إنسانية المواطن المصري

حينما وقعت أحداث مجلس الوزراء، التقيت صدفة بالدكتور والكاتب الرائع محمد المخزنجي، وفي حديث عابر على مدار دقيقتين قال لي: "أتعرف ما أدهشني فيما حدث؟ شيئان: إنها نزعة العنف الوحشية لدى الجندي البسيط أمام أخيه المواطن الأعزل، والتجاهل والاستساغة العامة للعنف الذي يجري بدعوى أن ما يحدث بعيد، أو أنه مستحق، أو أنه صراع لا ناقة لنا به ولا جمل، وتلك قيم جديدة على مجتمعنا"
أتفقت وقتها تماماً مع رأي الكاتب الجميل، واستعدته أثناء قراءتي لقصة ناتاشا سميث التي اعتدي عليها في ميدان التحرير، من قبل الغوغاء، وتم تعريتها بالكامل، والتعدي عليها، في وسط تجاهل تام، وعجز كامل عن السيطرة على الوضع من قبل الراغبين في المساعدة، والذين كانوا يظهرون من حين لآخر وفقاً لروايتها.
أولاً: أصدق الرواية تماماً لأنها حدثت لأحدى صديقاتنا من النشطاء، وحدثت بنفس الآلية، ونفس العنف، بل وتعدى الخاطفون على ضابط شرطة حاول تخليص الفتاة من براثنهم، واضطر الضابط لإطلاق النار في الهواء لتفريقهم.
ثانياً: حاولت دائماً أن أخفف من هول الصورة، ومن قسوة المجتمع المتفسخ الذي أصبحنا نعيش فيه، حتى أحس بأن الأمل دائماً موجود، ودائماً ما كنت أقول لصديقاتي الأجنبيات، أن مصر بها كل شئ، وبها الطيب والخبيث، والحسن والرديء، وحتى حينما أسمع بحوادث تحرش، أحاول التخفيف من حدة وألم الوقائع، بأنه شعب مسكين، لم يعلمه أحد، ولم يعالجه أحد، وأحداً لم ينشأ له بنية تحتية محترمة، فكيف لنا أن نحاسبه الآن على جرائم يرتكبها عن جهل. ودائماً ما كنت أتعذر بالشهامة المصرية، ومروءة الشارع المصري في العموم، ذلك أنه دائماً ما يتصدى شخص عابر، أو مجموعة على مقهى لخطأ يحدث في الشارع، وكنت طوال الوقت مؤمناً بأن الشارع المصري آمن بأهله، وليس بضابط البوليس.
وبعد الثورة كانت ولا زالت لدي قناعة أن الشعب المصري العظيم، ولا أخجل من استخدام تلك الكلمة، هو الذي حمى شارعه، وهو الذي حدد نطاق الانفلات الأمني إلى حد كبير، وكان الانفلات الأمني ليكون أوسع نطاقاً وأشد أثراً لو حدث في دول أخرى، فطبيعة الغوغاء والقطيع بشكل عام تجنح إلى الفوضى، والانتهاك.  لكن مجتمعنا أثبت بما لا يدع مجالاً للشك، أن هناك حد أدنى للأخلاق والقيم والمبادئ، تجلى في أبدع صوره في اللجان الشعبية، وفي ميدان التحرير أثناء اعتصامه الأول، ثم تجلى بعد ذلك في أماكن متفرقة، وفي نسبة العنف والفوضى التي لا أعتقد أنها تصل إلى النسب الخطرة عالمياً إذا ما قيست بأوضاع الفقر، وبتعداد السكان.
أقول كل هذا، ويعتصرني الألم، وأنا أعلن هزيمتي، وخطأي عن تلك الفكرة الطوباوية عن الشعب، فما يثير الاندهاش في قصة ناتاشا سميث، هو كم التصالح مع فكرتين أساسيتين، موجودتين مع شديد الأسف بشكل متأصل، مع جو الأسلمة، والخروج من التاريخ الذي صاحب المجتمع المصري في نهاية السبعينيات، وظهور موجة الرئيس المؤمن محمد أنور السادات في أخلاق القرية، والدولة المسلمة (الرئيس المؤمن لأكبر دولة مسلمة!)، ودعمه ورعايته للأخوان وللجماعات الأكثر تطرفاً للتخلص من اليسار المصري، والجهاد ضد الإلحاد في أفغانستان، وموجة الهجرة إلى الخليج الوهابي والعودة من هناك بتقاليد تبعد عن تقاليد المجتمع المصري، وقيم فسخت المجتمع المصري، وحولته إلى المسخ الذي نراه.
الفكرة الأولى هي فكرة استباحة المرأة، فالكبت الموجود في دول الخليج العربي، والفصل بين الرجل والمرأة، ووضع المرأة في المجتمع الخليجي، وملبسها، قد جعل من المرأة السافرة، المتبرجة، نغمة نشازاً، تستوجب الاحتكاك بها، لأنها ليست منّا، بل منهم...فالأم والأخت يرتدين العباءة أو الحجاب أو الخمار أو النقاب، وذلك هو النمط المعروف، بينما الآخر، المتهتك، المبتذل، المتاح يرتدي ما يخرج به عن تقاليدنا، لذلك استحق التحرش به (وهو نفس المبدأ الذي نادت به النائبة المحترمة/ عزة الجرف الشهيرة بأم أيمن، في تفسيرها للتحرش بالفتيات!). ويجيء فصل الأولاد عن البنات في المدارس الابتدائية بمثابة تكريس لانغماس الأولاد في مجتمعهم "الذكوري"، وانغماس الإناث في مجتمعهم "الأنثوي"، ويتحول الفريقين في المدارس اللاحقة الإعدادية فالثانوية إلى "آخر" وإلى "تابو" وتتحول أحاديث الذكور عن المغامرات العاطفية والجنسية المحدودة في أماكن اللقاء إن وجدت (وفي مجتمعات الخليج الاستهلاكية ليست سوى المولات، وغيرها من أماكن البيع والشراء والأكل)، وتتحول أحاديث الإناث عن كيفية الدفاع، وكيفية الاختباء من الذكر "الآخر" الذي ينتظر اللحظة المناسبة لاقتناص الفريسة، فيخرج الذكور في مجموعات، وتخرج الإناث في مجموعات. حينما عاد المصريون بدءً من التسعينيات، بأموال فائضة، ومشاريع، ووحدات سكنية، وتقاليد وعادات، جاءت معهم تلك القيم الغريبة، وصاحبها بطبيعة الحال الجانب الديني الذي كان من ناحية يؤدي دور نوستالجيا الوفرة والحياة الرغدة، والحنين إلى المجتمع الذي قضت فيه العائلة أجمل الأيام، ومن ناحية أخرى فإنه كان يمثل ثقافة متعالية على الثقافة الدينية السائدة في مصر، وهي ثقافة الأزهر، وبدأت التفاصيل تفرض نفسها في الملبس، والصلوات، والاحتفالات، ودعاء دخول دورة المياه، والانتظار، والسفر، والنكاح...الخ الخ الخ. تفاصيل لم تكن موجودة في حياتنا نحن المصريين، ومن ناحية أخرى كان الجانب الديني يحفظ من العين الحاسدة، ويؤسس لشرعية الغنى الفاحش إلى جانب الفقر المدقع على الجانب الآخر من العائلة، وكأن التقوى والورع والالتفات إلى كلمة الله (على الشكل الذي يراه الوافد الغني) هي السبيل إلى العيش الرغيد. جاءت الوفود إلى مصر، كطاقة استهلاكية ضخمة، متعطشة لبضائع وخدمات استهلاكية لا يعرفها المجتمع المصري، فانتعش الاقتصاد الطفيلي، وبدأ انتعاش الشركات العقارية، والمراكز التجارية، وأسواق البضائع الاستهلاكية، وأسواق السيارات التي تفوق في بعض الأحيان مثيلاتها في بعض الدول الأوروبية حديثة العهد باقتصاد السوق. وكان ذلك على حساب غياب دور الدولة في التنسيق بين حق المواطن في التملك، والحركة، والبيع والشراء، وبين حق الدولة في الحفاظ على الممتلكات العامة، وعلى سلامة وأمان المواطنين.
في ظل ذلك التحول، وفي هذه البيئة عملت التيارات الإسلامية وأعظمها تأثيراً كان الأخوان المسلمون، فدشنوا العديد من المشاريع التجارية، والخيرية، وحصلوا على حصص كبيرة من السوق الاستهلاكي المصري المتعطش للاستهلاك. وبالتوازي مع ذلك المناخ، كان هناك الجانب الدعوي الذي يؤسس لمبادئ جديدة ودخيلة على المجتمع المصري، فبدأ الفصل في المدارس بين الأولاد والبنات، وبدأت موجات الحجاب، ثم الخمار، ثم النقاب، وبدأت الأحياء في تبني العديد من تلك العادات على مضض، بسبب الحاجة والسيطرة المادية، وانتشرت القنوات الفضائية الإسلامية الدعوية التي كرست بدورها لتلك الثقافات، لتختفي المرأة المصرية، والبنت المصرية وراء حجاب تزداد قتامته وحجبه للمعرفة مع الوقت، وأصبح الرجل مصدر الرزق، والمعرفة، والدين، وتكرست بذلك ذكورية المجتمع المصري الذكوري بالأساس، ولكنها ذكورية اكتسبت مسحة إلهية مع التأثير الوهابي. وبذلك لم تعد الفتاة المصرية موجودة في الشارع شأنها شأن الفتى، ولم تعد تعمل بجانبه في المصنع والشركة والمصلحة الحكومية كما في السابق وانعزلت الطبقات البورجوازية وراء زجاجها، وأسوارها، ومجتمعاتها العالية، ودار بقية الشعب في دائرة مفرغة مليئة بالأمراض والكوارث التي نراها رأي العين الآن في قصص من نوع قصة ناتاشا سميث.
مع الفقر الذي وصل إلى 40%، ومع كم الضغط الذي يتعرض له المهمشون والكادحون والعشوائيون، تصبح الحياة صراعاً مفتوحاً على البقاء. لقد كانت وظيفة عصا الأمن الغليظة هو الإبقاء على الإناء مضغوطاً ومغلقاً في كل الأحوال، والإبقاء على السريحة، وعمال اليومية، والبائعين الجوالين بعيداً عن أنظار النظام، وبعيداً عن أنظار الشارع البورجوازي في المناطق الراقية، ومع اختفاء الأمن، وشعور الشعب المصري "الحقيقي" الذي يعاني 40% منه من الفقر بالانعتاق، ومع شعور أولئك الباعة والسريحة والطبقات الأدنى بمناخ الحرية الحقيقي، الذي يتيح لهم، فعل أي شئ في أي مكان، ومع خروج المارد المصري من القمقم، واكتشاف المواطن المصري الطبيعي قدرته على الرد على ضابط الشرطة، بل وسبه أو ضربه أحياناً خرج الذكر المصري يبحث عن فريسة، وفي ظل الكبت الذي أصبح يعاني منه ذلك الذكر في حيه العشوائي الذي يقع فريسة لشيخ الجامع السلفي، وعجزه في كل الأوقات عن تفريغ طاقاته الجنسية بالشكل الشرعي أو الاجتماعي المناسب ، تصبح السافرة التي تستحق العقاب لسفورها، هي الفريسة المثلى لذلك الذكر، وأولئك الذكور، ولا سيما إذا كانت من عرق آخر، أجنبي، كافر، وجاسوس. بل إن الاعتداء وقتها قد يكتسب صفة شرعية، نظراً لما يبثه عوام الشيوخ السلفيين في الزوايا والجوامع من سموم قاتلة، عن الآخر وعن الأنثى، وعن الدولة الكافرة والعالم الكافر الذي نعيش فيه. وتصبح درجة العنف والوحشية، هي نفسها درجة ثورة الإنسان المطحون على كل ظروفه المحيطة، على فقره، وعلى جهله، وعلى بطالته، وعلى حياة البهائم التي يعيشها دون ذنب، وهو في الوقت نفسه يطالع كل يوم، وكل لحظة، بشراً آخرين، مصريين مثله، يتحدثون ذات لغته، ويشاركونه دينه ومصيره، ويعيشون في عوالم أخرى على أرض نفس الوطن يسمع عنها ولا يراها، ولا يعرف الطريق إليها. إنه العنف الوحشي الذي لاحظه الكاتب الدكتور المخزنجي، فكما يشعر الجندي بشرعية دفاعه عن الوطن أمام البلطجية والمندسين والجواسيس الذي يريدون تحطيم وطنه، ويستمد قوته، وإرادته، وعزيمته من حرارة الجو، وشظف العيش، وضغط الضابط الظالم، يشعر صاحبنا المواطن الذكر المعدم المتدين أحياناً الحاصل لتوه على جرعة زائدة من الحرية بنفس قدر الشرعية بالاعتداء على الأنثى السافرة المتبرجة المستباحة الموجودة وسط جمع من الذكور، وفي لحظة تختلط فيها اللذة بالعنف، ويختلط فيها الاحتفال بالحرية بوحشية الانتقام من الآخر الجاسوس المعتدي الذي قد يكون سبباً في الظلم، وتختلط فيها قيم العشوائية الدينية بالتهتك والانفلات، في تلك اللحظة المجنونة، يندفع القطيع نحو فريسته، ينتهك كل نقطة في جسدها العاري المستباح والرائع ويسرق ما يتمكن سرقته من سبيته، التي قد تدفع له الجزية في المستقبل القريب...هكذا تحول الإنسان المصري بفضل حفنة من حثالة المنتفعين من الدعاة والمرتزقة إلى حيوان تحركه تلك العواطف المريضة المركبة.
الفكرة الثانية هي فكرة الأنانية المفرطة التي تؤدي إلى عدم المبالاة، والتقوقع في المجتمع الأصغر فالأصغر..الأمة الأسلامية فالوطن فالعشيرة فالشارع فالأسرة فأنا ومن بعدي الطوفان. وما يتتبع ذلك من قيم الطفيلية والاستغلال والانتهازية، وهي فكرة نشأت من المجتمع الاستهلاكي الذي بدأ منذ عصر الانفتاح، والدخول في اقتصاد السوق، وعودة الوافدين من الخليج بقيمهم الاستهلاكية كما أسلفت، مجتمع يعلي من قيم المادة، ويجعل قيمة الإنسان تنبع مما يمتلكه من مادة، مما جعل التكالب بشكل اساسي على امتلاك المادة وليس المعرفة، واستهلاك الثقافة المعلبة والمبتذلة وليس امتلاك الثقافة المعبرة عن هوية المجتمع. في ظل ثقافة كهذه، يصبح الإنسان عبداً في شبكة معقدة من الديون، ويصبح همه الأساسي في كل الأوقات هو الدائرة الأصغر (العائلة في أفضل الأحوال)، وتصبح المشاكل الحياتية المرتبطة دائماً بدفع فوائد الديون المتراكمة، أو الحصول على وجبة عشاء لصغير جائع هي الهم الأكبر والشاغل لأغلبية المصريين. لذلك لم تعد استغاثة أنثى، أو استغاثة طفل، أو تسول مسكين يؤثر في الشعب المصري كما كان في السابق. أصبح الكل يجري وراء لقمة عيشه، ولكل إنسان مشاكله المادية والحياتية المعقدة، التي تمنعه من التفكير في الدائرة الأوسع، دائرة الشارع، الحي، المحافظة، الوطن بل والإنسانية أحياناً كما كان في السابق. لذلك كان التعاطف مع الضحية ناتاشا سميث وغيرها من الفتيات التي تم الاعتداء عليهن في حدوده الدنيا، ولم تثر مشكلتها فيمن حولها أي مشاكل أخلاقية أو إنسانية.
إني أرى الوضع جد خطير، ولا يتعلق بأي تطمينات ننتزعها من الرئيس الأخواني، أو ضمانات يعدنا بها الأخوان المسلمون (وما أدراك ما وعودهم!). إن الأمر يتعلق بمشاكل جذرية في منظومة الأخلاق، لا تنصلح سوى بالتربية والتعليم ثم الثقافة، والحديث لم يعد يدور حول الشواطئ والخمور وحرية الإبداع، الحديث يدور على إنسانية المواطن المصري التي أصبحت على المحك، وانعتاقه من الحيوانية التي حبسه فيها النظام السابق بمساعدة جيوش السلفيين وبعض الأخوان المسلمين، إن على الرئيس أن يختار بين الوقوف مع مدنية الدولة ودعم التربية والتعليم والثقافة، ولو أدبياً حتى اللحظة بما أن الموازنة العامة للعام المقبل قد وقعت بالفعل ولن يكون بيده شئ يفعله، وبين الارتماء في أحضان جماعته، ومن يتبعها، ومواليها، وأذيالها فتنجرف حضارة مصر الدولة العريقة على ضفاف النهر العظيم إلى هاوية سحيقة لا تقوم بعدها في المستقبل المنظور.

Comments

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة