت يومه...
ليس لدى الشارع ما يخسره سوى روحه التي يحملها طواعية على كفه...بينما يملك المجلس العسكري ما يخسره..ويملك أفراده ما يخسرونه..
وتلك الحقيقة يدركها الشباب الثائر المغامر بل والأرعن أحياناً، المدافع عن حق يراه مطلق العدالة، وذلك حلمه، وخياله، وتلك قضيته التي بذل من أجلها الدم وعلى استعداد ليبذل دماء أكثر..
إن الفرق في اللغة بين البيان وبين ال"تويتات" على موقع"تويتر" هو أربعين أو خمسين عاماً على الأقل..وكان الأمر ليبدو طبيعياً إذا ما حاول كلا الطرفين الحركة نحو الآخر (مثلما يحدث في بقية دول العالم)، فنجد أوباما وميدفيديف يمتلكون حسابات تويتر، بل ويستخدمون تلك الحسابات في الحملات الانتخابية وحشد الرأي العام، ويلتقي كل منهم بناخبيه وشعبه من خلال تلك المواقع...في الوقت الذي يحاول الشباب صياغة أفكارهم بطريقة تتمكن الأجيال السابقة من فهمها..
ولكن الأمر هنا بعيد كل البعد عن ذلك، ويفتقد المجلس العسكري لكل مرونة (سوى حساب أنشأه على الفيسبوك، يحمل من خلاله بياناته), وتفتقد لغته أي صلة مع مجتمع يمثل الشباب الغالبية العظمة منه (80% تحت سن الأربعين)، ويمضي في طريقه القديم، بنفس الأسلوب القديم...متناسياً أن ما كسر من قبله، كان ذلك الفرق تحديداً، الفرق بين اليوم وأول أمس، الفرق بين مارك تسوكيربيرغ صاحب فكرة الفيسبوك الذي يبلغ عدد مستخدميه 750 مليون مستخدم (ويبلغ من العمر27 عاماً وتبلغ ثروته حوالي 13 مليار دولار)، وبين اللواء/ محسن الفنجري الذي يستخدم أداءً مرعباً كي يبث الرعب في قلوب أبنائه، حتى يتوقفوا عن "اللعب" في مصالح الوطن، متناسياً أن من يحدثهم ليسوا أبنائه، بل أحفاده، وهم لا "يلعبون" بل يمارسون حياتهم، وحقهم في الدفاع عن قضاياهم، في الوقت الذي لا يتحرك المجلس فيه بنفس السرعة، ولا بنفس الحمية والطاقة التي يتحرك بها خيالهم الجامح المدهش الخلاق.
إن الصدام والقمع حل أثبت فشله الذريع في تجارب سابقة، ولا يجلب العنف سوى العنف، ولا يجلب الدم سوى الدم. ولا أجد مخرجاً سوى بالحركة نحو المنتصف، والبحث عن توائمات ولا يتأتي ذلك سوى برغبة الجانبين في الحركة نحو المنتصف، وتكمن المشكلة من وجهة نظري في أن المجلس العسكري يبتعد عن ذلك "المنتصف" (من واقع سنه وتاريخه وطبيعة تكوينه المهني والنفسي) بمسافة أبعد مما يبتعد بها الثوار عنه، الذين أبدوا من قبل استعداداً للحوار، وعلقوا التظاهر، وانتظروا كي ينفذ المجلس والحكومة وعودهم.
أخيراً، فإن خطأ الثوار في غلق مجمع التحرير كوسيلة للضغط، هو خطأ فادح كلفهم تعاطف الكثير من القطاعات الشعبية معهم، كذا التهديد بقطع الطرق، وغلق قناة السويس، ونفق سيناء...وما زاد وغطى هو تعليق أحد البلطجية نكاية وانتقاماً...كل تلك بالفعل أخطاء تنتمي لأساليب النظام السابق الذي نحارب من أجل سقوطه الكامل، إنها نفس العقلية التي تعامل بها النظام السابق حينما قطع شبكات الإنترنت (أنتم تقطعون شبكة مصالحه متمثلة في المجمع)، وحينما سحل وعذب ونكل في أمن الدولة (ها أنتم تعذبون وتنكلون، تماماً كما كان يفعل).

Comments

  1. حقيقى تحليل رائع ودقيق للغاية وأخيراً وليس آخراً الدنيا سلف ودين وصدقنى بقايا هذا النظام البائد المتهرأ سوف تشرب من نفس الكأس .. والجميل والممتع بلا تشفى ان نشهد على تلك المرحلة الرائعة

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة