حكاية لاأخلاقية - الجزء الأول


-١-

عزيزي القارئ:
هذه قصة حقيقية في مضمونها، خيالية في معظم تفاصيلها، قد تتفق تلك التفاصيل مع كثير من تفاصيل قصص وحكايات الزملاء الأعزاء من أوكرانيا وروسيا ممن عملوا معنا جنباً إلى جنب في أوركسترا القاهرة السيمفوني، ولازال بعض منهم يزاملنا، ولكنني أبداً لا أريد أن يكون المغزى من تلك القصص الحكم على أي من تصرفات الزملاء المحترمين، فكلهم كانوا ولازالوا أخوة لنا في الفن وفي الموسيقى وفي العمل بل وفي أحيان كثيرة في الوطن، حينما رفض بعضهم الرحيل على طائرات الإخلاء أثناء ثورة الخامس والعشرين من يناير.

إن تلك القصة إنسانية أكثر من أي شئ آخر، ولا يعبر العنوان عن حكم قدر ما يعبر عن قسوة القدر، أو لعلها قسوتنا نحن حينما نقسو على من نحب دون أن يساورنا الشك أننا في تلك اللحظات بعينها نفعل كل ما بوسعنا لإسعاده، إنها قصة عني وعنك عزيزي القارئ، ولا يمثل الجانب العاطفي الجنسي فيها سوى تفاصيل قد تختلف من ثقافة لأخرى، ولكن الطبيعة الإنسانية المدهشة دائماً هي ما أردت أن أتناوله، لا بالحكم، وإنما بالرصد، والتفكر العميق فيما يمكن أن يكون وراء كل تلك التصرفات، والمشاهد، والمواقف، والشخصيات من معان ومفاهيم وقيم...لا ولن أدعي الموضوعية، لعل ذلك في حد ذاته موقف موضوعي.

......
بعد سقوط الاتحاد السوڤييتي في ١٩٩١، وقعت أوكرانيا في أزمة اقتصادية طاحنة لمدة ثمان سنوات، تحولت خلالها إلى اقتصاد السوق، الذي غزا العقول بثقافة جديدة على العقل الأوكراني التقليدي، وبينما كان الإنتاج، والصناعة، والزراعة عماد الاقتصاد الأوكراني، تحولت أوكرانيا إلى سوق ضخم (أوكرانيا هي أكبر ثاني دولة في القارة الأوروبية بعد روسيا الاتحادية)، وانهارت العملة المحلية، وبدأ الناس في البحث عن بدائل طفيلية لأعمالهم الحقيقية، حتى يتمكنوا من الحياة، وتربية الأبناء.

في تلك الأوقات اضطرت ناتاليا ڤاينر عازفة الڤيولينة في أوركسترا دونيتسك السيمفوني، للعمل في متجر لبيع النظارات إلى جانب عملها الأساسي في الأوركسترا، واتفقت مع صاحبة المتجر على أوقات تواجدها، وإلى جانب ذلك كان زوجها يوري ڤاينر عازف الڤيولينة في نفس الأوركسترا أيضاً ينقل الركاب في سيارته الخاصة، حيث كان ذلك تقليد متعارف عليه بين الناس، ويكون الاتفاق مع الراكب قبل الركوب، والتسعيرة قابلة للتفاوض، في نفس الوقت الذي لا يدفع فيه السائق ضرائب سيارات الأجرة، وفي الوقت نفسه يتمكن من اختيار الركاب الذين يروقون له، أو السعر الذي يناسبه، وفي النهاية فالعملية يحكمها العرض والطلب.

وبتلك الطريقة تمكن يوري وناتاليا من التكفل بمصاريف ابنهما نيكولاي البالغ من العمر سبع سنوات، فتمكنا من دفع رشوة معتبرة بغرض إدخاله مدرسة متميزة، وكذلك كانت ألعابه متميزة عن أقرانه من الأطفال، وكان معظمها مستورد من أوروبا، حيث كانت تلك أحد علامات الثراء في ذاك الوقت. كذلك فقد تمكن الزوجان من تجديد الشقة التي يقطنون بها مع والدته يڤداكيما ڤاينر على الطراز الأوروبي، وكان ذلك أيضاً ولازال من الموضات الشائعة في أوكرانيا وروسيا بعد انهيار الاتحاد السوڤييتي، باختصار أصبح كل ما يحمل خاتم "أوروبا" محل إعجاب وتقدير واحترام...

بالفعل كان بيتهما أوروبياً إذا ما قيس ببيوت زملائهم من الموسيقيين في الأوركسترا، وذلك يعود بالتأكيد لعملهما في مهن إضافية، إلى جانب الموسيقى.

وذات مرة بينما كانت ناتاليا تتجول بجانب الكونسيرڤاتوار الذي درست به، وتعرفت بين جدرانه إلى يوري، قرأت إعلاناً عن استماع للقبول بأوركسترا القاهرة السيمفوني، وكان التاريخ في ظرف أسبوعين، وكان الإعلان يتضمن تذكرة الذهاب والعودة السنوية للقاهرة، ومرتب بما يعادل أربعة أضعاف مرتبهما، والعمل في القاهرة ابتداءً من سبتمبر (في ظرف شهر ونصف). توقفت ناتاليا أمام الإعلان طويلاً...وكأنها كانت تعلم مسبقاً أن ذلك الإعلان سوف يقلب حياتهم جميعاً رأساً على عقب. كتبت الموعد، وبرنامج الاستماع، وحينما عادت المنزل انتظرت يوري بفارغ الصبر حتى تخبره بالاستماع، وبالقاهرة، وبالمغامرة المجنونة للسفر إلى أفريقيا...

لا تسافروا يا أطفال إلى أفريقيا، فهناك تتجول التماسيح في الشوارع"...

أغنية روسية قديمة، يتذكرها الجميع حينما تذكر أفريقيا، هكذا فكرت ناتاليا بينما كانت تستقبل إبنها الوحيد نيقولاي من مدرسته، وفكرت في ما يمكن أن يفعله طفل مثل نيكولاي في القاهرة، لعلهم يعيشون هناك في ظروف صعبة، وقد تكون الحياة قاسية في البداية...
عليهم أن يتركوا نيكولاي لوالدة يوري لتعتني به، بينما يعدون العدة لاستقباله في القاهرة..هكذا قررت ناتاليا، وكأن يوري وافق بالفعل على السفر للقاهرة، ليس ذلك فحسب، بل وكأنهما نجحا في اختبار الاستماع، ودعتهما اللجنة للعمل في الأوركسترا السيمفوني بالقاهرة...هكذا هي دائماً، متسرعة، ومندفعة، وعاطفية

كان يوري أكثر اتزاناً منها، وكان استقراره في عمله، واستقرار عمله الآخر يوفران له قدر من الأمان، لم يكن يريد التضحية به في مقابل مغامرة طائشة في قارة بعيدة غامضة، وماذا عسى الأوركسترا السيمفوني في القاهرة أن يكون، مجموعة من الهواة، والمغامرون، يعزفون ببلادة، هذا ما هنا لك.. بالمقارنة بأوركسترا دانيتسك السيمفوني العريق، وتاريخ الموسيقى في أوكرانيا والاتحاد السوڤييتي، لا يعتقد يوري أن المغامرة تستحق التفكير بالأساس.

ولكن ناتاليا كانت ترى أنهما لا يملكان الفرصة للاستمتاع بولدهما الوحيد، فكلاهما يعمل طوال الوقت، والطفل يعيش معظم الوقت مع جدته، التي تذاكر له، وتهتم بملابسه، ومعيشته كاملة.. إنهما لا يكادان يعرفان أي شئ عن الولد، ويعود ذلك لاضطرارهم اضطراراً للعمل طوال الوقت، حتى يوفرا له العيش الكريم، والألعاب الأوروبية...

وفي القاهرة ماذا عسانا أن نفعل؟ هل نأخذ نيكولاي معنا؟ أي مدرسة سيدرس فيها هناك في القاهرة؟"

وباقتراح أن يبقى الولد في أوكرانيا، فاض الكيل بيوري، وأنهى المناقشة بالرفض القاطع المانع البات...وأغلق بذلك موضوع القاهرة للأبد.

بعد ذلك النقاش بيومين، كان القدر يخبئ لأبطالنا أحد المفاصل الحياتية، التي تبدو في ظاهرها تافهة دون مضمون يذكر، ولكن تأثيرها يمتد لعشرات السنين في المستقبل.

كان المطر في تلك الليلة غزيراً، وكانت الرؤية شبه منعدمة بينما كان يوري عائداً من توصيل أحد الركاب إلى مكان بعيد نسبياً، وإذا بعجلة القيادة تفلت من سيطرته، وتنقلب السيارة، وتصطدم بشجرة، لتتحول في لحظات إلى حطام، ولتتحول معها حياة يوري إلى حطام من نوع آخر.

لم يصب يوري سوى ببعض الكدمات، والرضوض الخفيفة، وبخضوعه للمراقبة لأربع وعشرين ساعة تبين أن كل وظائفه العضوية تسير بشكل طبيعي، ولكن ما أصابه بشكل حقيقي كان فقدانه لأحد موارد رزقه الأساسية، وما قد يتبع ذلك من عجز في سداد الديون، وعجز عن الوفاء بمتطلبات الحياة الأوروبية الجديدة التي تعودت عليها عائلته.

أصيبت ناتاليا بذهول عندما علمت بالحادث، وهرعت إلى المستشفى، وحينما اطمئنت على صحة زوجها، بدأت غريزتها الأنثوية في مخاطبة القدر الرائع الذي رزقها بتلك الحادثة في ذلك التوقيت تحديداً حتى تتمكن من إقناع زوجها بالعدول عن رفضه لفكرة القاهرة.

في الأسبوع التالي، لم تهدأ شقة يوري وناتاليا ڤاينر، وبدت وكأنها كونسيرڤاتوار صغير، يذاكر فيه الجميع، في نفس الوقت، ويصدرون صخباً موسيقياً يحيط البيت بما يشبه الهالة الفنية...كان الاستعداد على قدم وساق لاختبار الاستماع لأوركسترا القاهرة السيمفوني، وكانت مشكلة الثنائي أن أحدهم لم يعتزم السفر دون الآخر، وكان ذلك هو الشرط الوحيد ليوري، أن يكون السفر لكليهما، أو لا أحد.

في يوم الاستماع، التقت ناتاليا أولاً بالقائد الأساسي للأوركسترا، وقد جلس بجانبه رائد الأوركسترا التشيكي الجنسية، ولم يبد أنه مصري الملامح (وكأنها تعرف كيف يجب أن يبدو المصريين.. إنه المصري الأول الذي تقابله في حياتها!!)، حقاً أنها لم تقابل مصريين من قبل، ولكن تصورها عنهم كان أنهم داكني البشرة، مجعدي الشعر، ذوي أعين سوداء فاحمة، وربما نظرة خبيثة شريرة..

كان القائد حليق الرأس، عينيه عسليتان، مجعد الشعر، وكان مكتنزاً يقترب سنه من الخمسين، أو لعله جاوز الخمسين.. لا يهم، اتجهت عينيه كما توقعت ناتاليا لساقيها اللتين أبرزتهما الچيب القصير الذي ارتدته خصيصاً لتلك المناسبة، ولكن ذلك لم يكن السبب الوحيد، فذلك هو الچيب الذي نجحت به في امتحان التخرج (وكان معظم المحكمين رجالاً أيضاً)، وحينما انتقدها يوري صباحاً، قالت له في حزم أن هناك أشياء يصعب على الرجال فهمها.. لدينا هدف، وعلينا تحقيقه، وهذا هو المهم، أليس كذلك؟ من أجل نيكولاي... تذكر!

التقت عيني القائد الخجلتين بعيني ناتاليا التي كانت تعرف كيف تمسك بالرجل متلبساً بالنظر إلى ساقيها، فتشعره بالذنب، بينما تتصنع في تلك اللحظة البراءة، ليبدو الرجل في تلك اللحظة كذئب ضل طريقه إلى حفل كوكتيل دبلوماسي. بدأت ناتاليا العزف، وكانت بارعة بحق، فهي من الخمسة الأوائل على دفعتها، وهي تعلم تماماً أنها عازفة ڤيولينة ماهرة، ولكن ما تريده الآن هي أن تتفوق على الجميع، حتى يتم قبول يوري معها، حتى لو لم يؤهله مستواه، أي أنه كان عليها أن تعزف على مستوى يكفي كليهما للقبول...وقد كان

لم يكون مستوى يوري على نفس القدر من الإبهار، وإن كان جيداً للغاية.. كان ذلك رأي القائد، وتقرر في نهاية جلسة الاستماع قبولهما في أوركسترا القاهرة السيمفوني، وبدأت إجراءات السفر، لتبدأ حقبة جديدة في حياة عائلة ڤاينر، وليبدأ فصل جديد من فصول الحياة الموسيقية المصرية.


-٢-

في وداع الإبن نيكولاي أمام عربة القطار المتجه إلى العاصمة كييڤ، كانت ناتاليا منهارة بشكل كلي، كانت تلك هي المرة الأولى التي تترك فيها نيكولاي الصغير، ولا تعلم متى أو كيف ستأتي لاصطحابه إلى القاهرة، وما إذا كان ذلك سيحدث على الإطلاق، إنها تلك اللحظة التي تحس أن كل قرارتك خاطئة، وأن عليك أن تتراجع عنها فوراً، كان بودها حقيقة أن تعترف لزوجها أن فكرة القاهرة كانت فكرة سيئة، كيف استطاعت أن تفكر في ترك إبنها الوحيد نيكولاي، كيف تمكنت في التفكير بمعزل عن طفلها، كيف ستتمكن من الحياة بدونه، أسئلة بدت لحظتها بلا أجوبة، وبينما اختلطت دموع الطفل ودموع أمه في مزيج طعمه مر انساب على وجنتيهما، وتجرعه الإثنان في نفس اللحظة، انطلقت صفارة القطار وكانت النغمة هي نغمة "سي"، حيث تتمتع ناتاليا علاوة على موهبتها الفائقة بما يسمى بالأذن المطلقة، وهي الأذن التي تتعرف على النغمات الموسيقية دون الرجوع لمصدر صوتي. كانت تلك هي المرة الأسوأ على الإطلاق التي استمعت فيها إلى تلك النغمة، تلك الـ"سي" القاسية التي تنزع منها إبنها نزعاً، وتلقي بها وبزوجها في أتون المجهول.

كان يوري يعرف ذلك السيناريو مسبقاً، ولم تحصنه تلك المعرفة من بعض الدموع التي لم يتمكن من السيطرة عليها، ولكنه احتاط للأمر بزجاجة من الـ"ساموجون" المنزلي الذي أعطاه له بعض الأصدقاء (الساموجون خمر معتق ومقطر منزلياً يحتوي على درجة عالية جداً من الكحول)، وبجلوسهما معاً في عربة القطار، صب يوري لناتاليا جرعة مضاعفة من الساموجون الذي لم تكن لتشربه في الظروف الطبيعية، ولكنها كانت في حالة تحتاج فيها ما يهدئ من روعها، ومن حسرتها على فراق ولدها الحبيب، وبينما اخترقت عربة القطار ما تبقى من مدينة دانيتسك الجميلة الرائعة، فكر الزوجان في نفس الفكرة، فكرا في أن دانيتسك تبدو في تلك الليلة أروع وأجمل من أي شئ في الدنيا بأسرها، شربا في نخب المدينة الرائعة، ثم في نخب حبهما، ثم في نخب المستقبل المجهول في أفريقيا، وخلدا إلى النوم في القطار المتجه إلى كييڤ، مساء الغد سوف يكونان في مكان جديد، غريب...

غريب بالفعل هو ذلك الموظف الذي خصصته إدارة الأوركسترا لاستقبال العازفين، فهو لا يجيد الإنجليزية، التي تجيد ناتاليا بعضاً منها، ولا يجيد التعامل على الإطلاق، كان يتحدث بمفردات يبدو كل منها سليم على حدة، بينما لا تعني الجمل التي يكوّنها أي شئ على الإطلاق، وبينما كان يتحدث طوال الطريق عن الغد، وعن بروڤة، وعن الفندق، وعن المدة، وعن المقدم، وعن العقد...لم يكن في ذهن ناتاليا سوى أنها تورطت، وورطت زوجها وعائلتها في تلك المغامرة الكريهة...(كانت رائحة الموظف أيضاً كريهة إلى حد كبير، مما أعطى إنطباعاً سيئاً عن الشعب الذي سيتعامل معه الزوجان)..ولكن الوقت فات، وعليهما أن يعملا على الأقل ستة أشهر حتى يتمكنا من العودة.

في الفندق كان الحال أفضل كثيراً، كان الفندق كبيراً فاخراً، وكان هناك الكثير من السياح، وبدت القاهرة الليلية مبهرة بأضوائها وأصواتها، وبنهرها المتدفق نحو الشمال...الشمال حيث ينام نيكولاي الليلة دون أن يقبل والدته، ودون أن تحتضنه، وتتمنى له ليلة سعيدة، ذرفت دموعاً صامتة ساخنة، وانقبض صدرها، وأحست وكأنها ارتكبت شيئاً فظيعاً في حق نفسها، وفي حق ولدها.

كان الزوجان متعبين للغاية، فتوجها للنوم على الفور، وفي صباح اليوم التالي، كان موظف الأوركسترا ينتظرهما في استقبال الفندق، وعبر بهما النهر في سيارة خاصة بدار الأوبرا المصرية التي يمارس من خلالها الأوركسترا أنشطته، في الأوبرا كان المبنى حديثاً، ضخماً، بناه اليابانيون عام ١٩٨٨، وأهدوه كمركز ثقافي تعليمي، فحوله المصريون لدار أوبرا، وأصبح يسمى المركز الثقافي القومي واختصاراً دار الأوبرا، في المبنى كان هناك عدد من الروس الذين يعملون في الأوركسترا، وكان أولئك مصدر لكل المعلومات التي تلقاها الزوجان، في ذلك الصباح كان هناك بروڤة صباحية من العاشرة وحتى الواحدة، كان مستوى الأوركسترا يضاهي مستوى أوركسترا دانيتسك، بل ويفوقه، فقابلت ناتاليا عدداً من الزملاء من خريجي الكونسيرڤاتوار في كييڤ، وفي موسكو، وفي لينينجراد...إلى جانب عدد صغير من الموسيقيين المحليين، كان الجميع يعملون بجد وحماس، وكان صوت الأوركسترا ينبؤ بأن فناً جاداً يمكن أن تقدمه تلك المجموعة من الموسيقيين. لم يكن القائد الأساسي على نفس درجة الموهبة التي تصورتها ناتاليا حينما التقت عينيها بعينيه الموهوبتين في تتبع السيقان، ولكنه كان قاسياً وحاسماً، وكان من الواضح أنه يمسك الأوركسترا بيد من حديد. كما كان من الواضح أن استراتيچيته تأتي بنتائج إيجابية.

مرت الحفلة الأولى، ثم الأسبوع الأول والشهر الأول، وحينما قبض الزوجان مرتبهما الأول، أحسا للمرة الأولى بالارتياح، وأحسا أن الحياة توشك أن تبتسم لهما، واشتريا كثيراً من الخضر والفاكهة والحلويات، وجلسا في شقتهما المستأجرة المتواضعة يبكيان سوياً لأن إبنهما نيكولاي لا يشاركهما تلك الخيرات. كانت ناتاليا تتصل تليفونياً بنيكولاي كل ثلاثة أيام، كان الطفل يخبرها بإنجازاته في المدرسة، وكانت الجدة تثني عليه وعلى أخلاقه، وعلى دراسته، ولكن شيئاً ما كسرته تلك الفرقة، لم يعد نيكولاي يحب الحديث كثيراً في التليفون، كان يجري سريعاً ليلعب بألعابه، أو يحث جدته على إنهاء المكالمة حتى ينزلا للعب في الحديقة، كان نيكولاي يحب جدته كثيراً، كذلك فنيكولاي هو الحفيد الأول لجدته، لذا كانت تحبه بدورها حباً جماً.

هل يعوضه حب الجدة عن حب الأم؟ هكذا كانت ناتاليا تسأل نفسها طوال الوقت، ومع انشغالها وانشغال زوجها بالعمل، تباعدت المكالمات التليفونية، وأصبحت مرة كل أسبوع، وأحياناً ما كانت المكالمة في موعد يكون نيكولاي قد ذهب للنوم فيه، فتتحدث فيه ناتاليا مع يڤداكيما أسافييڤنا، فتعطيها تقريراً مفصلاً عن ما يفعله الطفل.

في القاهرة...كانت الحياة الفنية في ذلك الوقت تمتلئ زخماً، فإلى جانب أوركسترا القاهرة السيمفوني، كان هناك أوركسترا أوبرا القاهرة، وكانت هناك فرقة باليه القاهرة، وكانت تلك الفرق تستعين أيضاً بفنانين من روسيا وأوكرانيا، لذلك أصبح المدخل الخلفي لدار الأوبرا المصرية مكاناً هاماً للقاء والحديث، وتبادل الخبرات بشأن الحياة القاهرية الجديدة. كانت تجربة غنية ظهرت فيها مفردات جديدة مثل "الزيليونكا" (سوق الخضار في شارع سليمان جوهر في الدقي)، كما ظهر مصطلح الـ"تيرينكوڤكا" نسبة إلى تيرينكوڤ الذي كان يصنع خمراً محلياً في بيته بجوار شارع مصدق، وبدأ يوري في الانتظام في زيارته، وإلى جانب ذلك ظهرت العديد من العلاقات الهامة للغاية، والحوارات المثمرة، واللقاءات الفنية مع الموسيقيين وفناني الباليه من كل صوب وحدب. وبانتهاء حفلات السيمفوني أو حفلات الباليه أو الأوبرا، كان بالضرورة هناك حفل ما في بيت ما، يذهب إليه الثنائي، وقد اصطحبا بعضاً من الأطعمة المصرية الرخيصة التي تعرفا عليها مؤخراً، حيث تعودا على طيف جديد من الروائح والألوان والأصوات. وفي ذلك الحفل، كان الجميع يسكرون، ويتناقشون، ويغنون، ويعزفون، ويحبون، ويكرهون، ويحقدون، ويمارسون حياة جديدة لمنفى إختياري فرضته ظروف مع بعد انهيار الاتحاد السوڤييتي.

كان الموضوع الرئيسي المفضل للنميمة في الحفلات المحدودة التي يلتقي فيها ما يقل عن خمسة أفراد هو عازفة الڤيولا الجديدة، التي يبدو أنها ترتبط بعلاقة مع القائد الأساسي، وكيف أنهم على وشك الزواج، وكيف أنها تصغره بما يربو عن العشرين عاماً. ثم يدور الحديث عن مستواها، وعن دراستها، وعن تاريخها، وتاريخه، ثم تدور الأحاديث عن الأوركسترا ومستواه، ويبدأ لحن النوستالچيا الشهير حول "العرب" (تعود الروس أن يطلقوا لفظ "العرب" على المصريين)، وحول أنهم هنا يفعلون كذا وكذا، بينما نتميز "نحن" بكذا وكذا، وكيف أننا في روسيا تعودنا على كذا وكذا، بينما لا يفعل العرب كذا وكذا، وتنتهي الجلسة بأغنية روسية من أحد الأفلام القديمة الشهيرة، وقد يذرف أحدهم دموعاً على حياته في الوطن، حيث الغابات، والثلوج، والحياة الفنية الثقافية الغنية...

كانت ناتاليا تفكر في نيكولاي طوال الوقت، وكان ذلك هو محور دموعها معظم الوقت. ولكن شيئاً ما حدث، أضاف لحياتها بعضاً من الإثارة، والقلق...عاد يوري ذات ليلة من أحد الحفلات وقد فاحت من ملابسه رائحة عطر أنثوي فوّاح، والتقطت من على بذلته خصلات لشعر أسود فاحم. لا يقترب من لون شعرها الأصفر بأي حال من الأحوال. بدأ الشك يدب في حياتها، وتابعت نظرات يوري أثناء البروڤات، حتى تتمكن من معرفة ذات الشعر الأسود.

-٣-

لم تكن صاحبة الشعر الأسود عزيزي القارئ عازفة في الأوركسترا السيمفوني، أو أوركسترا الأوبرا، كما ظنت ناتاليا، كانت صاحبته راقصة الباليه أوكسانا ميروشنيتشينكو، التي جاءت إلى القاهرة من روسيا منذ عامين، وقد قابلها يوري في حفل من الحفلات الصاخبة بعد حفل للأوركسترا في بيت سيريوچا تيرينكوڤ، حيث كان يشتري بعض الخمر، فدعته لحفل يحدث في بيت مجاور، واستجاب لها. لم تكن بطلة قصتنا ناتاليا تعرف كل تلك التفاصيل، لكنها كانت تحس بحدس الأنثى أن شيئاً مجهولاً يجري دون أن تعرف تفاصيله، كذلك فقد لمحت ناتاليا ذات مرة يوري وقد مشى في شارع التحرير إلى جوار أوكسانا (لم يكن هناك ما يدعو للشك، سوى ابتسامة يوري العريضة، وتلك الطاقة الطازجة التي تميز بداية العلاقات العاطفية)، كانا يشتريان بعض الأطعمة، استعداداً فيما يبدو لحفل ما، أو ربما إلى شقة ما في الجوار..

بالنسبة ليوري كان اهتمام ناتاليا الأساسي هو المال، وكيفية الاقتصاد في مرتبهما، وكيفية إلحاق إبنهما نيكولاي بالمدرسة الروسية في القاهرة، حتى يلتم شمل العائلة مرة أخرى، لذلك أصبحت حياته في المنزل عبارة عن مونولوجات متواصلة عن الحنين لنيكولاي، والحنين لمدينة دونيتسك، والحنين لأوكرانيا، والحنين لأوركسترا دونيتسك، بل والحنين لمتجر النظارات البائس الذي كانت تعمل به...وكانت المناقشات تنتهي نهاية واحدة معروفة، شجار أزلي عن السبب في الوجود في القاهرة، وكيف أنها هي نفسها ناتاليا صاحبة المبادرة، ولم يكن من يوري سوى أنه استجاب لإلحاحها، وكانت هي تعترف بخطئها، ولكنها أصبحت تريد العودة، أو الإتيان بنيكولاي إلى القاهرة...في نفس الوقت لم تصبح العودة الآن من ضمن خطط يوري مطلقاً، على العكس، فقد اكتشف أنه يحب القاهرة، ليس ذلك فحسب، فقد كان يوري يعيش أسعد أيام حياته على الإطلاق...

وتلك قصة أخرى لابد من العودة قليلاً للوراء حتى نعرف ما حدث...

كانت أوكسانا تعيش مع ثلاثة راقصات باليه في شقة واحدة لا تبتعد كثيراً عن محل سكنه، وبعد تلك الحفلة التي دعته إليها في منزل تيرينكوڤ، دعته إلى شقتها، وأكملا الحديث الشيق الذي بدآه في الحفلة حول عرض "بيوتر تشايكوڤسكي" لبوريس إيفمان، وكانت أوكسانا من مدينة لينينجراد، بطرسبرغ الحالية، وتعرف بوريس إيفمان مصمم الرقصات والمخرج المعروف شخصياً، وكان يوري قد حضر ذلك العرض في مدينة كييڤ بينما كان في جولة لأوركسترا دونيتسك. وتطرق الحديث لمضمون العرض الذي يناقش قضية الميول المثلية عند تشايكوڤسكي، وكان الموضوع مثيراً للجدل، ومثيراً لشهية اثنين تلمع في عينيهما الرغبة الجنسية الناجمة عن درجة لا بأس بها من السكر.

في شقة أوكسانا، كانت الأمور أكثر سلاسة بكثير، لم يعرف يوري قبل هذه اللحظة علاقة "الباليرينا" (راقصة الباليه) بجسدها، لم يكن يتصور بدايةً كم التحرر من القيود التي يظنها ثابتة راسخة عند الجميع، أحس يوري للمرة الأولى بأصوله الريفية المحافظة، وتصور والدته يڤداكيما أسافييڤنا، وهي تنظر إليه نظرتها المربية، وقد جلس في المطبخ يحتسي "الساموجون" مع راقصة باليه، بينما تدخل زميلتها في السكن عارية تماماً، الحقيقة أنها لم تكن تعلم أن أحداً بصحبة أوكسانا، ولكن ذلك لم يضايقها أو يدهشها بالقدر الكافي، كما رأى يوري، وأكملت طريقها إلى الثلاجة، وجلبت ما أتت من أجله. كانت تلك صدمة حضارية ليوري، لم يكن يتخيلها، لاحظت أوكسانا دهشة يوري، فضحكت ببراءة وقالت::

- أننا في الباليه نستبدل ملابسنا أمام بعضنا البعض، وكثيراً ما نضطر لفعل ذلك أمام زملائنا من الراقصين الذكور، ولا يمثل الجسد بالنسبة لنا سوى أداة، آلة فنية مثل الڤيولينة التي تعزف عليها.
  • وماذا عن الجنس
  • إن الجنس يا عزيزي حالة هرمونية حيوانية بين الذكر والأنثى لا ترتبط مطلقاً بمدى عري الجسد، بل لا ترتبط
    بعريه المطلق.
  • ألا تثير زملائكم من الراقصين أجسادكم العارية
  • وهل تثيرك لوحة داناي لريمبراندت
  • بالقطع لا
  • نفس الشئ، هل سألت نفسك عما تراه في لوحة ريمبراندت، هل ترى أعضاء داناي أم ترى وراءها عمق الأسطورة اليونانية، وتصور ريمبراندت لتلك الشخصية
  • تماماً، هذا ما أراه
  • ونحن كذلك نعتبر أجسادنا جزء من لوحة ديناميكية كبيرة يرسمها المخرج، دون أن تكون لأجسادنا هوية جنسية، إنه جمال الجسد، جمال الحركة، روح ذلك الجسد وتلك الحركة، تلك الروح التي تسمو بعيداً عن التصنيف الجنسي للجسد، بين الذكر والأنثى
  • هل هذا هو السبب في انتشار المثلية بين راقصي الباليه؟
  • من قال هذا الهراء؟
  • لا أعرف، ولكني سمعته في مكان ما أثناء دراستي في الماضي
  • لا أعرف، ولكني أعرف أننا لا نتعامل مع الجسد بنفس القدر من الكبت الذي يتعامل به بقية الناس، الجسد وعاء للروح، ووظيفتنا تشكيل الجسد وحركته بنفس الجمال الذي تتسم به الروح....إن جسم الإنسان ليس سوى أداة تستخدمها من خلال عقلك الذي يصور لك ما تريد، وما تشتهي.
  • ولكنك تثيرنني على سبيل المثال (قالها يوري، وداخله يرتعد من المغامرة المجنونة)
  • نعم، وأنت أيضاً تعجبني بالمناسبة، ولكن في نفس الوقت، لاحظ أنه في ظل إثارتي لك، على المستوى العاطفي الجنسي، لم تثيرك زميلتي أولجا، حينما دخلت عارية، لأن المسافة التي قطعناها في مناقشاتنا، والتقارب الكيميائي الحادث بين عقلينا، قد جعل مني أنثى بالنسبة لك، بينما أولجا ليست سوى جسد إنسان عاري، جسد أنثوي مثل ملايين التماثيل الإغريقية والرومانية الموجودة في كل أنحاء العالم، كل ما هنا لك أنك صدمت، ثم زالت الصدمة مع الوقت، ولا زلت أرى عينيك تلمع بالرغبة تجاهي، لا تجاهها.

عند تلك النقطة قامت أوكسانا، وتوجهت نحو يوري، وقبلته قبلة عميقة، أكدت فعلياً ما قالته لتوها نظرياً

" الجنس هو حالة، لا جسد عاري... "

فكر يوري في تلك الكلمات بينما نظرت أوكسانا نظرة اخترقت عينيه نحو أعماق روحه وقالت:

  • ها نحن بكامل ملابسنا، ولكننا في حالة جنسية لأبعد مدى، دون أن ننزع عن أنفسنا جورب واحد... أليس كذلك؟
  • أقترح أن نخلع ملابسنا في مكان آخر غير المطبخ، فلا زلت ريفي أتحرج من جسدي العاري

ضحكت ضحكة أنثوية مائعة وقالت:

  • لا بأس، سأخلصك من عقدك مع الوقت، هيا بنا إلى غرفة النوم

كانت المشكلة الوحيدة التي قابلت يوري، بعد أن عصفت أوكسانا بعذريته الزوجية (كانت تلك هي المرة الأولى التي يخون فيها ناتاليا زوجته)، هو أن عليه أن يترك أوكسانا ليعود إلى منزله، فالمبيت خارج منزل الزوجية لا يوجد في قاموس علاقته بزوجته ناتاليا. عاد يوري ليرقد في الفراش إلى جانب زوجته ناتاليا ڤاينر، وتمنى ألا تفتش في عقله عن صورة لأوكسانا الرائعة التي كانت عينيه تفضحه بالتفكير فيها.

تمنى ألا تسأله: فيما تفكر؟ قطعاً سيكذب، ويختلق، ولكن كل ما كان يتمناه، أن تتركه ناتاليا كي يجتر كل لحظة في الساعات الأربع الماضية، بداية من إمساكه العشوائي بيدها، والإبقاء عليها بين يديه، وانتهاء بقبلة المطبخ، ثم الاشتباك الكامل في غرفة أوكسانا ذي الرائحة المميزة (تعمدت أوكسانا دائماً استخدام أنواع باهظة من البخور العربي تشبه العطور ذات الأنوثة الطاغية)...
-٤-
مع مرور الوقت كانت تلك هي الرائحة التي لاحظتها ناتاليا على ملابسه، وكانت الباليرينا أوكسانا ميروشنيتشينكو هي من رأتها بصحبة زوجها يوري الذي اضطر للإعتراف بالعلاقة بعد مرور شهر من انقطاعه عن زوجته، وانتهاء جميع الحجج الممكنة لعدم ممارسة حياتهم الزوجية التي كانت منتظمة قبل ذلك.

لم تكن مفاجأة بالنسبة لناتاليا، ولكن المستقبل هو ما أقلقها، فها هو زوجها بعد مرور شهرين من وجودهما بالقاهرة، يضاجع أخرى، ويعترف لها بالخيانة، ولا تعلم ماذا تفعل، ولا يعلم هو كيف يتصرف...مع الوقت، أصبحت الأوقات التي يقضيها مع أوكسانا أكثر، واستطاع أن يدخل إلى قاموس علاقته الرسمية بزوجته المبيت خارج المنزل. واستمرت تمثيلية الزواج أمام الأوركسترا والمجتمع الروسي، واستمر يوري في الحياة مع ناتاليا، في نفس الوقت الذي يقضى فيه معظم الوقت مع أوكسانا.

في منتصف الموسم الموسيقي كان من الصعب الانقطاع عن العمل، وزيارة الطفل، كذلك فإن لقاء الطفل لأسبوعين أن عشرة أيام، ثم الانفصال مرة أخرى سوف يكون صعباً على الجميع، لذلك انتظرت ناتاليا ويوري لأجازة الصيف، على أمل أن يكون ذلك نهاية الفراق، وأن يتمكنا من نقل الطفل إلى المدرسة الروسية في القاهرة ويلتم ما تبقى من شمل العائلة (ولو حتى على المستوى الرسمي فقط!)

قبل نهاية الموسم بشهر واحد انتقل يوري للحياة مع أوكسانا بشكل دائم، وبدأ تفكيره الجدي في الطلاق من ناتاليا، والزواج من أوكسانا. وبذلك أصبح الحديث عن انتقال الطفل نيكولاي للحياة في القاهرة، محض عبث، بل إن ما أصبح يقلق ناتاليا، هو آلية الطلاق، مع الإبقاء على حياة الطفل دون تأثير. في تلك الفترة العصيبة من حياتها، وبعد إحدى الحفلات في مدينة الإسكندرية، خرج مجموعة من الموسيقيين للإحتفال، وكان من بينهم صالح الشيمي عازف الفاجوت في الأوركسترا، لم يكن احتفالاً على الطراز الروسي، بل كان احتفالاً مصرياً محدوداً، عشاء جماعي ثم جلسة على أحد قهاوي الكورنيش، ثم جولة قصيرة على الكورنيش، وكانت ناتاليا تستمع بشغف لصالح الذي درس في فرنسا، وكانت صديقته أثناء الدراسة روسية، فتعلم لأجلها قليل من الروسية، وكان من الممتع أن تتحدث ناتاليا الروسية على كورنيش الإسكندرية في صحبة رجل أوروبي العقلية، في نهاية الجولة، تواعدا على الإفطار سوياً في الفندق، قبل التوجه للأتوبيس الذي سوف ينقل الأوركسترا للقاهرة.

على الإفطار، وفي الأوتوبيس، كان صالح مضحكاً للغاية، ولأول مرة منذ عدة أشهر تضحك ناتاليا من قلبها، وتنسى للحظات، مشاكلها مع زوجها، وفراقها مع إبنها.

بالعودة للقاهرة، كان من الواضح أن صالح مهتم بها، وكان من الواضح أنه يعلم من بقية الأوركسترا بطبيعة الحال، حكايتها مع زوجها، وحكاية زوجها مع أوكسانا الباليرينا...بنهاية الموسم، في وداع ناتاليا، طلب صالح منها الزواج، وكانت تعلم أنه صادق، ولكنها لم تكن متأكدة البتة من مشاعرها ناحيته...وذات مرة تحت ضوء القمر، وحينما تبقى من الزمن للقاء إبنها يوم واحد، بدت لها القاهرة للمرة الأولى رومانسية لأبعد الحدود، وتبدى لها النيل مبهجاً، وسمعت أصوات أبواق السيارات المزعجة من قبل، وكأنها أوركسترا معاصر يعزف مؤلف لشتوكهاوزن...في تلك الليلة، أطلقت ناتاليا العنان لعواطفها المكبوتة منذ ما يزيد على ثمانية أشهر، وباتت ليلتها في أحضان عازف الفاجوت، دون أن يكون لها هدف محدد، حتى وأن كان هدفه هو محدد. إن مشاكلها، ومشاكل زوجها وإبنها أكبر من أن تفكر الآن في شئ كهذا، لم تعده بشئ، وتركت كل الأبواب مفتوحة لكل البدائل، في الموسم الجديد.

في الوقت نفسه كان فراق أوكسانا ويوري فراقاً مؤقتاً، حيث تواعدا على اللقاء في مسقط رأسها في بطرسبرغ قبل أن تنتهي الليالي البيضاء في بداية يوليو، وكان اتفاقهما، أن يصطحب يوري زوجته الرسمية، ويقدمون أوراق الطلاق في دونيتسك، ويلتقي في الوقت نفسه بإبنه، ثم يقضي معها بقية العطلة الصيفية.

كانت عطلة صيفية ممطرة، وكان الجو في بطرسبرغ ملبداً بغيوم كثيرة، هناك كانت أوكسانا التي استقبلت يوري مختلفة عنها في القاهرة، كان أصدقائها الذين تعرف إليهم يوري مختلفين عن المجتمع الذي كانا يتعاملان فيه في القاهرة، أحس للمرة الأولى بالسذاجة، وبالريفية، بل وبالدونية أحياناً بين فناني المدينة التي تقع على نهر النيڤا، بدأت الخلافات بينه وبين أوكسانا، التي لم تكن متأكدة من عودتها للقاهرة بالأساس...وهكذا، وبعد تقديم أوراق طلاقه (وإن لم يكن ذلك يعني بأي حال من الأحوال طلاقه الفعلي من ناتاليا) أصبح يوري متأرجحاً بين امرأتين، تلفظه إحداهما، ولا يعلم ما إذا كانت الأولى لا تزال تنتظره أم لا. ترك يوري أوكسانا، ولم يضيع مزيداً من عطلته في بطرسبرغ، وعاد إلى ناتاليا، التي لم ترحب به في البداية، وأخبرته بعلاقتها التي بدأت لتوها مع عازف الفاجوت المصري، وبدا للحظة أن نفس المثلث بين ناتاليا ويوري وأوكسانا، على وشك أن يحدث بين يوري وناتاليا وصالح، وعليه أن يتحمل نفس التمثيلية الرسمية، كما تحملتها زوجته الثمانية أشهر الأخيرة. لم يكن هناك بد من القبول، خاصة وأن ناتاليا وافقت على عدم المضي قدماً في مسألة الطلاق، والإبقاء على الحال كما هو عليه. في نهاية العطلة كان من الصعب أن يقرر الثنائي أنهما سيصطحبون الطفل، لأن أحداً لم يعد يعرف ما يخبئه المستقبل، ولكن في ليلة مقمرة من ليالي دانيتسك، وبينما كان يوري يداعب نيكولاي في ساحة اللعب أمام منزلهم، اشتاقت ناتاليا لأحضان زوجها الضال، وعادت له في تلك الليلة، ليعودا إلى القاهرة في بداية موسم الأوركسترا كما بدءا الموسم السابق، زوجاً وزوجة.

كان فراق الطفل في هذه المرة أقل وطأة من المرة الأولى، غريبة عواطف الإنسان حينما تتبلد حيال الأشخاص الأقرب على الإطلاق، لم يبك نيكولاي، أو يوري، وبكت ناتاليا وحدها هذه المرة.

في القاهرة، كانت هناك أخبار وأحداث مدهشة في انتظارهم بمجرد الوصول، لا يصح الحديث عنها دون أن أشرح لك عزيزي القارئ طبيعة الشخصيات التي سوف يدور حولها الحديث، وأعني هنا أحمد الأبونيه "الكمسري"، وڤيرونيكا ڤوروبيوڤا عازفة الڤيولا من مدينة ساراتوڤ.

كان أحمد الأبونيه هو القائد الأساسي لأوركسترا القاهرة السيمفوني زهاء سنوات عشر بداية من أوائل التسعينيات من القرن الماضي، وحتى حفل الألفية، حينما تشاجر مع إدارة الأوبرا، وتقدم باستقالته، ثم بدأت شكواه المستمرة والممتدة حتى يومنا هذا، بداية من وكيل وزارة الثقافة، ومروراً بالوزير، ورئيس الوزراء، ورئيس الجمهورية، وانتهاءً بمدير اليونسكو. كان المصريين في الأوركسترا يسمونه أحمد "الكمسري"، ولهذا اللقب قصة حدثت أثناء حفل ضمّ مصريين وروس، كانوا يلقبونه باللفظة الإنجليزية للقائد، ولكن بالنطق الروسي، وهو ما يعني محصل التذاكر في وسائل النقل العام، والتقط ذلك صالح الشيمي عازف الفاجوت، الذي كان يجيد الروسية بعض الشيء وربط بين كلمة القائد بالإنجليزية، والنطق الروسي، والترجمة العامية المصرية التي تعني "الكمسري"، وبما أن إسم عائلة القائد كان "الأبونيه" نسبة إلى عائلته في الشرقية، والتي على ما يبدو كان أحد الأجداد يمتهن مهنة الأبونيه (تاجر المنيفاتورة، المنتقل بين الريف والمدينة بواسطة الأبونيه، ولذلك كان يطلق عليه الأبونيه)، فأصبح من المنطقي للغاية أن يكون اسم القائد الأساسي أحمد الكمسري بدلاً من أحمد الأبونيه.

أما ڤيرونيكا ڤوروبيوڤا عازفة الڤيولا، فكانت تعمل في مدينة ساراتوڤ مسقط رأسها، بعد أن انتهت من دراستها في كونسيرڤاتوار بطرسبرغ، وعلمت بفرصة العمل في أوركسترا القاهرة من خلال إحدى زميلاتها في موسكو، ڤيكتوريا شنايدر، والتي التحقت بالأوركسترا في العام الماضي. سافرت للجنة الاستماع في موسكو، وقبلتها اللجنة، وسافرت إلى القاهرة، لتعمل مساعدة لقائد مجموعة الڤيولا.

لاحظت منذ الأسبوع الأول اهتمام القائد الأساسي بها، فهناك نوع من النظرات لا تخطئه المرأة مطلقاً...سألت صديقتها ڤيكتوريا عن وضع القائد وعن سنه، وحالته الإجتماعية إلخ...ووجدت أنه لا مانع من إقامة علاقة معه، فالفارق في السن لا يمثل بالنسبة لها أي عائق. في الوقت نفسه، كان فارق السن، هو محور الحديث في الأوركسترا بأكمله، كان الفارق يربو على العشرين سنة، وكانت العلاقة التي تطورت بينهما في المستقبل تعني أن ڤيرونيكا لا ترى في القائد سوى حصالة نقود، أو فرصة للحصول على جنسية جديدة، أو جنسيتين جديدتين (كان القائد الأساسي يمتلك إلى جانب جواز سفره المصري جواز سفر ألماني، حصل عليه أثناء دراسته في ألمانيا). ولكن ذلك وأن كان حقيقياً بعض الشئ في بداية العلاقة، لم يعد حقيقياً على الإطلاق بعد فترة من حياتهما سوياً في شقته المستأجرة في حي الدقي بجانب الأوبرا.

نعود للأخبار الرئيسية في الموسم الجديد عزيزي القارئ، كان الخبر الأول هو زواج أحمد الأبونيه من ڤيرونيكا ڤوروبيوڤا، واتضح ذلك منذ الحفل الأول في الموسم، حينما قام القائد الأساسي بإهداء باقة من الورود أهدتها له أحد المعجبات، لڤيرونيكا على مرأى ومسمع من الجمهور، ومن الأوركسترا، الأمر الذي كان يعني أن العلاقة بينهما جادة وعلنية، وعلى وشك أن تتوج برباط رسمي.

أما الخبر الثاني عزيزي القارئ كان يخص بطلة قصتنا، عازفة الڤيولينة ناتاليا ڤاينر، التي تأكدت بمرور الشهر الثاني من الموسم أنها حبلى، وبدت الأمور في بداية الموسم الجديد، أنها تتجه نحو نهاياتها السعيدة...

لكن المشكلة الوحيدة في قصتنا هي عازف الفاجوت المصري صالح الشيمي، الذي تحطمت على صخرة السعادة الزوجية (التي لم يصدقها صالح بأي حال من الأحوال) التي تذرعت بها ناتاليا كي تنهي أي علاقة يمكن أن تنشأ بينها وبين صالح.

-٥-
في نهاية الموسم الثاني، وتحديداً في اللحظة التي طالع فيها يوري عيني طفله، أدرك على الفور أنه ليس طفله، كانت الطفلة التي اتفقا مسبقاً على تسميتها "ماشا" تدليلاً لإسم "ماريا" طفلة طبيعية في بيئة مصرية، كانت الطفلة قمحية اللون، وكان لون عينيها أسوداً واضح السواد، وكان شكلها مصدر حرج شديد ليوري في المستشفى، الذي همهمت جميع ممرضاته بذلك المولود العجيب لأبوين روسيين، ويبدو مصرياً صميماً، بالطبع كانت هناك إيحاءات وضحكات (لم تكن مبنية على فراغ كما نعلم أنا وأنت عزيزي القارئ، ولكن أحداً لا يعلم ما مر ويمر به أبطالنا).

بالفعل كان والد الطفلة "ماشا" هو صالح الشيمي، وكان ذلك أمراً واضحاً لناتاليا ويوري، وكانت ناتاليا بهذا الصدد امرأة قوية، عرضت بجدية على يوري أن لا يعترف بالطفل، وعرضت أن تقوم هي بعمل كل مستندات الطفل، بوصفها أم وحيدة، وهو أمر رسمي في المستندات الأوكرانية. كما عرضت عليه الطلاق كحل جذري في تلك المشكلة، وحينما سألها عن علاقتها بصالح، أكدت له، أنها لم تقابله، بعد تلك الليلة، ولا تعتزم مقابلته في المستقبل خارج إطار العمل الذي يجمع ثلاثتهما.

خرج يوري من منزله باتجاه منزل سيريوچا تيرينكوڤ، وسلك نفس الطريق الذي تعود أن يسلكه بصحبة أوكسانا، لم تعد أوكسانا من بطرسبرغ، بدت اللحظات التي قضاها معها، وكأنها حلم قصير جميل في ليلة طويلة مليئة بالكوابيس، كان يود الحديث إليها الآن، ولكنها لم تعد إالى القاهرة من بطرسبرغ كما علم من الزملاء، كذلك فقد وصلته معلومة أنها تلقت عرضاً من فرقة بوريس إيفمان لتعمل بها، وقبلت العرض على الفور...الآن يمشي هو في المدينة الأفريقية الغريبة الصاخبة العجيبة التي تمتلئ بكل الأشياء، وكل الألوان...ليس ذلك فحسب، بل إن طفلة ولدت لزوجته تمتد جذورها لتلك الأرض الغريبة، طفلة لاذنب لها أن تنشأ غريبة عن الجميع، سيكون إسمها "ماشا"، ستتحدث الروسية فتصبح أجنبية بين أقرانها من الأطفال المحليين، وسوف يجلب لها شكلها الأفريقي العربي المتاعب في محل إقامتها حينما يعودون إلى أوكرانيا...طفلة سوف يسألها الجميع دائماً: “ماشا، أين مسقط رأسك؟ لا تبدين أوكرانية"...تباً للقدر، تباً للقاهرة، تباً لتلك المغامرة التعسة.

في منزل سيريوچا كان هناك أحد الزملاء في الأوركسترا عازف الكلارينيت رومان ساڤيتسكي، وهو شاب موهوب للغاية، قصير القامة، كل ما يعرفه عنه أنه جاء مع مجموعة العازفين الذين أتت بهم ڤيرونيكا ڤوروبيوڤا (زوجة القائد الأساسي) من ساراتوڤ، ومع أن دخول تلك المجموعة من ساراتوڤ تم وفقاً لأعراف المهنة، وقوانين الأوركسترا، من خلال استماع نزيه في مجمله، إلا أن الاتجاه إلى ساراتوڤ تحديداً، وقدوم أولئك العازفين من نفس مدينة ڤيرونيكا، أو من المدن المجاورة ألقى بظلال من الشللية والمحسوبية، وجعل كثير من الأوركسترا ينظر إليهم بوصفهم الملتحقين بالأوركسترا بالواسطة.، ولو أن تلك الإشاعة تبخرت مع الوقت نظراً للمستوى الجيّد إن لم يكن الممتاز لأولئك الفنانين، إلا أن تلك السحابة ظلّت تحوم حول ڤيرونيكا وحول زوجها القائد الأساسي وحول الأوركسترا.

كان "روما" (هكذا كانوا يدعونه تدليلاً!) قصير القامة كما أسلفنا، ذو ملامح قوقازية آسيوية مختلطة، وكان مثالاً حيّاً للجيل الذي سقط في فراغ مع بعد الاتحاد السوڤييتي، فبعد القبضة الحديدية للحزب الشيوعي السوڤييتي، والستار الحديدي المحكم، والحدود المغلقة، والأفكار الجامدة المقولبة إلى حد بعيد (الأمر الذي لم يبلغ مدى السوء والسلبية التي صورتها آنذاك ماكينة الإعلام الغربية)، ظهر في فضاء الفن والثقافة كل الغث والساذج والفقير من البضاعة الإعلامية والثقافية والتجارية المصدرة عن عمد لتدمير البنية التحتية الثقافية في روسيا ما بعد الاتحاد السوڤييتس، وظهر اتجاه ملح وواضح نحو الغرب وأمريكا، وصندوق النقد الدولي إلى آخر الفيلم الهابط.

كان "روما" ينتمي لذلك الجيل الذي نشأ في بيئة قاسية تتعامل مع الفن في مجمله، ومع فن الأداء الكلاسيكي بشكل خاص، بوصفه سلعة بائرة في سوق المنافع والمكاسب المادية في ظل اقتصاد السوق والعولمة والأيديولوچية البراجماتية في أبشع صورها. لذلك السبب تحديداً تخرّج روما من الكونسيرڤاتوار، ولم يجد لنفسه مكاناً في أوركسترا ساراتوڤ المحلي، ووجد مكاناً في فرقة السيرك للموسيقى النحاسية. الأمر الذي أدى لتعرضه للآفة الأكثر خطورة على المجتمع الروسي، وهي إدمان الكحول. كان معظم الموسيقيين يعاقرون الخمر بعد البروڤات، وبين البروڤات، وأحياناً في أثناء البروڤات. بينما كانت الحفلات الأسبوعية حفلات سكر وعربدة جماعية (كان السيرك يقدم لجمهوره أربع حفلات أسبوعياً).

بالطبع لم يرق ذلك لزوجته سڤيتلانا (سڤيتا) التي كانت في ذاك الوقت تعتني بابنتيهما الوحيدة چوليا التي كانت تبلغ من العمر ثلاث سنوات في ذلك الوقت. كان الوضع يسير من سئ لأسوأ، وجاءت الصدفة وحدها وكأنها يد العناية الإلهية لتنقذ العائلة الصغيرة من المصير المحتوم. فقد كان من ضمن أصدقاء سڤيتا، ڤيرونيكا ڤوروبيوڤا شخصياً، والتي كانت في زيارة صيفية لساراتوڤ، والتقيتا بالصدفة في منزل أحد الأصدقاء المشتركين، وكانت ڤيرونيكا تعرف روما معرفة جيدة، كما تعرف مستواه وموهبته، كما كانت تعرف سڤيتا وچوليا. وبينما كانت ڤيرونيكا تحكي في حماس وشغف عن عبقرية زوجها الملهم القائد الأساسي للأوركسترا الوطني السيمفوني، التفتت فجأة لسڤيتا، وسألتها عما إذا كان روما قد يرغب في التقدم للعمل بالأوركسترا. ودون تفكير، وافقت سڤيتلانا (وكأن الأمر يعنيها وحدها دون زوجها) ووعدتها أن تنقل الأمر لروما الذي تعتقد أنه حتماً سيوافق.

بالفعل وافق روما، ورأى هو الآخر أن تلك الفرصة هي انتشال لعائلته من ذلك المستنقع الريفي، كما رأى أن ذلك لابد وأن يحمل معه أموالاً سوف يستطيع بها أن سنفق على أسرته الصغيرة، وبالتأكيد فإن الوجود في أوركسترا سيمفوني كبير أفضل من العمل في فرقة السيرك النحاسية المملة.
حينما التقى يوري بروما، كان روما قد وجد (بمساعدة أصدقائه الطيبين في الأوركسترا) كنز الأوركسترا الاستراتيچي تيرينكوڤ، ومشروبه السحري التيرينكوڤكا، وبدأت أموال روما مع الوقت في الانتقال تدريجياً إلى سيرجيي تيرينكوڤ ثمناً لخمره الرخيص المصنّع منزلياً.

حينما وصل يوري لتيرينكوڤ، كان تيرينكوڤ شخصياً يشارك ساڤيتسكي الشرب (وهو أمر نادر الحدوث أن يشارك تيرينكوڤ أحد زبائنه في الشرب)، فانضمّ يوري لهما، وكأن القدر دعاه لتلك الجلسة خصيصاً ليبتعد عن مشاكله الشخصية، وانخرط ثلاثتهم في الشرب. لم تمض ساعة واحدة حتى كان يوري وروما يتحدثان عن الماضي، وعن روسيا، وعن الموسيقى والأدب والفن، ومشروعات المستقبل.

خرج الصديقان متأبطين ذراع بعضهما البعض، متجهين إلى بار أفريكانا، كنز استراتيچي آخر وجده روما منذ أسبوعين، وأصبح زبوناً دائماً هناك.دخل يوري بخطوات حذرة إلى العالم الجديد الذي لم يراه من قبل في قارته العجوز أوروبا.

-٦-
في التاكسي المنطلق من بار أفريكانا إلى المعادي الجديدة جلس يوري في المقعد الخلفي، وبجانبه فتاتين من جنوب السودان قالت إحداهن أنها تدعى "مونيكا"، والأخرى "سارة"، لم يقتنع يوري بأي من الإسمين "السودانيين"، كما لم يتبين معالمهن جيداً في الإضاءة الخافتة داخل البار، ولكن روما أكّد له بلهجة الخبير المجرّب أنهن الأفضل في البار بأكمله، والأهم من ذلك أنهن جامعيات!!!...”نعم! هذا تحديداً ما كان يبحث عنه يوري، فتيات ليل سودانيات جامعيات من بار رخيص قذر في القاهرة اللعينة!” ذلك ما فكّر فيه يوري بينما توقف التاكسي في جزيرة المنيل، وطلبت إحدى الفتيات أموالاً كي تشتري بيرة وسجائر وواقي ذكري من الصيدلية المجاورة للبقال...كان المدهش ليوري أن يترقب رد فعل البقال المصري على الفتيات الثملات وقد خرجن بملابس السهرة يشترين بيرة، بينما يجلس في التاكسي زبائنهن من الأوروبيين، وقد بدى بشكل واضح طبيعة العلاقة بين الفتيات والزبائن، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل كان من الواضح أنهن يخترن بين أنواع مختلفة من الواقي الذكري، ويتضاحكن داخل الصيدلية...يا له من عالم غريب، يا لها من مدينة عجيبة متناقضة تلك القاهرة التي تجتهد فيها ناتاليا زوجته صباحاً حتى لا يبدو ملبسها ملفتاً، وتعاني من الشارع القاهري الصباحي يومياً، بينما تتوائم خفافيش الليل المصرية مع كل أشكال الثقافات المستوردة، بما في ذلك ثقافة الخمر والدعارة..

هناك أحداث وتصرفات نجهل أسبابها في اللحظة والتو، بينما تتضح إذا ما نظرت بعيداً في عمق المستقبل، أو إذا ما قارنتها بأحداث بعيدة في الماضي..لم يكن يوري يسيطر على الموقف إطلاقاً، ولا يدري في الوقت نفسه سر انصياعه الكامل لمغامرات روما المجنونة...لقد اتفق روما مع الفتيات على السعر، ودفع لهن، وحصّل من يوري الثمن، ولم يكلّف يوري نفسه عناء السؤال عن السبب، أو الهدف، ووافق على المغامرة في سكون مريب، وذهب بصحبة روما والفتاتين لشقتهما المستأجرة في مجاهل المعادي الجديدة وسط الصحراء..

في غياهب السكر البيّن، أدرك يوري حقيقة بدت له هامة للغاية، بعد أن أحس بشئ أليف في "مونيكا" فتاة الليل التي كانت بصحبته (اتفق روما أن يحصل يوري على مونيكا، حيث أنه ضاجعها منذ يومين، ويود تجربة صاحبتها)..لقد اكتشف صاحبنا أنها تستخدم نفس العطر الفرنسي الذي تستخدمه "ناتاشا" (تدليل ناتاليا، وقد فكر فيها بذلك الإسم في تلك اللحظة، لأن ناتاليا بدت له في تلك اللحظة بعينها أقرب إليه من أي وقت مضى)...تأكد من نوع العطر بعد أن سأل مونيكا، ولكن للعطر نكهة مختلفة على جسد ناتاشا ...”ترى هل يؤثر لون البشرة على رائحة العطر، لماذا يحس بالعطر الآن على هذا النحو الماجن...ترى هل هي حركاتها وإيماءاتها الجنسية المحترفة هي ما يضفي على العطر ذلك التهتك؟"
يبدو له الجسد الأسود في تلك اللحظات مثيراً لسبب ما، ولكن فكرة أخرى لمعت في رأسه بينما كان يقترب من ذروة العملية الآثمة...فكّر في ماشا – ماريا إبنة ناتاليا زوجته..”ترى هل سيكون جسدها بنفس درجة سواد جسد هذه العاهرة...؟" عدل عن الفكرة وطردها من مخيلته فوراً، وتذكر أن ماشا لونها أقرب إلى اللون القمحي لا الأسود...

بانتهاء التجربة الأليمة، ارتدى يوري ملابسه في عجالة شديدة، وخرج مندفعاً إلى فجر حي المعادي الهادئ، فلفحته نسمة صحراوية باردة، زادت من شعوره بالذنب...كم هو آثم هذا الصباح... كم هي قذرة هذه التجربة...ما الذي يفعله هنا والآن في تلك الصحراء الجرداء..كيف فقد نفسه لتلك الدرجة...ترى كم يبتعد عن فكرة الانتحار؟ هل تختلف الحالة النفسية للمنتحر عن حالته في تلك اللحظات؟.. لحظات قصيرة بدت له ككل ما مضى من عمره..

استقل تاكسي إلى منزله في الدقي، وهناك كانت ناتاليا ترقد على أريكة الصالة في انتظاره حينما دخل، انتفضت وسألته عمّا إذا كان على ما يرام...

..نعم كل شيء على ما يرام...نذهب غداً إلى القنصلية لإتمام إجراءات مولودنا"

اعترف يوري بطفلة صالح الشيمي، وأصبح ليوري طفلان: نيكولاى يورييڤيتش ڤاينر، وماريا يورييڤنا ڤاينر (في اللغة الروسية يكتسب إسم الذكر مقطع "ڤيتش" في نهاية إسم الوالد، والأنثى مقطع "وڤنا" أو "يڤنا")، ومرة أخرى ظن أبطال قصتنا أن الحياة سوف تمضى مستقرة بعد ذلك التصرف النبيل من جانب يوري، ولكن شيئاً ما أصبح ينغّص حياة يوري، وهو أن ما أقدم عليه في ذلك الصباح كان تحت تأثير الشعور بالذنب لمضاجعته العاهرة "مونيكا"، وأنه في قرارة نفسه لم يكن مقتنعاً تمام الاقتناع بما فعله... بل إنه كان يرى في ركن من أركان ابتسامة ماشا البريئة نظرة ساخرة متهكمة..كان صالح الشيمي عازف الفاجوت يتجسد له وكأنه يعيش وسوف يعيش معهم تحت سقف واحد إلى الأبد..أليس ذلك جحيماً؟؟

على الجانب الآخر في الأوركسترا الوطني السيمفوني فقد انتشرت الأخبار انتشار النار في الهشيمي (واسمح لي عزيزي القارئ من الآن فصاعداً أن أغيّر إسم الأوركسترا إلى الأوركسترا الوطني السيمفوني، بعد أن تشابكت وتعقدت أحداث وشخصيات قصتنا، وابتعدت عن جميع التفاصيل والشخصيات والأحداث التي حدثت بالفعل على أرض الواقع في أوركسترا القاهرة السيمفوني) وبمرور شهر واحد أصبحت قصة الثلاثي ناتاليا-صالح-يوري على لسان جميع أعضاء الأوركسترا، تتندر بها الأغلبية، وتُعجب فيها بعض النساء بقدرة ناتاليا على الاحتفاظ بالرجل والطفل والاستمتاع بعلاقة عابرة بشكل رسمي دون خسائر تذكر، ولم يتعاطف مع يوري سوى قلة نادرة تعدّ على أصابع اليد الواحدة.

انصب اهتمام ناتاليا على طفلتها الجديدة الجميلة، التي كانت بالفعل آية في الجمال، وكان من حسن حظ ناتاليا أن صالح ارتبط في ذلك الوقت بفنانة تشكيلية مصرية، تعرف عليها في رأس السنة، واعتزما الزواج بعد انتهاء الموسم، ولم يكن صالح قد أخبر أو يعتزم إخبار زوجته المستقبلية بتاريخه العاطفي، لذلك أصبحت ماشا من نصيب ناتاليا وحدها دون مشاركة من أحد، وأخذت ماشا الجميلة تتفتح كزهرة يوماً بعد يوم، فتملأ ناتاليا سعادة لم تعرفها من قبل..من ناحية أخرى فقد واظب يوري على لقاء روما، وأصدقاء آخرين، وتعددت زياراته الأسبوعية (وأحياناً اليومية) لسيريوچا تيرينكوڤ بائع التيرينكوڤكا.

في صيف ذلك الموسم لم يتمكن الزوجان يوري وناتاليا من اصطحاب ابنهما نيكولاي إلى القاهرة للمرة الثالثة، ولكن ذلك لم يعد يؤثر على نيكولاي الذي تعوّد على أحضان جدته، ونسي تماماً حنان أمه ناتاليا ورعاية أبيه يوري، الذي عاد إلى القاهرة في الموسم الثالث ليتابع شرابه، ويتعرف على أصدقاء جدد، ويصبح من أشهر الزبائن عند تيرينكوڤ بفضل مونولوج شهير كان يؤديه بعفوية وصدق، حينما يصل إلى درجة معينة من السكر، يتحدث في مونولوجه عن دانيتسك الجميلة، ورحلة القطار الأولى، ونسيم الليل الدافئ الرطب المقبض في ليل القاهرة، ورائحة عرق المصريين القردة (هكذا كان يسمي المصريين بعد النخب السابع)، ثم ينتهي المونولوج بمقولته الأشهر على الإطلاق، والتي تبدو وكأنها منحوتة من رواية قديمة لتشيخوڤ:

وها أنا الآن أمثل أمامكم أيها الرفاق الطيبون، خادمكم المطيع يوري أڤراموڤيتش ڤاينر، إبن جراح المخ والأعصاب الشهير في مدينة دانيتسك، أڤرام صامويلوڤيتش ڤاينر، سليل أشهر العائلات اليهودية في دانيتسك وأوكرانيا بأسرها، ها أنا أمامكم يا سادة، أعزف الڤيولينة في أوركسترا قروي بليد في أفريقيا، وأهدتني زوجتي في العام الماضي طفلة عربية سمراء، تحمل إسماً مسيحياً "ماريا"، وإسم عائلة يهودية "ڤاينر" وجنسية أوكرانية..أليست تلك هي العولمة يا أصدقاء؟ ماريا يورييڤنا ڤاينر السمراء– أوكرانية الجنسية!!! ماريا يورييڤنا ڤاينر - رمز العولمة المتجسد، ودليل الصداقة بين العرب واليهود... ألا فلتذهبي إلى الجحيم يا ناتاشا!” ثم ينخرط في بكاء حار.

أعذرني عزيزي القارئ، فنظراً لتلاحق الأحداث المحيطة بأبطالنا نسيت إخبارك أنه في الموسم السابق وفي نفس وقت مولد ماشا، أنجبت ڤيرونيكا ڤوروبيوڤا عازفة الڤيولا وزوجة القائد الأساسي أحمد الأبونيه ولداً أصر الأبونيه على تسميته "ياسين"، ودرات بين الزوجين معارك كادت تفتك بزواجهما، ثم اتفقا في النهاية على منحه إسم ياسين بالعربية، وإسم "ياشا" (تدليل ياكوڤ) بالروسية...

أما ڤيرونيكا ڤوروبيوڤا فتستحق أن نتوقف عند قصتها التي ارتبطت وترتبط وسوف ترتبط بمصير الأوركسترا الوطني السيمفوني.
-٧-
هل كانت تحبه؟ هل كانت ڤيرونيكا ڤوروبيوفا تحب أحمد الأبونيه؟ لقد ظن الجميع أن حباً كهذا يستحيل أن يوجد، فالفارق بينهما في السن يربو على العشرين عاماً، وأهدافها من علاقة كهذه بدت لجميع أعضاء الأوركسترا واضحة وضوح الشمس، فهي تبحث عن المال، والسلطة، وربما حرية الحركة من خلال جواز سفر ألماني (كان أحمد الأبونيه يجمع بين الجنسيتين المصرية والألمانية كما أسلفنا)...لم يتوقع أحد أن تبحث ڤيرونيكا ڤوروبيوفا في أحمد الأبونيه عن الأسرة أو الأطفال أو الحب المنزه عن المصلحة...ولكن عجينة الحياة عزيزي القارئ شأنها شأن عجينة الإنسان نفسه تضع كل المكونات في طبخة واحدة فلا يستطيع المرء أن يتبين ما الطعم الذي يطغى، وما نسبته الحقيقية في العجينة..

بالفعل كانت علاقة فيرونيكا بالقائد الأساسي للأوركسترا الوطني السيمفوني علاقة مركبة ومعقدة، قد اتفق مع البعض بأن بداياتها قد تحمل بعض النفعية، وقدر من الاستغلال البرئ (ومن منّا لا يستغل الظروف!)، إلا أنه مع مرور الوقت، وإذا ما نظرنا إلى مكان متقدم زمنياً في حكايتنا، لوجدنا أنها أحبته وتحبه وسوف تحبه حباً حقيقياً جارفاً لا تشوبه المصلحة أو الحسابات..

لم تكن تدرك ڤيرونيكا ذلك في البداية، وتصورت في لحظة أنها تستغله لتحقيق مصالحها، ومصالح أصدقائها وزملائها من موسيقيي ساراتوف، حتى أنها أحياناً ما صارحت صديقة عمرها لاريسا عازفة التشيللو ذات يوم، أنها تكره القاهرة، وتكره الأوركسترا، وتكرهه هو شخصياً، ولكن مصير عدد من الأشخاص أصبح مرتبط بوجودها، ومستقبل عدد من الأسر أصبح مرهوناً بعلاقتهما، لذلك فعليها أن تتحمله، وتتحمل الأوركسترا والبلد.

كان ذلك هو الخطأ بعينه عزيزي القارئ، لم تكن مصائر العازفين مرتبطة بعلاقة ڤيرونيكا ڤوروبيوفا بالمايسترو أحمد الأبونيه على الإطلاق، كانت هي وحدها من تظن ذلك، ويعود ذلك لعدم فهمها الكامل لطبيعة المايسترو، الذي كان يفصل في عمله بين الشخصي والعام إلى حد كبير، حتى أنه رفض ثلاثة موسيقيين كانت قد دعتهم ڤيرونيكا لاستماع في القاهرة، لعدم اقتناعه بمستواهم، حتى مع تهديدها له بتركه...كان تربية أحمد الأبونيه المهنية الألمانية مؤسسية إلى حد بعيد، وكان غاية ما يطمح إليه، وما قطع فيه شوطاً بعيداً، أن يرقى الأوركسترا الوطني السيمفوني ليصبح أوركسترا عالمي بالمعايير الدولية، لذلك كان اتجاهه للإستعانة بالأجانب. كانت علاقته بفيرونيكا مهمة، ومصيرية، ولكن عشقه الأصيل كان للموسيقى، التي لم تبادله العشق بنفس القدر...كان هناك العديد من المشاكل المهنية التي صادفته في طفولته، وعالجها أساتذته على نحو خاطئ، الأمر الذي أدى لتشنجات في العضلات، وسقف في مهارات القيادة لم يرتفع عنه، مهما وصلت معارفه (وقد وصلت بالفعل) لسماوات العلوم الموسيقية التي لم يسبر أغوارها أحد قبله.
  
كان أحمد الأبونيه صارماً، ملتزماً، قوي الشكيمة، ولم يكن يتنازل عن أفكاره، أو عن رؤيته مهما بلغت المغريات، لكنه في الوقت نفسه كان يحب فيرونيكا حباً شديداً، وحينما حملت في طفله الأول، كان سنه قد جاوز الخمسين، وكان ممتناً لها وللظروف التي أهدته طيفاً جديداً من السعادة لم يكن يعرف عنه شيئاً، استغرق في حبها وحب طفلهما، وهنا بدأت مرحلة جديدة في حياة الأوركسترا تربعت فيها فيرونيكا على عرش القيادة من وراء ستار، بداية قام أحمد الأبونيه برفع مرتب قادة المجموعات حتى يرتفع بطبيعة الحال مرتب فيرونيكا التي نقلها من مكانها كمساعد قائد مجموعة الفيولا لقائد مجموعة الفيولا، بدون لجنة استماع، واستناداً إلى رؤيته الفنية الذاتية، متخطياً بذلك عازف مصري، اعترض باستقالة مسببة، فما كان من أحمد الأبونيه إلا أن قبل استقالته، واستقدم أحد زملاء فيرونيكا من ساراتوف. اشتم اعضاء الأوركسترا رائحة المحسوبية التي لم يتعودوا عليها من الكمسري الألماني كما كانوا يسمونه، ولم يكن ذلك فحسب، بل إن قوانين أخلاقية غير مكتوبة بدأت في الظهور، وضعتها فيرونيكا والشلة المحيطة بها، وهذا ما يمس حكايتنا بشكل مباشر.

أصبح هناك الخير والشر، الاستقامة والضلال، العائلات والملتزمون والعاهرات والمدمنون، وأصبح ذلك التصنيف واضحاً محدداً، تحدده دائرة حميمة حول فيرونيكا، تنقل إليها ما تيسر من الشائعات، ويمحصون، ويفحصون في ضمائر الناس، ويتوصلون جميعاً إلى استنتاجات بشأن الانضمام أو الاستبعاد من نادي الصالحين الذي كانت ترأسه فيرونيكا شخصياً، ثم أصبح يباركه شخصياً أحمد الأبونيه، بعدما بدأت بعض الظواهر السلبية لعدد من التصرفات الشخصية للعازفين في التأثير على سير العمل.

لم يكن أبطالنا يوري وناتاليا ورومان وسيرجيي تيرينكوف بطبيعة الحال من المنتمين للجانب الطيب من الأوركسترا، فالأخير يصنع الخمر الذي يحتسيه معظم الرجال الروس في الأوركسترا، مما يؤثر بالسلب على عائلاتهم، وعلى صحتهم بل وعلى قدرتهم على الإنجاب (كما صرحت فيرونيكا في أحد لقاءاتها مع دائرتها الحميمة)، وروما الذي تعطفت فيرونيكا عليه وعلى عائلته بانتشاله من مستنقع السيرك في ساراتوف، لم يتطور على المستوى الإنساني قدر أنملة، واستمر في ممارسة نفس حياته الماجنة، التي كان يمارسها قبل قدومه إلى القاهرة، أما يوري الأوكراني فليس سوى سكير عديم المروءة، اعترف بطفل امرأته العاهرة ناتاليا من المصري المستهتر...ياللفضيحة!

كانت الأحكام قاطعة جامعة مانعة، ولم تكن تقف عند حدود النميمة والإشاعات واللغو السفيه، ولكنها كانت تتخطاه ليترجمها القائد الأساسي في نظرات، وفي مواقف، بل وأحياناً في قرارات بالمنح والمنع والإقصاء، ليبدأ الأوركسترا السيمفوني الوطني في التحول إلى عزبة يملكها الأبونيه وزوجته فوروبيوفا، وليرثها بعدهما القائد وراء القائد، والمدير تلو المدير، ولكن ذلك لا يزال في المستقبل غير المنظور.

نعود لناتاليا، التي تدهور مستواها بعض الشئ، ولاحظ ذلك رائد الأوركسترا جدينيك شيستاك عازف الفيولينة التشيكي فدعاها لكافيتيريا الأوبرا للحديث

-٨-

لم تكن نظرة جدينيك لناتاليا نظرة مهنية على الإطلاق، ولم تكن دعوته لها مهنية هي الأخرى، كانت ناتاليا تشعر بذلك، ولكنها كانت تتجاهله، دعاها جدينيك للحديث بشأن سيمفونية شوستاكوفيتش الرابعة، حينما لم تتمكن ناتاليا من عزف الفوجا من الحركة الأولى (ولم تكن وحدها في ذلك)، لكنها كانت فرصة ممتازة، يمكن أن تتكرر في المستقبل على المستوى المهني..ومن يعلم؟! قد تسفر تلك اللقاءات عن لقاءات أخرى "غير مهنية". لم تستطع ناتاليا أن تعيره اهتماماً لأن كل ما كانت تفكر فيه، الانتهاء سريعاً حتى تعود لماشا التي تركتها في رعاية المربية الروسية. بانتهاء اللقاء،  عرض جدينيك أن يوصلها بسيارته، فوافقت من فرط عجلتها، وفي السيارة صارحها جدينيك بكل مشاعره تجاهها...

كان جدينيك من نوع الرجال ذوي الإصرار الاستثنائي، فهو يحقق هدفه دائماً، ويحصل دائماً على ما يريد، ولديه قدرة هائلة على الصبر والمثابرة في سبيل ذلك، كان يحب ناتاليا من طرف واحد منذ اللحظة التي دخلت فيها الاستماع في دانيتسك، وقرر وقتها أنه سيمارس كل الضغوط لإقناع القائد بالتعاقد معها مهما كان مستواها، لكن المشكلة لم تكن في ناتاليا، فمستواها كان يؤهلها بكل تأكيد للعمل في الأوركسترا، ولكن ارتباطها بزوجها الذي يجب التعاقد معه أيضاً، كانت المشكلة التي واجهته، ولكنه تمكن من إقناع القائد بوضع يوري في الصفوف الخلفية للفيولينة الثانية في سبيل التعاقد مع ناتاليا في الصفوف الأولى للفيولينة الأولى، لما يمثله مستواها من إضافة للأوركسترا، وذلك كان يعني بطبيعة الحال قربها منه، والتعامل معها بشكل مباشر طوال الوقت. لم يكن القائد الأساسي مقتنعاً تمام الاقتناع، ولكنه امتثل لرأي جدينيك الفني الذي نعلم نحن الآن أنه لم يكن فنياً فحسب.

الآن أصبحت ناتاليا موضع اهتمام جديد، في نفس الوقت الذي يتهاوى فيه زوجها يوري، في هاوية السكر والعربدة مما اضطر إدارة الأوركسترا الوطني السيمفوني إلى الاستغناء عن خدماته، ليلتحق بالعمل في أوركسترا آخر (أوركسترا الأوبرا الوطنية) في نفس دار الأوبرا، مما كان يعني اختلافاً في المواعيد، ولقاءات أقل سواء في البيت أو في العمل.

ومضى الموسم كغيره نحو نهايته...

كانت أهم أحداث هذا الموسم اختفاء رومان سافيتسكي في ظروف غامضة، حيث تعرّف في بار أفريكانا على بعض السياح الروس من رجال الأعمال، الذين أقنعوه بالسفر لمدة يومين لتسجيل سيارة فاخرة باهظة الثمن، يجب أن يسجّلها مواطن روسي يعمل في الخارج، واتفقوا معه أن يحصل في مقابل ذلك على ألف دولار، ففكر رومان في كم زجاجات الخمر التي يمكنه أن يشتريها، وعدد زيارات بار أفريكانا ليوافق على الفور. بوصول رومان إلى موسكو، تحفظت عليه السلطات، لتهربه من الخدمة العسكرية، وهو أمر فات على روما تماماً في غمرة حساباته وتفكيره في الخمر ونساء أفريكانا. بقيت زوجته وابنته الصغيرة في القاهرة تواجهان مصيرهما المجهول. تأثر يوري لمصير رومان، فقد اقترب منه كثيراً في الفترة الأخيرة، وكان نديمه المفضل، تأثر يوري كذلك بمصير إبنة رومان وزوجته، اللتان أصبحتا في مهب الريح. رفضت الزوجة العودة إلى روسيا تحت أي ظرف من الظروف، وفضلت البقاء في القاهرة، دون أن يكون لها مصدر معلوم للرزق. كانت إقامتها تنتهي بداية الموسم الجديد، فرأت أن تجرب فرصها حتى بداية الموسم.

في الموسم الجديد كان هناك عدد من الأحداث الهامة: تزوج صالح الشيمي عازف الفاجوت من نها السباعي الفنانة التشكيلية التي اشتهرت فيما بعد، انفصل يوري وناتاشا في ذلك الصيف وانتقل يوري للحياة بمفرده في شقة، ثم التحقت به زوجة رومان وابنته، اللتان لم يكن لديهما مأوى بعد رحيله، وبعد انتهاء عقدهما مع صاحب الشقة، واتفقا على أن تدفع سفيتلانا نصف الإيجار بمجرد حصولها على عمل. كما استمر جدينيك شيستاك في ملاحقة ناتاليا، حتى تمكن بعد عدة أشهر، وباقتراب نهاية العام ونهاية القرن، من أن يحظى بموافقتها على قضاء رأس السنة سوياً، وجاء العام الأول في القرن الجديد الواحد والعشرين عاماً مليئاً بالأحداث، فانتقلت ناتاليا للحياة مع جدينيك، الذي استقبلها وابنتها بكل حب وحفاوة، ولم يلبثا أن تزوجا رسمياً في القنصلية التشيكية، ومع أن اتفاق يوري وسفيتلانا (زوجة رومان) كان يقتضي أن يعيشا حياة الأصدقاء بعيداً عن أي احتكاك عاطفي، إلا أن وقوف يوري بجانب سفيتلانا، وإحساسه باعتمادها الكامل عليه، جعله يقلع تماماً عن الشرب، ويبحث عن حفلات وأعمال جانبية، فأصبح يعزف في الكثير من فرق الجاز، والأفراح، وتحسنت حالته المادية بشكل ملحوظ، وأحس أن السبب في ذلك كله كان سفيتلانا، وببداية العام الجديد كانت سفيتلانا تقضي الليل معه، وبقية اليوم مع ابنتها. وبانتهاء ذلك الموسم الغني حصلت سفيتلانا على الطلاق من رومان، وتزوجت يوري.

أما فيرونيكا فوروبيوفا، فتنوعت أخبارها، حيث علمت بحملها في نهاية الموسم في نفس الوقت الذي كان زوجها القائد الأساسي يخوض معركة خاسرة في الأوبرا بعد شنه حملة شعواء على وزير الثقافة الذي نحاه جانباً عن حفل الألفية الجديدة لكي يدعو أحد أصدقائه ممن سيتمكن من خلالهم من "التربح" (كانت تلك هي اللفظة التي استخدمها أحمد الأبونيه في حملته الإعلامية الشعواء، وبلاغاته المستمرة لجهات التحقيق، وللنائب العام)، كان أحمد الأبونيه عنيفاً في هجومه، لا يترك لنفسه خط رجعة على الإطلاق، وبنهاية الموسم كانت النتيجة الاستغناء عن خدماته، في الوقت الذي لم يصبح الأوركسترا ميالاً لإدارته، أو لقيادته بعد ملأه هو نفسه بالأجانب من بلديات فيرونيكا واستغنى عن الكثير من المصريين (وللحق، ففي كثير من الأحيان كان لتصرفه وجاهة حتى يصبح الالتحاق بالأوركسترا أمراً صعباً بعيد المنال، فلا يقترب منه سوى أعلى المستويات، مما يرفع سقف المنافسة، ويرفع من مستوى العازفين المصريين، وقد كان)، وأثار حفيظة العازفين المصريين تحكم فيرونيكا وأصدقائها في من يصلح أو لا يصلح، وفي ترتيب العازفين، وفي منح الحفلات، وغيرها من الأمور، وإن لم يعترض المصريون صراحة، فقد خاضوا أحاديث جانبية، وأنين سلبي، وتوعدوا، وثاروا في القاعات المغلقة، فإذا ما جاءت الفرصة للإعتراض جهاراً، والتغيير، سكنوا، وهدأوا، بل وتطوع بعضهم بمدح حكمة وحصافة القائد الأساسي وموهبة ومهنية زوجته الجميلة فيرونيكا، رحل الأبونيه عن الأوركسترا بأوامر عليا، ولم يتضايق أحد بفقدانه، حيث خلفه قائد برازيلي ذو كاريزما أثرت على الجميع، حتى لم يلتفت أحد لقرار هامشي بتعيين عازف الكلارينيت عبد الرحمن مطر مديراً إدارياً للأوركسترا، لم يكن أحد يلتفت لعبد الرحمن، وكان مجرد عازف كفؤ ذو علاقات واتصالات تحوم حولها التساؤلات، إن لم يكن الشبهات.

أما أبطال قصتنا من ساراتوف ودانيتسك فقد ظلوا يعملون في الأوركسترا، بعد أن أصبحوا زملاء وأصدقاء.

-٩-
وفي بداية الموسم التالي ٢٠٠١-٢٠٠٢ تغير العالم بأكمله، فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، اكتشف العالم (ونحن معه) وجهاً جديداً قبيحاً للإنسانية، وفي قسمات وجوه المنكوبين بين أطلال مركز التجارة العالمي (رمز الرأسمالية القبيحة أصلاً) رأى العالم ذهولاً يعكس حجم الجهل الأمريكي، والجهل العالمي بما يحدث في كهوف ومغارات وأقبية العالم الثالث. لقد صنف جورج بوش العالم وقتها إلى من هم "معنا"، ومن هم "ضدنا"...كذلك بدأ الوضع في القاهرة في التغير هو الآخر، ففي شتاء ذلك العام وقعت حادثة لناتاليا، وكانت وقتها تدفع أمامها ماشا في عربتها الصغيرة، مرت بجانبها سيارة نصف نقل مسرعة، وخطفت شنطة يدها بسرعة البرق، وحينما صرخت وحاولت الاستغاثة، لم يلتف حولها سوى اثنين من المارة، لم يلبثوا أن انفضوا عنها بعد أن عجزوا عن الإمساك بالسيارة، أو رصد رقمها. أحست ناتاليا للمرة الأولى بالخطر، فإذا ما أضفت إلى ذلك أنه منذ عام واحد كان چدينيك قد ركب طبق لاستقبال بث الأقمار الصناعية، وكان كل ما تسمعه ناتاليا من التليفزيون الروسي، أو يسمعه چدينيك من التليفزيون التشيكي، فيما يخص العرب والمسلمين، لا يتضمن سوى خطر الوهابيين، والإرهاب الإسلامي، إلى آخر تلك الأوبرا الساذجة، التي تختصر المسلمين في الوهابيين، والإسلام في باكستان أو المملكة العربية السعودية على أفضل تقدير.كذلك بدأ الروس (ولديهم أقلية مسلمة معتبرة) يقسّمون المسلمين في داخلهم إلى معتدلين (مروضين)، ومارقين (وهابيين)، كل ذلك بالإضافة للحادثة التي وقعت لناتاليا جعلها تفكر للمرة الأولى في ترك مصر وروسيا إلى عالم آخر. صارحت جدينيك بذلك، ووافقها على كل حرف قالته، أخبرها عن سرّه الكبير الذي يخفيه عن الجميع، وهو أنه بصدد التقدم لاستماع في أوركسترا مرموق في أسبانيا، ويعتزم أخذها وابنتها معه.
لقد كان رد الفعل المصري مثيراً للقلق، فالكثير من المصريين أبدوا ارتياحاً كبيراً للعمل الإرهابي طالما كان الأمر يطال عدوهم التاريخي إسرائيل أو الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن أحداً لم يفكر في الموظف الاعتيادي في طريقه إلى عمله، وفي انتظاره عائلته المكونة من زوجة وطفلين، لم يفكر أحد في ذلك الموظف المسكين الذي لم يهتم، ولن يهتم يوماً بالسياسة، قد لا يعرف أين تقع أفغانستان، و لا يعرف قطعاً دور الإدارة الأمريكية في الإطاحة بالحكومة الماركسية اللينينية في حرب التسع سنوات في مجاهل الجبال الأفغانية مع الجيش السوڤييتي.
كان الروسي الوحيد المؤيد لما حدث هو سيرجيي تيرينكوڤ، الذي كان أكبر سناً من الجميع، ويتذكر تفاصيل الحرب الأفغانية، ودور المخابرات الأمريكية فيها، لم تكن الأخبار متاحة بشكل كبير في ذلك الوقت، ولكن مع ظهور سياسة الجلاسنوست (المصارحة)، والبيريسترويكا (إعادة البناء) التي تبناها ميخائيل جورباتشوڤ عام ١٩٨٧، ظهرت العديد من التحليلات، والمستندات التي أتاحت له أن يعرف حقيقة ما حدث، وأودى بحياة أحد أصدقاء عمره في تلك الحرب. كان سيرجيي يرى أن أمريكا تتجرع من نفس الكأس الذي سقته يوماً للإتحاد السوڤييتي، ها هم المجاهدين والمرتزقة الذين استعانت بهم للإطاحة بحزب الشعب الديمقراطي الأفغاني، يمارسون ذات القذارات في عمق الأراضي الأمريكية. كان جميع الروس يعتقدون بجنون تيرينكوڤ، وقال بعضهم أن الخمر أطارت بعقله، وقال الآخرون أن نوستالچيا الشيوعية أطاحت بوعيه، فهو لا يأبه بالشق الإنساني للقضية، مفضلاً التلذذ بالانتقام من الأمريكان.
بصرف النظر عن الزاوية التي ترى منها العالم، فلا شك أن عالماً جديداً بدأ في التأسس في تلك السنة، على أنقاض مركز التجارة العالمي، إنه القرن الجديد يبدأ بقيادة أمريكية وحيدة تزعم، وسوف تزعم لفترة من الوقت أنها قادرة على حفظ النظام العالمي.
دفع الخوف الكثيرين للتفكير في الرحيل عن القاهرة، ولكن قلة من كانت لديهم تلك الفرصة، أولهما كان چدينيك شيستاك ومعه ناتاليا ڤاينر، وابنتها ماشا التي كان عمرها آنذاك ثلاث سنوات. رحلا في صيف عام ٢٠٠٢ إلى أسبانيا، واستقرا في مدريد، وكانت ناتاليا تأمل أن تتمكن من ضم إبنها نيكولاي إليهم في مدريد في المستقبل القريب.
موسم آخر عاشه يوري ڤاينر وسڤيتلانا ساڤيتسكايا وابنتها چوليا في القاهرة، كان أسوأ المواسم على الإطلاق.
فبعد تعيين الزميل عازف الكلارينيت عبد الرحمن مطر مديراً إدارياً للأوركسترا، بدأت مناوشات خفية بينه وبين القائد البرازيلي، تحولت مع الوقت إلى صراع حقيقي على السلطة، وحتى نفهم مسألة السلطة في الأوركسترا السيمفوني، استميحك عذراً عزيزي القارئ لبضعة صفحات أشرح لك فيهم نظام العمل في الأوركسترا السيمفوني:

يتكون الأوركسترا السيمفوني من ما يقرب من مئة عازف (بينهم في ذلك الوقت ما يقرب من ٤٠ أجنبي)، يعملون جميعاً بعقود سنوية مع دار الأوبرا التي يتبع لها الأوركسترا، والأوركسترا السيمفوني هو ثاني أرقى المؤسسات الفنية من حيث الإدارة والتنسيق بعد إدارة الأوبرا والباليه، اللذان يتطلبان تنسيقاً مع الراقصين والمغنيين إلى جانب التنسيق مع الأوركسترا، وأعني هنا بالرقي تعقيد التنظيم الذي يستحيل أن يكون إدارياً أو فنياً صرفاً، فلابد أن يتضافر الفني مع الإداري مع المالي حتى يؤدي الأوركسترا مهمته على أكمل وجه.

كان من الميزات الهامة جداً للمايسترو أحمد الأبونيه، أنه قد وضع نظاماً صارماً يعمل من خلاله الأوركسترا، وبرنامج حفلات سنوي يتم تنفيذه بالحرف، وبرنامج بروڤات لا يمكن تحت أي ظرف من الظروف تغييره (اللهم إلا إذا كانت هناك كارثة)، فكان الأوركسترا يعمل خمسة أيام أسبوعياً بدءاً من الثلاثاء، بواقع بروڤة واحدة يومياً، وبروڤتين صباحاً ومساءً يوم الخميس، ثم البروڤة الچنرال (النهائية) فالحفل مساء السبت. وكان العازفون ممن يتم التعاقد معهم (السوليستات) يشاركون البروڤة المسائية يوم الخميس، ثم الجمعة، والسبت. ويقوم القائد الأساسي باختيار القادة الزائرين الذين يشاركونه أكثر من نصف البرنامج السنوي كي تتعاقد معهم دار الأوبرا.

ولما كان القائد الأساسي هو المسئول فنياً عن القادة والسوليستات ممن تتم دعوتهم، فلك أن تتخيل أن القائد كان يتحكم في ميزانية تبلغ عشرات الآلاف، يمنحها لمن يعتقد وفقاً لضميره الفني أنه يصلح، ومع أحمد الأبونيه، كان الوضع صارماً كما ذكرنا، إلا أنه لم يخل من قائد أو سوليست تتم دعوته انتظاراً لدعوة مماثلة في بلد ما، كذلك لم يخل من محاباة لأحد الأصدقاء أو المعارف القدامى أو التغاضي عن المستوى الفني بغرض مصلحة سياسية. ولكن ذلك لم يؤثر على المستوى الفني بشكل كبير.

حينما رحل الأبونيه، وحل محله البرازيلي، الذي أراد هو الآخر أن يمارس جميع اختصاصات موقعه، ويمنح ،يمنع، وينسق مع القادة والسوليستات كسابقه، اصطدم بالأستاذ عبد الرحمن مطر، الذي كان لديه هو الآخر أچندته، وليس ذلك فحسب، فقد كان الأستاذ عبد الرحمن مطر فيما عرفنا لاحقاً يرتبط برابطة قرابة باللواء محمود الليثي الذي تم تعيينه من رئاسة الجمهورية (شخصياً) كي يرأس دار الأوبرا. كذلك فإن رابطة القرابة تلك قد ساعدت في رفع مرتبات العازفين مما أثر بالإيجاب على شعبية الأستاذ عبد الرحمن، وجعل من السهل عليه أن يتخلص من البرازيلي بمساعدة قريبه مدير الأوبرا.

كانت آلية التخلص هي ما أثر على ما تبقى من الوجه الراقي للإدارة المصرية أمام الروس والأجانب بصفة عامة، فبعد رحلة أوروبية ناجحة للأوركسترا، ساعد المايسترو البرازيلي على إخراجها على النحو الأمثل، وبعد أن عاش الأوركسترا، ومن بينهم الأستاذ عبد الرحمن نفسه مع القائد لمدة عشرة أيام ما بين أتوبيسات وقطارات وطائرات وفنادق ومسارح، وبعدما تصور الجميع أن الأوركسترا ليس سوى عائلة كبيرة تذوب فيها الفوارق بين الثقافات، عاد القائد البرازيلي إلى القاهرة، ليجد خطاباً على مكتبه، بالاستغناء عن خدماته..في واقع الأمر تبادل الأستاذ عبد الرحمن مطر، ومدير الأوبرا العزائم فيمن يستطيع أن يخبر القائد بإنهاء عقده، وحينما امتنع الأستاذ عبد الرحمن نهائياً لأنه عاد لتوه من الرحلة الأوروبية مع القائد، ويبدو الأمر غير لائق (ويبدو أنه كان لائقاً فيما قبل!)، واعتذر مدير الأوبرا لأن ذلك ليس من تخصصه في شئ.
هكذا، وبمنتهى البساطة، والخسة انتهى عقد القائد البرازيلي، وفي حفلته الأخيرة لم يخرج لتحية الجمهور أو الأوركسترا، وخرج من الباب الخلفي للأوبرا بسرعة دون أن يغير ملابس الحفل، ولم يدخل دار الأوبرا بعد ذلك مطلقاً.

كانت تلك بداية لمرحلة جديدة للأوركسترا، ومرحلة جديدة لحكايتنا.

-١٠-

يوم الأربعاء الأول من سبتمبر ٢٠٠٤ استعد نيكولاي ڤاينر كعادة جميع الطلبة في أوكرانيا وروسيا لـ"الجرس الأول"، وهو احتفال اليوم الأول من الدراسة، حيث يلبس التلاميذ ملابسهم الجديدة، وتربط الفتيات الفيونكات الحمراء المميزة للتلميذات، ويحمل الجميع الزهور للمعلمين، ويصحبهم في ذلك اليوم أولياء الأمور ويقضون بعض الوقت معهم، وينتهي اليوم مبكراً. من حسن الحظ هذا العام أن بداية الدراسة يوم أربعاء، مما يعني أن الأيام الثلاثة الأولى سوف تكون للإحتفال، وستبدأ الدراسة الفعلية يوم الإثنين. سيدخل نيكولاي اليوم الصف السابع، وقد بلغ الثانية عشرة من عمره، عادة ما تتصل به أمه صباح اليوم الأول من الدراسة من أسبانيا (حيث استقرت مع زوجها الجديد چدينيك، وابنتها الجديدة ماشا)، كما انتظر نيكولاي أيضاً أن يتصل به أبوه من المكسيك (حيث التحق بالعمل هناك منذ الموسم السابق، واستقر مع زوجته الجديدة سڤيتلانا وابنتها چوليا)، تقول جدته يڤداكيما أسافييڤنا أن أبوه سيصطحبه للحياة في المكسيك، وأنها دولة دافئة معظم أوقات العام. عموماً لم يتصل بنيكولاي هذا الصباح أي من أبويه، ولكنهم حتماً سيتصلون في المساء...لا لشئ إلا لشعورهم للمرة الأولى في أماكنهم التي استقرا فيها أنهم فقدا شيئاً غالياً عليهم، وأنهما يودان العودة صباح الغد كي يحتضنا ابنهم ولا يتركانه أبداً مهما حدث...

لا تخف عزيزي القارئ، فنيكولاي لايزال بخير، ولن يحدث له اليوم أي شئ، ولكن شيئاً ما حدث ذلك الصباح في القوقاز غير بعيد عن روسيا وأوكرانيا (كانت تلك دولة واحدة منذ بضع سنوات، ولا زالت تحتفظ بنفس المفردات الثقافية، التي يدخل ضمنها احتفال الأول من سبتمبر”الجرس الأول”)، أقول أن شيئاً ما حدث ذلك الصباح غيّر وسوف يغيّر الوعي البشري، وسوف يترك جرحاً عميقاً غائراً لا يقل عمقاً عن أحداث سبتمبر٢٠٠١.

في ذلك اليوم في مدينة بيسلان في جمهورية أوسيتيا الشمالية (ذات الحكم الذاتي والتي تقع ضمن جمهورية روسيا الاتحادية)، وبينما تعج مدرسة بيسلان بالتلاميذ وأقربائهم، ويمتلئ الجو بالضحكات والأناشيد والطوابير والفيونكات الحمراء، في التاسعة صباحاً هاجم المدرسة فيلق "رياض الصالحين" المكون من المسلمين الإنجوش والشيشان بقيادة "العميد" (رسلان خوتشباروڤ) و"عبدالله" (ڤلاديمير خودوڤ)، واللذان يأتيان تحت إمرة الانفصالي أصلان مسخادوڤ، المجاهد في سبيل الله، وفي سبيل الخلافة الإسلامية في القوقاز!
احتجز فيلق "رياض الصالحين" من المجاهدين في سبيل الله جميع الموجودين في المدرسة، وكان حجم الرهائن مهولاً نظراً لوجود أولياء الأمور إلى جانب جميع العاملين في المدرسة (١١٢٨ رهينة). وبعد التعليمات الواضحة من جانب المجاهدين بعدم الحديث بأي لغة سوى الروسية، وبينما كان أحد المعلمين يشرح للتلاميذ والأهالي ما كان يقوله المجاهد، سأله" هل إنتهيت؟ " وصوب المسدس نحو رأسه وأرداه قتيلاً في لحظة. توالت أحداث العنف بعد ذلك من اختيار تلاميذ الصفوف الأكبر والآباء والعاملين من الأصحاء جسمانياً (١٥-٢٠ رهينة)، وتجميعهم في ممر وتفجيرهم بأحزمة ناسفة. ثم ألقيت الجثث من النوافذ.

في مساء ذلك اليوم، وبعدما طارت الأنباء لجميع أركان الكرة الأرضية، اتصل بنيكولاي كل من والديه، وانهارت ناتاليا أمام التليفزيون، وأحس يوري بعجزه الشديد، وتخيل للحظة أن نيكولاي مع الرهائن، وأحس بضعف وقهر شديدين، وانفجر في البكاء، وشاركته سڤيتلانا، التي كانت مرحبة للغاية بمجئ نيكولاي للمعيشة معهما في ميكسيكو سيتي.
استمر حصار المدرسة ثلاثة أيام وكانت رسالة مجاهدي "فيلق الصالحين"لقوات الأمن المحاصرة:

إذا قتلتم منا واحد فقط، سوف نقتل ٥٠ من الرهائن، وإذا جرحتم أي منا سوف نقتل ٢٠ من الرهائن، وإذا قتلتم منا خمسة سوف ننسف المكان عن بكرة أبيه، وإذا قطعتم التيار الكهربائي لدقيقة واحدة سوف نقتل ١٠ رهائن
تطوعت ٧٠٠ شخصية عامة روسية بأن يطلق المجاهدون الأطفال مقابل احتجازهم، ولكن المجاهدين لم يوافقوا و كان كل ما سمح به "فيلق الصالحين" هو سيارتي إسعاف لتحمل العشرين جثة الملقاة في فناء المدرسة.

اقتحمت القوات الروسية الغاشمة المكونة من المسيحيين ومعهم ربما بعض الملاحدة، وقتلت الجميع، بمن فيهم الفيلق، وبعض الرهائن والأطفال، وانتهت المعركة وبدأت الجنازات في اليوم الرابع من شهر سبتمبر، وفقد ما يربو على المائة، ومات آخرون في المستشفى الوحيد في بيسلان الغير مجهز لاستقبال هذا النوع من الحالات، وبلغ عدد القتلى ٣٣٤، وعدد الجرحى ٨٠٠، وكان كل هذا عزيزي القارئ بإسم الرب!!!

لم تكن تلك يوميات أحد أيام القتال في الحرب العالمية الثانية، بين جيشين، بل كانت بين رجال (ونساء... كان هناك شهيدات ممن فقدن أزواجهن في الحرب على الشيشان، وقررن الانتقام بالشهادة) وبين أطفال عزل، لا ذنب لهم سوى أنهم أخطأوا بدخول العالم في ذلك التوقيت المجنون. وتخيل معي نفسية الشهيدة المدمرة التى تقف على أعتاب الموت، وتقتل أطفالاً انتقاماً من قاتلي زوجها وربما طفلها، أي عبث وأي جنون. وفي مكان ما في إتشكيريا، وفي الإمارات، وفي السعودية، وفي قطر، وفي مصر يعيش أباطرة الحرب، ويبعثون بالمال والأسلحة والعتاد حتى يستمر الوقود في الاشتعال، ويستمر القتل، ويستمر الحقد، ويستمر الظلم، وحتى لا تكف أنهار الدم عن الجريان.

إنها لحظات قبيحة قاتمة حقاً حينما تتحول حياة البشر إلى أرقام وإحصائيات عن عدد القتلى والجرحى، حينما تصبح الروح البشرية وقوداً لأفكار مجنونة تصور الإنسان أنه تركها ورائه في غياهب العصور الوسطى، من المحزن أن يفقد الإنسان قدسية الدم الإنساني، أي دم، وأي إنسان. كانت تلك المشاعر التي راودت يوري وهو يخلد إلى النوم بعد أربعة أيام من متابعة الأحداث عبر جميع وسائل الإعلام. بالطبع اتصل بناتاليا في أسبانيا، وتبادلا الشعور بالراحة لخروجهم في الوقت المناسب من ذلك المستنقع المسمى الشرق الأوسط.

أما نيكولاي فقد ذهب للمدرسة يوم الإثنين كما توقع في البداية، وبدأ العام الدراسي الجديد، بقليل من الحزن غير المفهوم بالنسبة له، ولكن والده وعده أنه سيدعوه وجدته لميكسيكو سيتي في شتاء هذا العام.

في القاهرة كان الأستاذ عبد الرحمن مطر عازف الكلارينيت استقدم أحد الشباب المغمورين الموهوبين من إيطاليا حتى يكون القائد الزائر الأساسي (هكذا كان الإسم الجديد للوظيفة، وفقاً للإختراع الجهنمي للأستاذ عبد الرحمن بمساعدة قريبه سيادة اللواء مدير الأوبرا)...كان نصف البرنامج ملكاً للإيطالي، والنصف الآخر ملكاً للأستاذ عبد الرحمن.

Comments

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة