الاستفتاء والخداع السياسي الردئ

حينما سمعت بالأمس كلمة "الاستفتاء" السحرية التي ذكرها المشير في بيانه، تبين لي مدى الهوة التي تفصل بين جيلي وجيله، والأدهى والأمر  بين جيل الثورة الذي يصغرني بجيلين وجيل المجلس العسكري القابض على مقاليد حكم دولة عظيمة بحجم مصر.
إنها مدرسة قديمة يجيدها العسكر منذ ستين عاماً، ولكن العسكر غير العسكر...والزمن غير الزمن..والمتغيرات غير المتغيرات...أقتبس مقطعاً كبيراً من كتاب خالد محيي الدين " والآن أتكلم" ص312 كي يضعنا في أجواء ثورة يوليو التي نمر بمثلها هذه الأيام، حتى نعلم من أين جاء فكر المجلس، وماذا يحدث في واقع الأمر، حينما يلجأ العسكر لأساليب الحشد السياسي الممنهج المأجور.
يقول خالد محيي الدين: "...وما أن تحرّك القطار نحو أول محطة في الطريق حتى أحسست بأن هواجسي التي سيطرت عليّ في الجلسة السابقة لمجلس الثورة كانت صائبة، وأن شعوري بأن هناك ترتيباً خفيّاً يجري إعداده كان صحيحاً، فعلى كل محطة كان هناك حشد من الناس يهتف بحياة نجيب وحياة الملك سعود ثم يهتف: "تحيا الثورة"، "لا حزبية".
وأحسست أن ثمة ترتيباً لهذا الأمر كله.
كانت الحشود متوسطة الحجم، حوالي مائتين في كل محطة، لكن الذي يؤكد الترتيب أن الشعارات كانت موحدة، فكيف يمكن التصديق أنه دون ترتيب خاص سرت هذه الشعارات وسط جميع المحتشدين في كل المحطات على طول الطريق من القاهرة إلى الإسكندرية؟ وأعتقد أن هيئة التحرير وأجهزة الدولة والأمن كانت وراء هذه الحشود.
وتغير الموقف عندما وصلنا إلى الإسكندرية، فقد كان هناك حشدان..حشد يهتف للنحاس وفؤاد سراج الدين، وحشد يهتف "تحيا الثورة" و"لاحزبية".
وقبلها بيوم كانت زوجتي في زيارة لأسرتها وعادت لتقول لي بدهشة: كل العائلة ضد موقفك. وبدأت أستشعر دهشة بالغة، فما اتخذت من مواقف كان من وحي محبتي لمصر وللشعب، فكيف يمكن لأسرتي أن تتخذ هذا الموقف؟ وكيف يمكن تحريك الجماهير أو قطاع منها لتهتف ضد الديمقراطية؟
وإلى هنا فإنني أود أن أوضح نقطة بالغة الأهمية، صحيح أن عبد الناصر رتب الأمر، وحشد المظاهرات، ثم حشد بعد ذلك بعض قطاعات العمال ودفعهم للإضراب وخاصة عمال النقل العام، وقد اعترف لي عبد الناصر بذلك صراحة بأنه أنفق أربعة آلاف جنيه على هذه الترتيبات، وبعد عودتي من المنفى عاد فاعترف لي أنه رتب "حركة 27-28-29 مارس، كرد على حركة الفرسان واجتماع الميس الأخضر، وقال باسماّ: واحدة بواحدة، ونبقى خالصين..لكن هذه الترتيبات ما كانت لتنجح لو لم تجد صدى لدى الجماهير."
الآن نعلم هدف ونتيجة وآلية الاستفتاء المزمع، والذي قد يكون بالفعل معبّراً عن رأي جماهير عريضة من الشعب المصري...ولكن ودون وصاية على الشعب المصري العظيم، هل يعلم ذلك الشعب حقه في التعرف على ميزانية الجيش، وحقه في التعرف على صفقات الجيش التي تتم من ضرائب ذلك الشعب وموارده وقوت يومه، أليس من حق هذا الشعب أن يقرر ما إذا كانت ذات الموارد ستنفق في بناء مستشفى أو مدرسة جديدة، أو تستخدم في شراء صفقة دبابات أو أسلحة، أليس من حقه أن يسأل عن السبب وراء صفقات الرخام والمقاولات في نوادي الجيش والشرطة، وهي أيضاً من ضرائبه، ويعرف لماذا لا تصرف تلك الأموال على تحسين شبكة الصرف الصحي والمياه بدلاً من البذخ المفرط وغير المبرر في دولة نامية من دول العالم الثالث مثلنا، أليس من حق هذا الشعب أن يعرف النسبة بين ميزانية التعليم والصحة وميزانية الشرطة أو الجيش التي تأتي من ضرائبه وعوائد موارد بلده وأرضه وثرواته، أليس من حقه أن يقرر إذا ما كان يرغب في أن تنفق الأموال في علاج سرطان الأطفال أو تطوير البنية التحتية أو تطوير العشوائيات، أو يرغب في شراء قنابل مسيلة للدموع، وأسلحة مكافحة للشغب وسيارات أمن مركزي حتى تدهس أبنائه حينما يطرحون رؤى معارضة، أليس من حق الشعب أن يسأل عن السبب وراء ركوب السادة الوزراء، ووكلاء الوزارة في بعض الأحيان سيارات مرسيدس، أيضاً من نفس ضرائب هذا الشعب.
أقول أن اختصار السؤال في الأمن والأمان وعجلة الإنتاج، ووضع المواطن العادي أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أنا (المشير/المجلس/العسكر) أو الفوضى (تماماً كما قال المخلوع!) ليس سوى خداع كذلك الذي قام به عبد الناصر في 1954، ولكن الفرق أن عبد الناصر آنذاك كان في السادسة والثلاثين من عمره، وأثبت مع مرور الوقت غايته التي قد نحتلف في مدى تبريرها للوسيلة.
أما الآن فقد تخطى غالبية أعضاء المجلس العسكري سن الستين، ويراوغون نفس المراوغة، ولكن في زمن آخر، وفي مرحلة عمرية أخرى، ومع شعب آخر، وأجيال أخرى تنظر لذلك العبث بعين الدهشة إن لم تكن السخرية والتهكم، وبعين الهلع من كم الدم المهدر على الأرض من جراء تلك الهوة الشاسعة بين الأجيال، وطرق التفكير، وآليات التنفيذ.
لن يخلق الخداع شرعية (خاصة وإن كان عاطلاً عن الموهبة والعقل)، ولن يولد العنف إلا عنفاً، والدماء لن تجلب سوى مزيد من الدماء، وكل يوم يمر يبتعد بنا عن الحكمة والعقل، ويحركنا نحو جنون القتل والثأر والقسوة.
المجد للشهداء
تحيا الثورة المصرية العظيمة
ويسقط يسقط حكم العسكر


Comments

  1. على الرغم من وجاهة وجهة النظر التي ترجع فارق الخطاب إلى فارق الأجيال، إلا أنني لا أتفق مع هذا المأخذ. من الملحوظ أنه في غمرة تحررنا من قيود سياسية فقد تمسكنا بقيود مجتمعية بائدة. منها على سبيل المثال النداء بضرورة ظهور "القائد" والذي لابد له أن يكون "حاسماً" وما غير ذلك من بقايا الفكر الرجعي الذي زرعته بداخل ثقافتنا عقود وعقود من الأنظمة الشمولية وانعدام الديموقراطية. وأود هنا اثارة مسألة محل قلق يساورني، وهي خواء هذه الانتفغاضة من إيمان حقيقي بالمساواة من أية جهة. تنتشر كالنار في الهشيم كراهية الآخر والنعرة القومية التي ترى في المصري فضلاص على الأعجمي لمجرد محل ميلاده. كذلك لا زالت هذه الثورة لا تحمل مكانا للمرأة، فلا نجدها على رؤوس قوائم حزبية ولا نجدها ضمن القيادات الشعبية ولا يرحب بها كمحارب حقيقي في المعركة، وإنما ممرضة أو مشجعة على أفضل الأحوال (حتى وإن كان المدخل هنا هو الشهامة، فهي المدخل الأساس لجميع الممارسات البطريركية). أخيراً ذلك النداء بأن الثورة ثورة شباب وأن هنالك فارق أجيال ينبع منه فارق في الخطاب والمبادئ هو مدخل غاية في الخطورة. فإن الحرية الحقيقية لا تفرق بالسن أو النوع أو الجنس أو الدين، وعلينا تركيز الصراع والخلاف الحقيقي في الصراع الطبقي ومحاربة الفساد.

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة