لطمة الرئيس

حينما يتم الاعتصام أمام المحكمة الدستورية العليا، ويمنع المتظاهرون "السلميون" من الأخوان المسلمين القضاة من عقد جلستهم، تتقاعس الدولة ممثلة في وزير داخليتها، وفي رئيس وزرائها، وفي رئيسها السابق محمد مرسي عن تأمين القضاة، وتؤجَل الجلسة، ولا تبت المحكمة في ما كانت تعتزم البت فيه. ويخرج علينا حينها رئيس الوزراء الأخواني مفسراً أن تلك هي الديمقراطية، وحرية تعبير الشعب عن رأيه بوسائله السلمية، وتلك ممارسات تحدث في الدول الديمقراطية، وحينما يهتف المتظاهرون "السلميون مرة أخرى" بهتافات مناهضة للقضاة المسيسين من وجهة نظرهم، ومن وجهة نظر الجماعة ومندوبها في قصر الرئاسة:"يا ريس إدينا إشارة، وإحنا نجيبهم لك في شيكارة" لم تكن تلك الهتافات تثير حفيظة الرئيس السابق محمد مرسي أو تدفعهما أو تدفع جماعته للدفاع عن "هيبة الدولة" أو "هيبة القضاء" أو "الأخلاق الحميدة"، أو حتى الالتزام بمواثيق وعهود الرجال، ذلك أن تلك المحكمة بذات تشكيلها، هي المحكمة نفسها التي أقسم الرئيس السابق محمد مرسي العياط أمامها قسم الجمهورية، وحنث به كما حنث بعهود كثيرة غيرها...كل ذلك لم يثر رجل القضاء المخضرم الحر المحترم المستقل محمود مكي، ولم يجد غضاضة فيه، وسكتوا جميعاً، وعلقوا تلك الممارسات على الديمقراطية.

حينما يتم اعتصام أقل أمام القصر الجمهوري، بعد تظاهر مئات الآلاف من فئات الشعب المختلفة في مظهر احتفالي سلمي، شابه تجاوزات من الطرف الآخر نعترف بها ولا ننكرها، بل وندينها، تثور الجماعة (لا الرئيس)، ويتواطأ الرئيس السابق معها، ويساق المستشار المحترم محمود مكي لحديث عن هيبة الدولة، وعن هيبة الرئاسة، ويتورط في مصطلحات تطيح بماضيه، وسمعته القضائية حينما يصرح أمام وسائل الإعلام: “هتحشدوا بواحد نجيب لكم مية"، وانتهاء إلى شريعة الغاب "البقاء للأقوى"، وبينما لم يمنع المعتصمون أحداً وعلى رأسهم الرئيس السابق من الدخول إلى القصر وممارسة مهام عمله (كما فعل أنصاره في الستورية العليا)، وعقد كل اجتماعاته، ولقاءاته وأحاديثه ومؤتمراته، تقوم جماعة الأخوان المسلمين بتحريض ميليشياتها لتطهير القصر الرئاسي، والقيام بمظاهرات تأييد للرئيس، حتى يؤكدوا للشعب أن مرسي العياط "وراه رجالة"، وبهذا نتحول حقاً من دولة مدنية إلى مجتمع قروي تسكنه عشيرة قادرة على أن تروع شعباً بأكمله، وتؤكد شرعيتها من خلال شبيحتها المدربين في جبال أفغانستان، وغابات الشيشان.

يقول لسان حالهم:

كيف يتجرأ الشعب على الرئيس ويرسمون جدران قصره بذلك العار، ويشتمونه بأبشع شتائم الأب والأم ، وينعتون أعضاء الجماعة، وأعضاء مكتب الإرشاد وعلى رأسهم المرشد العام بتلك النعوت الجنسية القذرة، كيف يتجرأ الليبراليون والعلمانيون الكفرة، ومعهم الشعب المضلل بسب الرمز والمرشد؟ هل تقبل ذلك على والدك؟ أو كبير عائلتك؟ ....هنا عدنا سنتين إلى الوراء حينما خرج علينا الفريق أحمد شفيق بالتحليل العشائرى القبلي المخصص للإستهلاك الشعبي: "يعني لو حصل لك مشكلة مع أبوك تطرده من البيت؟ ده إسمه كلام؟ دي مش من طبيعة المصريين، إحنا مش كده"، يعود مكي ومن خلفه الجماعة، ومن ورائهم الرئيس السابق محمد مرسي في التأكيد على الطبيعة الأبوية للمجتمع المصري، يطعنون الناس في تقاليدها، ويساوون بين الدولة والعشيرة، وبين الموظف العام وأخلاق القرية المصرية، وليس الأمر على هذا النحو مطلقاً، فمرسي كاذب، وجماعته كاذبة، والكل يعلم ذلك تمام العلم، وما حدث، هو أن الجماهير الغاضبة، التي لم تجرؤ على اقتحام القصر، أو منعه من دخوله في اليوم التالي، عبرت كما سمح لها تعليمها وثقافتها، والتنابز بالأخلاق والمستوى الاجتماعي على ذلك النحو ليس سوى تأليب جديد من الطبقة "المهذبة"، "المثقفة"، "بنت الناس" على، "الشوارعية"، و"البلطجية" في إشارة إلى أن ذلك يضر بهيبة الدولة... وهنا نقف قليلاً عند هيبة الدولة، فالرئيس السابق محمد مرسي العياط أضر بهيبة الدولة حينما ضرب بعرض الحائط كل الأصوات المعارضة لإعلانه الدستوري، واستمر في عنده وعناده في لجنته الدستورية المعيبة، هيبة الدولة أضر بها مشهد تمرير الدستور في أربع وعشرين ساعة، بعد أن منحهم الرئيس شهرين للتوافق، هيبة الدولة أضر بها المستشار محمود مكي شخصياً حينما قال أن : "الرئيس لم يكن على اتصال باللجنة، ولم يكن يعلم أن بإمكانها الانتهاء من العمل بهذه السرعة لذا منحها شهرين!!!" .. هل هذا كلام للعقلاء يا سيادة المستشار المحترم؟ وهل ينطلي على أحد ذلك المنطق الساذج في التفكير؟ أي عبث تمارسون يا سيادة المستشار!!! هيبة الدولة يضيرها أن يحتفل الرئيس السابق بنصر أكتوب مع أنصاره ومحبيه، وأن يخرج لمحبيه عند القصر في الأوقات الحرجة! هيبة الدولة يضيرها كذب الرئيس وتنصله من وعوده لجبهة فيرمونت! هيبة الدولة يضيرها استقواء الرئيس بالولايات المتحدة الأمريكية، وتضليله لشعبه بما حدث واقعياً في غزة، واتفاقاته التي اعتبره على أثرها شيمون بيريز وباراك أوباما شخصية محورية في المنطقة؟! وما إن عاد أصدر إعلانه غير الدستوري الشائن سبب كل البلاء.

هكذا يبدو المشهد من الخارج، وهكذا تصفه أجهزة الدولة للبسطاء من الشعب بغرض الاستهلاك المحلي، ولكن ماحدث في الواقع، في تقديري الساذج: هو أن اللطمة القاسية التي وجهتها المعارضة للرئيس السابق، وهو ما لم يكن يتحسبه بعد انتصاره المزعوم في غزة (ضحايا الفلسطينيين ١٥٠ قتيل!!! لاحظ فاتورة الانتصار)، لم تكن في نعته من قبل الثوار بالأب والأم، ولم تكن في الأعداد الضخمة التي ظهرت أمام القصر ليلة الرابع من ديسمبر، والتي قدرها أمين عام حزب الحرية والعدالة بألفين (بينما يقول خبراء الاتصالات أنها تتعدى السبعمئة ألف، وهو قدرة تحمل شبكة المحمول!) (لاحظ أن ميدان النهضة في أسبوع سابق قد تحمل عشرة ملايين وفقاً لبعض تقديرات الجماعة)، أقول أن ذلك كله على المستوي العملي لم يكن مؤثراً للرئيس قدر تأثير إلغاء ترتيبات زيارته للولايات المتحدة الأمريكية، وهي الزيارة التي بدأت أمريكا في الإعداد لها إعلامياً على نحو غير مسبوق، بالتزامن مع مقال ستيڤ كليمونز حول مرسي: محمد مرسي: هل هو أبراهام لينكولن متخفياً أو أنه مبارك جديد؟، وقد أشار برنامج من واشنطن على قناة الجزيرة القطرية (الشهيرة بقربها من الأوساط الحاكمة في مصر) إلي ذلك التوازي بعد تعقيب قصير على فيلم سبيلبيرج الجديد عن لينكولن. إذن فمرسي يتم تلميعه على الطريقة الأمريكية ليكون "لينكولن" الشرق الأوسط، الرجل القوي القادر على حل المعادلات الصعبة مع حماس، وكافة المنظمات التي تقع تحت سيطرة الأخوان المسلمين في الشرق الأوسط، ولم تكن الزيارة المزمعة لمرسي إلى واشنطن سوى زيارة التعميد الأمريكي لخريج الجامعات الأمريكية محمد مرسي رئيس أكبر دولة في المنطقة، والدولة القائدة، المعتدلة، رائدة السلام والتفاوض والتنفيذ في الشرق الأوسط.

الاضطرابات التي أعقبت الإعلان الدستوري لم يعرها الشاطر ولا الجماعة اهتماماً، وأصدروا تعليماتهم لمرسي بالتغاضي عن تلك الأصوات القليلة من المعارضة المتشرذمة، التي ستنقسم إلى فلول وثوريين، ومعارضين للعسكر، وطالبين لحماية العسكر، وأصدر مكتب الإرشاد تعليماته للجماعة بتحفيظ إكليشيهات "شفيق زعيم الثورة المضادة"، "كلاب شفيق"، "الفلول يجتمعون"، حمدين الذي يريد أن يكون رئيساً، البرادعي عميل أمريكا (لاحظ البرادعي، وليس مرسي!!!) إلى آخر الإكليشيهات السخيفة التي يرددها ببغاوات الأخوان. حينما لم يجدِ التجاهل، وفوجئ الجميع باجتماع المعارضة في مظاهرات حاشدة الثلاثاء ٢٧ نوڤمبر، وتوحيد الصفوف، وإيقاف كل من يتفرع عن القضية الأساسية وهي إلغاء الإعلان الدستوري، وإعادة تشكيل اللجنة التأسيسية، فلم يكن من الشاطر وبديع سوى إصدار التعليمات لجميع التنظيمات السلفية بالنزول إلى الميادين السبت التالي، وتضاربت الأنباء في البداية حول النزول إلى التحرير، ثم العدول عن ذلك إلى ميدان النهضة، وحينما تناقل المناهضين للإعلان الدستوري إشاعات عن حرق أتوبيسات الأخوان ، لم يكن من التنظيم الأخواني إلا أن لجأ لحيلة مضمونة، بكتابة شيك بثمن الأتوبيس كاملاً لصاحب الأتوبيس، بتاريخ الأحد يسلمه حين عودته للمركز، وجاءت المظاهرة، وتوالت الأنباء عن وصول حشود تقدر بعشرة ملايين (الميدان لا يستوعب أكثر من خمسين ألفاً في تصريح لمحافظ الجيزة)، وتوالت الدعوات بالحرق والفرم والنفي والسجن والإعدام، وتوالى نشر المشاهد المقلقة لأصحاب اللحى، والمنقبات، ولهجة الكراهية والإقصاء التي يجيدها السلفيون (استعانت الجماعة بالتنظيمات السلفية الشقيقة حتى يبدو الأمر وكأنه حشد حقيقي لأغلبية الشعب المصري)، مما أثار حفيظة الأوروبيين، والأمريكيين بعض الشئ، ثم حدثت مظاهرات الثلاثاء الرابع من ديسمبر، وخرج الرئيس السابق من الباب الخلفي للقصر، بينما هتف المتظاهرون بهتافات جافى بعضها حد اللياقة، مما أكد للإدارة الأمريكية أن الجماعة لا تمسك بزمام الأمور تماماً كما تدعي، ومرسي الدمية في يد الشاطر وبديع، لا يؤتمن على خطاب أو عهد أو قرار، مما دفع الإدارة الأمريكية لإرجاء الحديث عن اللقاء المزمع، وتضاربت التصريحات بين حزب الحرية والعدالة الذي ينكر، وبين أنه قد تم إرجاء اللقاء إلى فبراير أو مارس، أو أن الحديث عن ذلك سابق لأوانه...تلك كانت اللطمة الحقيقية التي وجهها الثوار – المتظاهرون المعارضون للإعلان – الفلول- الثورة المضادة ... سمها كما شئت – للرئيس السابق محمد مرسي، ثم صاحب ذلك تغير في الخطاب الأمريكي، على نفس النحو السابق إبان سقوط مبارك: مصر دولة مستقرة، ويسعى الرئيس مبارك لتحقيق مطالب شعبه...هنا قالت المتحدثة الرسمية، أن ما يحدث في مصر شأن داخلي (في تجاهل لما يمثله الإعلان الدستوري من نكوص على الديمقراطية وتغول على السلطة القضائية)، ثم أننا نتابع ما يحدث بقلق بالغ (وهي المرحلة الثانية من المتابعة الأمريكية للشأن المصري)، ثم نطالب الجميع بضبط النفس وهي المرحلة الثالثة...

في تلك اللحظة الفارقة، اندفع القطبيون (نسبة إلى سيد قطب) محمود غزلان والشاطر، جناح الصقور في قيادات جماعة الأخوان المسلمين، إلى الدفاع عن المشروع الحلم الذي يبدو وكأنه يتسرب من بين أيديهم وقد هموا بالإمساك به، فحشدوا، وأطلقوا النفير العام، دفاعاً عن ما يرونه شرعية لأول رئيس منتخب للبلاد، وكأن إنتخاب الرئيس عبارة عن شيك على بياض من الأمة حتى يفعل الرئيس أي شئ بما في ذلك إلغاء كل الإجراءات التي تحفظ السلطة من تغول فصيل أو شخص...حشد الأخوان، ونزل الجميع إلى الشارع في عدائية ملحوظة، وفي لحظة دموية تاريخية، أعتقد أنها ستسجل نهاية الجماعة المحظورة، واستعدائها من قبل الشعب الطيب البسيط الذي لم يتعود أن يرى ذلك الكم من الأسلحة، ومن البلطجة ومن الدم. كشّر الشاطر عن أنيابه، وظهر السلاح في يد الميليشيات، وخرج التنظيم السري معلناً بداية مرحلة جديدة في الصراع على السلطة، وليبدأ مرحلة جديدة من الإرهاب المتمسح في الدين، منذراً بنهاية الدولة المصرية كما عرفناها، وبداية حكم إسلامي يطمح لأخونة الدولة من الآن وإلى الأبد.

ومع الدم المراق على أسفلت مصر الجديدة، فقد أول رئيس منتخب ديمقراطياً شرعيته، وأصبح رئيساً سابقاً تجب محاكمته بالخيانة العظمى، لاستخدامه أدوات الدولة في الترويج ومحاباة جماعة محظورة، غير مشهرة داخل الدولة المصرية، ومبهمة التمويل، واستخدام عشيرته لميليشيات تابعة لتلك الجماعة المحظورة في ترويع المواطنين الآمنين، وتثبيط عزيمتهم، حتى يجبروهم إجباراً على التنازل عن حقهم في التظاهر والاعتصام، وحقهم في دستور يمثل جميع المصريين، وحقهم في إلغاء إعلان غير دستوري وضع فيه الرئيس نفسه فوق القانون.

إن الشعب المصري الذي ثار على طغيان مبارك، لم يعد يرهبه طغيان، لقد تنسم المصريون الحرية، ولن تتمكن أي سلطة من إدخال المارد المصري في القمقم مرة أخرى حتى ولو كان ذلك بإسم الدين تزييفاً وبهتاناً، وتحت تهديد سلاح جماعات إرهابية تمتهن القتل.

مصر سوف تصنع المعجزات

يسقط الأخوان
تحيا مصر

Comments

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة