ثورة الجسد

بقصد أو بدون قصد، بغرض طرح قضية عميقة المغزى أو لمجرد الشهرة الخاوية، تطرح علياء أسئلةً شديدة الأهمية، على المجتمع، وعلى المثقفين والفنانين والليبراليين، قبل أن تكون الأسئلة موجهة لأي طوائف أو جماعات دينية، تطرح أسئلة واضحة محددة، فجة في بعض الأحيان، طالما تلكأنا في الإجابة عليها، أو حاولنا طوال حياتنا أن نهذب الأطراف الحادة لها، حتى لا نصطدم. "نصطدم"...يا لها من كلمة، نعم "نصطدم"، نصطدم بالقوى الرجعية، بالتطرف الديني، بالأصولية الدينية، بالأغلبية الصامتة، بتقاليد مجتمع تتآكل، وتتحول في لحظة تاريخية إلى عقبة مهولة أمام التقدم والتنمية والإصلاح. إننا (وأعني المثقفين والفنانين)، نعيش انفصاماً عميقاً يجعلنا طوال الوقت خارج سياق المجتمع، لقد أصبحنا جزيرة مهجورة خارج المجتمع، بدلاً من أن نكون له نبراساً وقاطرة، أصبحنا شرذمة ضالة، بدلاً من أن نكون فئة مؤثرة واضحة المعالم والاتجاه. وأصبح علينا أن نلتقي مع المجتمع في الأغلب في منطقتين (الجنس والموت)، فنعود أدراجنا نحو المجتمع حينما نبغي الزواج، فنتزوج على الشريعة أو في الكنيسة أو في المعبد، لأن ذلك السر الإلهي محصور في ظل معتقداتنا في تلك الأماكن، وحينما نروم الدفن، وتكريم الميت، فذلك السر الإلهي هو الآخر أمر خاص بالمؤسسة الدينية وحدها دون غيرها، بل إن هاتين المنطقتين هي منطقتي التماس بين الإدارة متمثلة في الحكومة والمؤسسة الدينية متمثلة في الشيخ أوالجامع أو الكنيسة أو المعبد. هنا لا تستطيع مؤسسة أن تمارس سلطاتها بمعزل عن الأخرى اللهم إلا إذا كانت هناك حالة شاذة في زواج بين أديان أو جنسيات مختلفة.
مع تنامي المد الوهابي في مصر منذ سبعينيات القرن الماضي، وعودة المصريين العاملين في الخليج، تنامت معدلات الطلاق، وتفكك المجتمع بشكل ملحوظ، وتفشى طابور من الظواهر السلبية المميتة في المجتمع، مثل السلبية، والطفيلية، والكذب، والنفاق، والفساد. ومع زيادة عدد الجوامع والزوايا بشكل ملحوظ في معظم الأحياء الجديدة، إلا أن القيم التي يحض عليها الدين الإسلامي، والأديان جميعاً أصبحت أبعد ما يكون عن ممارساتنا اليومية. ولايجد الشعب المصري أي غضاضة في أن يخرج من الجامع في نفس اللحظة التي يكذب أو ينصب أو ينم فيها، ولا يجد الشخص أي مشكلة في أن يترك سيارته في عرض الشارع معطلاً بذلك أحوال العباد كي يذهب للصلاة، التي تحض في نفس الوقت على العمل، وتيسيير أمور الناس، لا يجد الموظف أي غضاضة في أن يترك عمله للصلاة، وأن يحول عمله مكاناً للصلاة، ولا يجد الأهل أي غضاضة في أن يبيعوا ابنتهم لمن يدفع أكثر، ومن يوفر قدراً أكبر من الأصول الثابتة، أصبحت الأسس التي تبنى عليها الأسرة والمجتمع أسس واهية، مادية، مغرقة في الاستهلاكية. إن جسد علياء العاري يقف أمام كل ذلك باستهانة واحتقار، في محاولة لطرح أسئلة أكثر جذرية من الأسئلة المطروحة على الساحة الآن، عما إذا كان دخول دورة المياه بالقدم اليمنى أو اليسرى، وعما إذا كان من الممكن ممارسة الجماع في دورة المياه (سؤال طرحته أحد المشاهدات لأحد البرامج الدينية....إلى هذا الحد أصبحنا نخاف أنفسنا!!!). تقف علياء عارية أمام كل تلك الظواهر رافضة لهذا القدر من التسطيح، وعدم احترام العقل المصري، عارية أمام سقف الحرية التي وضعناه بأيدينا، إن نساء إيران سوف تخلع الحجاب في اليوم الذي تسقط فيه الدولة الدينية...أمّا هنا في مصر فالمشكلة أعمق، لقد نفذت الوهابية إلى العمق الرخو، نفذت من باب الجهل وانحدار التعليم والعشوائية، وفساد السلطة.
ألتقي منذ نعومة أظفاري مع راقصي وراقصات الباليه، أرى أجسادهم، وأجسادهن، ولا تثير في نفسي سوى الإحساس بجمال الجسد، وتزاوج الحركة والموسيقى في تآلف مدهش. وأمضيت فترة طويلة في حياتي أبحث عن ما يثير في جسد بعض راقصات كباريهات الدرجة الثالثة، ولا يثير في جسد راقصة الباليه، بل أخذت أبحث عن ما يثير في جسد نفس الراقصة (راقصة الكباريه)، وقد لا يثير في جسد تحية كاريوكا أو سامية جمال، أخذت أبحث عن الفرق بين الراقصة والرقّاصة، وأعني هنا بين الرقص كفن، والرقص كمقدمة لممارسة الدعارة أو الجنس.
مع التقدم في السن والخبرة فهمت أن الجنس هو عملية وحالة فسيولوجية نفسية معقّدة، قبل أن يكون عرياً مطلقاً، أي أن الإنسان قد يمارس الجنس دون أن يخلع ملابسه، قد يمارس الجنس بمجرد النظر أو الشهوة (وهو المفهوم الديني للجنس بالمناسبة)، على الجانب الآخر، فقد يكون عري الراقصة أو الموديل، أو التخفف من الملابس بدواعي الطقس، أمراً غير جنسي بالمرة، ، فالجنس حالة قبل أن يكون مجرد عري.إن هناك فرقاً واضحاً وصريحاً بين الجنس كرغبة شهوانية تعود بالإنسان إلى أصوله الحيوانية، الجنس كرغبة في النكاح والإيلاج، وبين جمال التماثيل الرومانية العارية، أو جمال لوحة "دانايا" لريمبرانت، هناك فرق واضح بين الجنس كمحرك رئيسي وأساسي للكثير من تصرفاتنا، وبين الجمال كعلم، والتغزل في عظمة وكمال الخالق في الجسد الذي منحنا إياه. نعم هناك مرحلة بينية شديدة الاختلاط في مجتمعاتنا المنحلة التي تعاني من أمراض في النفس فيما يخص جسد المرأة (وجسد الرجل أيضاً)، بل وحقوق المرأة في المطلق. ولكن ذلك أقرب إلى المرض منه إلى الصحة، وأقرب إلى الأزمة منه إلى الوضع الطبيعي.
أقول أن علياء طرحت أسئلة علينا جميعاً، أسئلة تفضح كبتنا، وعقدنا النفسية، وانغماسنا في المظاهر والقشور، بدلاً من البحث عن المعدن والجوهر. إنها أسئلة من نوع: "هوه الباليه حرام؟"، " بنتي بترقص باليه في النادي بس، مش علشان تطلع راقصة باليه محترفة يعني!"، "هوه التمثيل حرام؟"، "السينما النظيفة"، "العري في السينما"، "المشاهد الساخنة"، "هل تقبل فلانة الممثلة دور ساخن؟"، "هل يقبل فلان دور شخص مثلي جنسياً"، "هل أنت مع أو ضد الموديلات العارية؟"، "هل ترضى أن تصبح ابنتك موديلاً عارياً؟"
إن تلك الأسئلة تعبر عن أزمة عميقة بين ما نعتقد، وما نمارس، بين قدرتنا على تقدير الفن والجمال، وعجزنا عن وضع حدود واضحة وصريحة لهذا الفن وذاك الجمال. وفي ظل الثورة، وفي ظل المرحلة الحرجة التي نمر بها، من ظهور واضح للقوى الرجعية في المجتمع، يبدو طرح تلك الأسئلة وكأنه أمر مقصود به، تشويه سمعة القوى الليبرالية، والانحراف بالعملية السياسية عن خطها الثوري، وكأننا نريد أن نفعل ذات الشئ الذي يفعله الإسلاميون على طوال تاريخهم...الكذب لحين انتهاء الغرض، أي أن علينا الاّ "نصطدم" بالمجتمع، حتى نحصل على مقاعد البرلمان، ثم نظهر بعد ذلك على حقيقتنا، علينا أن نهذب من لغتنا، ونستخدم ألواناً أكثر اتساقاً مع المجتمع (مثلما يفعل الأخوان باستخدامهم شعار "نحمل الخير لمصر" بدلاً من "أعدوا" أو "الإسلام هو الحل") حتى نصل إلى بغيتنا، وبعدها نتمكن من طرح قناعاتنا الحقيقية.
لا أجد في جسد علياء أو في صور علياء مع الأسف، أي قيم جمالية على الإطلاق، ولكن مغزى الصرخة هو ما يثير تفكيري. إنها فتاة سئمت من التوازنات، وسئمت من إمساك العصا من المنتصف، وسئمت من المماينة، والمماحكة، والتجمّل، والكذب...سئمت من السياسة. إنه جيل يذهب رأساً لجوهر السؤال ويطرحه بلا خجل، ويضعك أمام نفسك في المرآة، نفسك التي ترفض أن تواجهها منذ ثلاثين عاماً. إنه نفس جيل الثورة الذي يضعك فجأة أمام تساؤل واضح وصريح، هل أنت مع أو ضد النظام، مع أو ضد حسني مبارك، أجب بنعم أو بلا!. إنها نفس الكيفية، ولكنها تساؤلات أكثر عمقاً وتأثيراً.
إن علينا ألّا نخجل من قناعاتنا طالما آمننا بها، وسوف يصدقنا الناس طالما صدقنا أنفسنا. في واقع الأمر أجد نفسي في نفس الخندق مع علياء، ولا أخجل من ذلك، ومن كان منكم بلا خطيئة فليرمني بحجر.

Comments

  1. تدوينة ذكية جدا..
    أنا شوية مختلف في مسألة كون الفنانين بالضرورة طليعة الركب و قاطرة، لان الفنان هو جزء طبيعي من تركيبة المجتمع باختلافاته، مش بالضرورة محرك ليه، لكن ده موضوع يطول..
    احسنت..

    ReplyDelete
  2. مقال جميل يا محمد. انا معاك في موضوع الاقنعه والكذب الى حين. سألت نفسي نفس السؤال. هو ده كويس دلوقتي ولا وحش؟ لكن قلت مش مهم. المهم اكون صادقه مع نفسي وأدعمها. في ناس من الاتجاه الليبرالي شايفن انه مش وقته. بس لو دلوقتي مش وقته يبقى امتى وقته؟ خاصة وان السلف كمان مافكرش ده وقته ولا لأ و غطى تمثال عروس البحر في الاسكندريه و وقع تمثال سنوسرت التاني في المنصوره!! هو امتى وقته لو مش دلوقتي ان كلنا نكون صرحاء؟

    ReplyDelete
  3. الفنان ممكن يكون محرك للتفكير يا أحمد. شوف جوزيف بويز عمل ايه؟ شغلانة الفنان مش شغلانه هينه. الفكر مهم اكتر من حاجات كتير تتمثل في وظائف أخرى

    ReplyDelete
  4. This comment has been removed by the author.

    ReplyDelete
  5. حاول تشرح الكلام ده لكثير من خريجي الجامعة عندنا فى مصر ... أنا عن نفسى حاولت أشرح وجهة نظر شبه كده لطبيب صديقى ..... مش هاقول لك ع اللى جرى :)
    .... الهوة أعظم مما نتخيل كلنا معشر الفنانين , وتكوين آراء مركبة هى قدرة قربت تنتهى فى المجتمع المصرى عموماً

    ReplyDelete
  6. أنا مش متفقة معك في موضوع الحكم على العرى من خلال ثنائية الفن\الجنس. خصوصا حتة ان البالية وسامية جمال راقيين لأنهم لا يثيروا غرائزنا الحيوانية فبالتلي ده يبقى فن ولا يجب فرض الرقابة عليه. مش شايفة ضرورة لعمل الثنائية ديه لأنها فيها أحكام قيمية على الاثارة الجنسية وكأنها تعبر عن نوع من الانحطاط. أولا من يقرر ان شئ معين مثير جنسيا؟ ونحن نثار من أشياء مختلفة. ثانيا ربما قصدت وضع ثنائية بين ما هو تجاري ويختزل المرأة لأداة غرض وجودها امتاع الرجل ومن جهة أخرى التعري الواعي المشتهي وليس فقط المتشتهى. أظن ما يميز عرى علياء هو انها فعلت ذلك بوعي وارادة وبشجاعة لأنها تعرت خارج الأطر التجارية المسموح بها ولم تبالي باثارتنا بالاكليشيهات التجارية للجمال والجنس. أما اذا حدث واشتهتها في أي حال، و هذا ما حدث لي، فذلك لا يقلل من شأنها أو من شأن رسالتها. والله أعلم

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة