خدت الشر وراحت


-          إزازة بالانتاين يا معلم من اللي وصّى عليها لقمان

-          يا عم ليه بس، ما تخليها نشربها سوا لما ترجع بالسلامة.

-          بص، أنا مش راجع قبل شهر ونص، ولمّا ارجع يبقى يحلها الحلال، هاجيب معايا من السوق الحرة.

-          من يد ما نعدمها.

-          أجيب لك كيس؟

في طريقه إلى المطبخ قابل مهندس البترول عادل رياض أحد الفنيين من شركة مكافحة الحشرات التي تعاقد معها بغرض التخلص من النمل الذي فشلت معه كل المحاولات الذاتية السلمية ابتداءّ من "ريد" و"بايجون" وانتهاءً بوصفات شعبية من الأقرباء من المنيا. لم تكن الأخبار سارة، فالفني يخبره بأن هناك فأر في الفيلا، وعليه التعاقد على نوع جديد من المكافحة، وأنواع السموم بالنسبة للفئران تتدرج من الموت السريع القاسي، وحتى الموت البطئ السادي...

أعجبته فكرة الموت البطئ السادي، ولكنه طلب من الفني تأجيل موضوع الفأر حينما يعود من عمله بعد شهر ونصف..."موت بطئ"، "موت سريع"، "موت متوسط السرعة"...يظن الإنسان أنه يقرر نوع الموت، بل ويختار بين أنواع الموت...فكرة !

فتح الدرج الأسفل من دولاب في المطبخ، وأخذ أول كيس ارتطمت به يداه، وذهب ليناول الكيس لصديقه شريف صلاح الذي كان من الواضح من نظرة عينيه للزجاجة، أنه يعدّ قائمة قصيرة للندماء الذين سيحتسي معهم تلك الزجاجة الثمينة. وعلى عتبة باب الشرفة المطلة على الحديقة في الدور الأول، وبينما يضع شريف زجاجة الـ "بالانتاين" التي لم ينتهي حتى تلك اللحظة  من تحديد قائمة ندمائها بشكل قاطع، اتضح في اللحظة الأخيرة وبينما أفلتت يده من عنق الزجاجة (ولم يكن هو في تلك اللحظة الحرجة يعلم ذلك، لكنه استطاع العودة بالذاكرة في وقت لاحق) تبيّن أن الكيس كان بلا قاع...وفي جزء من الثانية كانت الزجاجة محطّمة على رخام العتبة، وتطاير في الجو عبق المشروب الفوّاح الفاخر، ممزوجاً برائحة مبيد الحشرات الذي رشته شركة مكافحة الحشرات بكل ضمير وسخاء.. إن الثانية التي تحدث فيها حادثة كهذه تبدو وكأنها أطول من كل الثواني الباقية، يبدو وعي الإنسان وكأنه يتجمّد، غير مصدّق للحدث الذي نقلته له عيناه للتو بما لا يدع مجالاً لأي شك، تظهر في تلك اللحظة بعينها رغبة مجنونة، غير منطقية، في العودة بعقرب الثواني اللعين إلى الوراء ثانية واحدة أو ثانيتين، لعل رد الفعل يتمكن حين ذاك من الإمساك بالزجاجة قبل أن ترتطم بالأرض..ولكنه العبث بعينه، ومع مرور الثواني الثقيلة، يصطدم الوعي البشري بحائط الزمن المتحرك دائماً وكأنه يدهس الأنسان، ويدفعه دفعاً إلى الأمام، وإلى الأمام فقط. في الوقت الذي تختفي فيه الثواني وراء ذلك الحائط، دون أمل في العودة سوى كذكرى، وتاريخ...

انطفأت كل محركات الرغبة والحيوية في عيني شريف صلاح الذي وقف مذهولاً أمام التحطم الكامل لأحلام الندماء المختلفة، وبينهم الشعراء والفلاسفة والنساء...وبدأ يتجرّع ألم الهزيمة، والفرصة التي لمعت للحظات فانطفأت مرة أخرى...لابأس، الويسكي المصري الرخيص ليس بهذا السوء في نهاية المطاف.

كان رد فعل المهندس عادل رياض أقل عاطفية وحساسية من شريف:

-          فداك...خدت الشر وراحت..

وجاء سريعاً بجاروف ومقشة وممسحة، وفي دقيقة واحدة كان مشهد الحادثة قد عاد لطبيعته، بينما تطايرت في الجو رائحة الويسكي. ومن الداخل أتى عادل بزجاجة أخرى لصديقه شريف، الذي لم يكن يحس سوى بالذنب, والندم، وعدم الارتياح الشديد لذلك الموقف...لحظات وحمل الصديقين الأمتعة، وانطلقت السيارة لتقل مهندس البترول عادل رياض إلى المطار.

على عتبة الشرفة، وعلى مستوى أكثر دقة بكثير من مستوى القائمة القصيرة أو الطويلة لندماء شريف صلاح، كانت هناك كارثة كونية يواجهها النمل الذي لم يكن للحظة يتصوّر أن يقوم مهندس البترول صاحب الفيلا بالتعاقد مع شركة لمكافحة الحشرات. فالخسائر التي كان يعانيها النمل كل أسبوع حينما يشتري صاحب الفيلا مبيداً جديداً كانت محدودة، وكثيراً ما كانت خلايا النمل البعيدة تعتبر لما حدث، وتتحرك إلى مخابئ بعينها لحين سفر المهندس لعمله، وبعد ذلك يحلها الحلاّل، ويصفو الجو، لشهر أو يزيد بينما يعمل المهندس. كانت فيلا المهندس عادل رياض أحد المنتجعات الرائعة الهادئة لامبراطورية كاملة من النمل...

اليوم، وبينما قارب شهر العسل على البدأ، وحزم المهندس أمتعته، وانتظر النمل تلك اللحظات بفارغ الصبر، فبعد ساعات معدودة، سوف يخلو الجو، وتبدأ الاحتفالات، وإذا بكل ذلك يتحطم على صخرة تلك الكارثة المروعة...شركة مكافحة الحشرات...

وبينما انطلقت مجموعة من النمل هرباً من المبيد، وجدت بضع نقاط من سائل غريب، فشربت منه المجموعة، ودعت الآخرين لذلك..لم يكن ذلك السائل سوى بعض من بقايا زجاجة البالانتاين، لحظات وسرى في كل نملة دفء غريب، وسرى في المجموعة حالة كرنفالية من الاحتفال والبهجة، وعلا الصوت، وتناسى الجميع الكارثة التي لم تزل محيقة بالجميع، بل إن كثيراً من النمل كان يرقص بينما يتهالك ويهوي وينتهي وجوده من أثر المبيد، ولكن رقصة الموت تلك كانت بديعة ملهمة، وكان حالة الرقص الجماعي ملهمة لآخرين ممن لم تتح لهم تجربة السائل العجيب...

في الطريق إلى المطار، بدا شريف متجهمّاً، بينما كان عادل يهدئ من روعه:

-          يا عم ما تاخدش ف بالك الموضوع أبسط من كده بكتير، بالعكس بقى، ده أنا عايز أشكرك على إنك كسرت الإزازة، عارف ليه؟

-          ليه؟

-          من الصبح وأنا قلبي مقبوض ومستني حاجة وحشة، وانبسطت جداً إن الحاجة الوحشة دي كانت الإزازة اللي اتكسرت...بجد بجد الحمدلله إنها خدت الشر وراحت

-          ...

في تلك اللحظة وفي الفراغ الكوني اللانهائي المؤدي إلى الحياة الأخرى الأبدية المطلقة التي تسع كل الكائنات وتسمع فيها كل الأصوات، وترى فيها كل الألوان، وتفهم فيها كل الأشياء...كانت مجموعة من النمل متوجهة إلى علياء الأبدية، بينما استمعت إلى تلك الجملة "خدت الشر وراحت"....فسالت أحد النملات زميلتها:

-          تفتكري قصده على الشر ده اللي هوه إحنا؟

Comments

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة