هكذا همست إنچي في أذني...

معبودتي الصغيرة تملأ دنيتي بأنوثتها، تمشي بعذوبة، وتزيح خصلات شعرها الكستنائي وكأنها جميلة هوليوودية من فيلم أبيض وأسود. أحس بطاقتها البريئة كلما تفوهت بإسمي الجديد الذي تعلمته في مدرستها الفرنسية الجديدة...”پاپّا"...هكذا إذاً تنطقونها يا أهل الفرانكوفون. كثيراً ما "تتقصّع" وهي تنطق الباء الثانية، وأحياناً ما تكتسي الألف الثانية بلون آخر غير الألف الأولى، وكل حرف يتلون بلون حالتها النفسية، وما إذا كانت على وشك أن تطلب مني شيئاً أم لا...أقنعتني ابنتي الجميلة منذ اللحظة الأولى وهي تقول إسمي بلكنة فرنسية صحيحة بكل مليم سوف أدفعه في المشاريع التجارية المسماة بمدارس الشهادات الأجنبية...

عشرات الآلاف حتى يحصل الطفل على أبسط حقوقه في التعليم، حتى يحصل على نفس الحقوق التي يحصل عليها أقرانه في الدول الأخرى "المتقدّمة" مجاناً..لم أكن متعاطفاً مع فكرة الفرنسية، لجهلي التام باللغة، وجهلي النسبي بالثقافة، وكذلك لإحساسي الدائم بأن الفرانكوفون ليسوا سوى جيتو متعالي، ونخبة قديمة تحاول أن تبحث لنفسها عن هوية نخبوية متميزة من خلال التواء ألسنتهم بكلمة فرنسية غير مفهومة بين الكلمة العربية والأخرى، لعجزهم طوال الوقت عن إيجاد المرادف باللغة العربية. لذلك لم أقتنع فكرة حماتي "الفرانكوفونية" وزوجتي "الفرانكوفونية" هي الأخرى أن ندخل ابنتي الوحيدة إنچي مدرسة فرنسية باهظة الثمن والتي توسطت لنا بعد كل هذه المبالغ كي يقبلون استمارة دخولنا.

وذات يوم، وبعد زيارة ميمونة لحماتي ...وبعد أن قامت بدورها المعتاد في شحن حرمنا المصون، وبعد مرور نصف ساعة من رحيلها عن منزلنا، قام بيني وبين زوجتي شجار حاد، تجسدت فيه أمامي حماتي بشحمها ولحمها، ووجدت نفسي أصارع في زوجتي كل ما أكرهه في حماتي. وفوجئت بحمم بركانية من كل ما احتبس داخلي طوال أشهر مضت، تنفجر فيطير معظمها في وجه زوجتي، ويطال جزء آخر صغيرتي، التي على ما يبدو تشاهد والدها على هذا الحال للمرة الأولى.
في تلك اللحظات العصيبة من حياة الرجل، لا يجد أمامه خط رجعة في المستقبل المنظور، ويتمادى في كل ما يقول ويفعل حتى النهاية، حتى وإن أضطر أن يرتكب أكثر التصرفات حماقة، في تلك اللحظات، لا يعرف المرء نفسه مطلقاً، ويرى من حوله، ويكاد يرغب في الخروج من نفسه ليقول لهم: “لست أنا هذا... إنه شخص حل في جسدي، لا أعرفه..” ولكنها الطبيعة الإنسانية. أكثر ما أضعف موقفه لحظتها، هو أن إنچي كانت شاهدة على كل صدر عنه من صوت وصورة.

وبينما أنا منهمك فيما أفعل، وبينما كان إيقاع الحركة آخذ في الصعود، وأصبحت نهاية الموقف في علم الغيب، التقت عيناي بعيني إنچي البريئتين، وسمعت ما يبدو وكأنها الكلمة السحرية تناديني بها في تلك اللحظة العنيفة، الصاخبة، المتوترة، ومع أنني لم أكن أرغب في الامتثال لأي أنثى في تلك اللحظة التي يكره فيها كل الرجال كل نساء العالم، إلا أنني اضطررت أن أمتثل لابنتي الوحيدة....

فانحنيت كي أستمع لصوتها الملائكي، فهمست إنچي في أذني:


پاپّا...وددت فقط أن تعلم أنك تمتلك أجمل صوت في العالم

Comments

  1. عزيزي القصة بديعة اللغة ومرهفة المشاعر. وأنا وإن كان لي أن أخمن حسن نواياك لحسن عهدي بك، فأخشى أن يكون قد انفلت من خاتمة القصة خلاص لكل ذكر أساء لأنثى، فالصغيرة تستشرف المستقبل وتهمس له بأنه وإن جار على المرأة فلسوف تغفر له كل شيء لحسن صوته ولسلطته الأبوية (البطريكية). فالصوت حين علا راق للطفلة.
    لربما لم يكن ذلك مرادك، ولكنه استنباطي.
    أشكرك يا عزيزي على القصة.

    ReplyDelete
  2. لم يكن ذلك مرادي... أنت محق..
    كل ما هنا لك أنني رأيت أن كل ما يبدو في لحظة منفجراً متحدياً جوهرياً وقد يبدو نهاية العالم، قد يبدو من وجهة نظر أخرى لا شئ.. مجرد فرصة أتيحت للإحساس بلون جديد، بخط جديد، بكتلة جديدة، بنسيج صوتي جديد..
    بالنسبة للطفلة البريئة، أحبت صوت الأب حينما أحست بكل عنفوانه وغضبه، ولم يكن وقتها يعنيها الطاقة السلبية العنيفة المنطلق بها، لم تكن الطاقة هي ما أثارت اهتمامها في تلك اللحظة، كان ما أثار اهتمامها، هو جمال آخر.
    ..
    هناك ملايين اللحظات والمشاهد الجميلة التي تضيع منا، لانصباب اهتمامنا على الحدث محور المشهد، بينما هناك مئات الأحداث المحيطة لا تقل جمالاً عنه.

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة