نرد

  • وهو الشيش بيش يا معلم، وسلامو عليكو
  • ومالك بتقولها وأنت متعنطز وفرحان قوي يا أخويا، إيه قوام نسيت العشرتين بتوع امبارح يا روح أمك
  • إمبارح إيه يا اسطى، إحنا ولاد النهارده، إمبارح ده كان زمان
  • الله يرحم، بس العشرتين يعني بتوع امبارح كانوا صايمين، ماخدتش فيهم إنت ولا دور
  • يوووه هيرجع يقول لي امبارح وامبارح، طيب تحب تطبّق؟
  • أطبّق
  • قشطة

وبعد مرور نصف ساعة

  • وآدي كمان عشرة يا عم ولا تزعل، وبكده يبقى ثأر امبارح خلص...تحب تاخد كمان ولا كفاية كده النهارده؟
  • كفاية؟ كمان؟ إوعى تكون فاكر نفسك بقيت بتعرف تلعب، اكمنك يعني كسبت عشرتين، يا ابني الطاولة دي حرفنة مش هز اطياز...قدامك كتير
  • ياعم طيب بس بس بس، تحب تلعب كمان ولا هتقعد تهلفط بالكلام وخلاص.. إلعب كمان عشرة ولو إنت كسبت يبقى نلعب كمان، لو أنا كسبت تحاسب إنت على المشاريب.. إيه رأيك؟

بعد مرور ساعة

  • يبقى الحساب خمس عشرات ليا لواحدة ليك...ها تمام كده يا معلم النهارده؟ خدت واجبك؟
  • على فكرة إنت عيل إبن كلب، وبرضه ما بتعرفش تلعب، حظك بس كان عالي النهارده.. أشوفك بكره.. بس تعالى بدري علشان بكره هاقطعك بالطول وبالعرض وهاعلمك يعني إيه طاولة.

مضى نحو بيته بعد الواحدة صباحاً، يجر أذيال الهزيمة المرّة، يمشى متباطئاً يفكر في حظ صديقه سعد الذي ألحق به هزيمة نكراء للمرة الأولى منذ زمن بعيد. لم يكن يعرف أن أحداً يمكن أن يهزمه على هذا النحو الساحق، دائماً ما احتفظ لنفسه بمساحة للمناورة، ودائماً ما صالحه الحظ في النهاية... إنها استراتيچية حتمية، لابد أن تمهل الحظ، لابد وأن تنتظر حتى يستهلك غريمك كل حظه، ثم تبدأ هجومك بمجرد أن يبتسم لك النرد، وهو حتماً سيبتسم، ولكن كل ما هنا لك، أن تجيد الإنتظار، وتكون مستعداً للفرصة حينما تأتيك.

اختفى يوم العمل الشاق في ورشة الميكانيكا التي يمتلكها صلاح، وراء هزيمته أمام سعد زميله صاحب الكوافير في الشارع، بعد دقائق معدودة عليه أن يقابل سحنة زوجته العكرة، التي حتماً ما سوف تبكته، وتلعن اليوم الذي تزوجته فيه، وتذكره بمسئولياته، ومصاريف أولاده إلخ إلخ إلخ. أليس الزواج لعنة اللعنات؟ إن الجنة الآن بالنسبة له، أن يصبح حراً طليقاً يجلس طوال يومه على القهوة، ويلعب الطاولة مع سعد، وينتصر على جميع اللعيبة على القهوة، ويصبح بطل القهوة، وقهاوي المنطقة، وربما يحصل على كأس الجمهورية يوماً. ولكن حلم اليقظة الجميل هذا تحطم على صخرة نور الصالة المضاء في تلك الساعة المتأخرة من الليلة...إذن فهي مستيقظة...

“ربنا ياخدك ويخلصني منك يا بعيدة، وينكد عليكي زي ما انتي منكدة عليا عيشتي كده"

صباح اليوم التالي، وبعد فاصل طويل من النكد ليلة أمس، لم يستيقظ صلاح في موعده المحدد، واتصل به صبيه كي يعرف موعد وصوله إالى الورشة، فنهره، وشتمه بأقذع الألفاظ.. فدخلت الزوجة وزغرت له، وما أن انتهت المكالمة حتى انفجرت فيه:

  • “ما طبعاً يا سبع، آدي آخرة السرمحة، وسهر الليالي... صباحية مباركة يا دكر، مش قادر تصحى إياك؟ إيه مش ناوي تفتح الورشة النهارده ولا إيه؟"
  • يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم، ما تصطبحي يا ولية عالصبح

بعد موال صباحي أقسي من المعتاد، نزل صلاح للورشة، وذكريات هزيمة الأمس لم تبارحه... بل إنها لم تبارحه طوال اليوم، وكان في انتظار نهاية اليوم بفارغ الصبر، حتى أنه ألغى موعداً لأحد الزبائن الذي كان سوف يصل إليه متأخراً، وسيضطره للعمل ساعة إضافية، أجّله للغد، واتصل بسعد الذي أغلق دكّانه هو الآخر، وتواعدا على اللقاء اليومي بعد نصف ساعة.

كان اليوم مصيرياً بحق، ففي ذلك اليوم عاد صلاح لينتصر ويتبوأ مقعد الساخر المتهكم طوال الليل، ولكن ذلك لم يكن المهم، ففي الساعة الأخيرة فاتحه سعد في رغبته أن يبدأ معه مشروعاً، عرض عليه أن يفتحا قهوة في الشارع المجاور...فصالون الحلاقة وورشة الميكانيكا لن تدران ربع الربح الذي تدره قهوة فاخرة تقدم مشاريب وشيش وطاولة محترمة...

عاد صلاح لبيته وفكر في الأمر وقلبه على جوانبه، ولم يمر العام، إلا وقد افتتح صلاح وسعد قهوتهما المشتركة بالنصف...الآن أصبح الجلوس في القهوة هو العمل بعينه، وما أن بدأت القهوة في أن تدر ربحاً، حتى أصبح ارتياده اليومي لساعات متأخرة هو واجب شرعي يحتمه الرزق، ومصلحة البيت والأولاد...وما إن بدأت الحال في اليسر بعض الشئ حتى تحولت وصلات النكد إلى موضوع جديد له علاقة بإخلال صلاح بالواجب الزوجي المقدس الذي قامت من أجله العلاقة الزوجية، فكان يتعلل بالتعب، والمشاغل، ودوشة العمل... ويتهرب من زوجته بقصص مختلفة ومتنوعة عن الزبائن في القهوة، وعن القهوجية، و عن ضغط العمل، ومواسم العمل، ودفتر المصاريف، وعلاقته بسعد...

ولم تنقطع يوماً مباريات الطاولة القاسية بين الصديقين، وأضيف أليها عنصراً جديداً، أضافته طبيعة الحياة الجديدة، فابتدع سعد ذات يوم فكرة الرهان...فكان الرهان يتم بوحدة النصف جنيه، وهكذا كانت البداية مع نصف جنيه من كل لاعب، يربحهما الفائز، واستمرت اللعبة على هذا المنوال، حتى أصيب الإثنين بالضجر، لأن النقود كانت تنتقل من جانب إلي آخر، ولم تعد تشبع رغبة الإثارة والمغامرة مع مرور الوقت، فبدأ الإثنين يرسون قواعد جديدة للرهان، وهي إمكانية مضاعفة الرهان، وبذلك يختصر وقت اللعبة، فمن يحس أنه سوف يفوز، ولو بعد مرور دقيقتين على بدء اللعب، يتحدى الآخر برفع الرهان، ويكون على الآخر إما أن يقبل ويكمل اللعب بالرهان الجديد، أو يخسر الرهان القديم، ويستفيد اللاعب الفائز باختصاره الوقت، ومكسبه المضمون في مرحلة مبكرة من اللعب، ويبدأ الدور الجديد بآخر رهان.
ويبدأ اليوم الجديد برهان جديد وهكذا... مرت الأيام، وقضى الصديقان وقتهما في اللعب، والرهان، وتحول الرهان من أنصاف الجنيهات إلي الخمسة جنيهات، ثم الخمسين جنيهاً، حتى وجد صلاح وسعد أنفسهما ذات يوم في بؤرة اهتمام عدد من المعارف والأصدقاء حيث انتشرت الفكرة الجهنمية، وأصبح اللعب على بضع مئات من الجنيهات...
اكتسبت الحياة طعماً جديداً، وأصبحت الإثارة في اللعب حقيقية لا مراء فيها، ولكن صلاح كان دائماً ما يؤمن نفسه بأن لا يلعب ولا يراهن بأكثر من مائة جنيه، حتى يعود في نهاية اليوم لبيته دون خسارة مؤثرة...ومرت الأشهر حتى جاء أسبوع من تلك الأسابيع النحس التي أحياناً ما كانت تصيبه في السابق، ولكن ما أضيف هو خناقة في البيت، تركت فيه الزوجة والأطفال المنزل، وكان سعد يعيش وحيداً بعد أن طلق زوجته منذ عام ونصف...وفي ذلك الأسبوع كان صلاح وسعد يجلسان في القهوة حتى الرابعة والخامسة فجراً، ويتابعهم في ذلك اثنين أو ثلاثة من المعارف.. وزاد الرهان، مع غياب الرقابة المنزلية، وبدأت الأصفار في الزيادة، وحدث أن راهن صلاح بألف جنيه، وسعد بألف جنيه... وكان النرد لا يمشي في صف صلاح، ولكنه العند والرغبة في إثبات أن الحظ لابد وأن يبتسم الآن وهنا، وأنه سوف يعتصر ذلك الحظ حتى اللحظة الأخيرة، وسوف يبتسم له حتماً إذا ما أراد ذلك بصدق وعزيمة وإرادة المنتصر، بل أنه أقنع نفسه بأنه منتصر بالقطع، بل أنه انتصر بالفعل... وفي تلك اللحظة الجهنمية الفارقة، وفي ثانية هي من أروع الثواني في ذلك اليوم، وربما الأسبوع، بل وربما حياته بأسرها...رمي النرد وهو ينتظر رقماً واحداً لا محيص عنه "شيش بيش"، وهو تآلف الأرقام الوحيد الذي سينتشله من هزيمة محققة، وهي الفرصة الأخيرة التي سيخسر على أثرها ألفاً من الجنيهات في ظرف دقائق معدودات...
بدت له اللحظة غير حقيقية، بطيئة أكثر من اللازم، ولم تصدق عيناه ما رأته حينما ارتطم النرد بالطاولة الخشبية مصدراً ذلك الصوت الرائع الذي أحبه في تلك اللحظة أكثر من أكثر الأصوات شجناً ورومانسية...
“شيش بيش"
انتفض من فرط فرحته، وارتفعت أصوات مؤيديه بالتهليل، وأحس أن العالم يبتسم له في تلك اللحظة، وأنه مستعد في تلك اللحظة أن يدعو الجميع لأكلة كباب، احتفالاً بالنصر.

في اليوم التالي، اجتمعت الزبائن، والحكام، والمعارف والأصدقاء، وقرر صلاح ألا يكون الرهان عظيماً كما كان بالأمس، فبدأ من خمسين جنيهاً كعادتهم، وارتفع مع منتصف الليل إلي مائتين، فخسر في ليلته في المحصلة مائة وخمسون جنيهاً.. ولم يؤثر ذلك في سعادته بالنصر المبين الذي حققه منذ يومين...

بعد أيام ثلاثة، ارتفع الرهان مرة أخرى ووصل التحدي ذروته، ووضع الغريمين ثلاثة آلاف من الجنيهات دفعة واحدة، ومرة أخرى احتبست الأنفاس، وكسب صلاح للمرة الثانية أكبر الرهانات، وأحس لحظتها أن حنكته وحكمته، هي السبب وراء تلك الهزيمة النكراء المحيقة بصاحبه، كذلك فإن صاحبه مندفع، ويرفع الرهان وفقاً لحسابات شخصية... فهو ينفعل ويكره ويثور أثناء اللعب، بينما تكمن الحصافة في الإبقاء دائماً على الأعصاب في ثلاجة، والتفكير المتأني في قيمة الرهان بالنسبة لرأس المال.

مع الوقت أصبح لدى صلاح عشرة آلاف جنيه تحت حساب الرهانات، وكان ينفق منها أحياناً، ويراهن بجزء ضئيل منها فلا تنقص كثيراً ويحافظ في الوقت نفسه على توازنه وتفوقه أمام غريمه سعد.

وفي ذات يوم...

  • يا بني أنا من زمان أقول لك... الطاولة دي حرفنة مش هز اطياز... سيبوها للي بيعرفوا يلعبوها بقه
  • إنت إيه نسيت أصلك؟ الله يرحم الرهان أبو تلات آلاف اللي خسرته الشهر اللي فات
  • الشهر اللي فات؟؟ هأأو... إحنا في الشهر ده يا فكيك.. لو راجل نراهن بتلات آلاف دلوقتي
  • مش عاوز
  • علشان مرة ... مش باقول لك
  • لأ .. وإنت الصادق، علشان مش طربش زيك، باراهن على أي حاجة في أي حتة
  • بص يا بني لما أنت مش قد اللعب ما تلعبوش
  • لأ قده
  • طيب راهن
  • بتستفزني يعني يا سعد؟ طيب أنا مش هاراهن بتلات آلاف... هاراهن بخمسة

وبدأت المباراة شديدة السخونة، والتي احتبست فيها الأنفاس أكثر من مرة.. وكالعادة كانت الرمية المصيرية التي سوف تحدد مصير صلاح، ولكن الدنيا لا تبتسم دائماً كما يعلم هو شخصياً...فخسر رهانه، وربح سعد عشرة آلاف في لحظة كونية مقدسة وكأن الآلهة كانت تصالحه بعد طول خصام.

لم يغمض لصلاح جفن في تلك الليلة، ولم يعد يفكر في امرأته الغاضبة، أو أطفاله اللاجئين في منزل جدتهم... كان يفكر في شئ واحد امتلك كل جوارحه... كان يفكر في الانتقام.. في الغد سوف يراهن بخمسة آلاف جديدة، وسوف يكسب الرهان، وسوف ينتصر مرة أخرى، وسوف يعيد الآلاف العشرة، ثم يعود للرهان بأرقام أقل... لقد نجح سعد في استفزازه، ونجح في أن يضحك عليه...

وهكذا راهن صلاح بالخمسة آلاف الأخيرة أملاً في أن تعود المياه إلى مجاريها، وتعود الحياة إلى سابق عهدها، وبالفعل راهن بالآلاف الخمسة، وفاز بالرهان، ولكن سعد تحداه أمام الجماهير أن يرفع الرهان إلي خمسة عشر ألفاً، ولم يكن يملك أحدهما ذلك المبلغ نقداً، فقرر الإثنان أن يراهنا على نصيبهما في القهوة.

وعلى مدار أسبوع كامل ووسط زحام شديد وترقب مجنون تأرجحت الكفة بين صلاح وسعد على مصير قهوة أصبح خاضعاً لسلطة مكعبين صغيرين من البلاستيك، رسمت عليهما أرقام ستة، يحددان مصير المكان والإنسان

Comments

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة