قلم شيفرز


لم يترك الرفيق بدر (أحد قيادات الحزب الشيوعي المصري) مصنعاً إلا وصال وجال فيه، كان مشهوراً وسط العمال، جميع العمال في جميع المصانع في حلوان، ونجع حمادي، وغيرها من المصانع في جميع أنحاء الجمهورية، وكان ما يميزه دائماً قلم "شيفرز" يستخدمه دائماً في الكتابة والشرح للعمال إذا ما انفرد ببعضهم. كان ذلك القلم، هو المظهر البورجوازي الوحيد الذي احتفظ به الرفيق بدر من ماضيه البورجوازي، الذي تنصل منه. كان ذلك القلم يبدو وكأنه أحد مصادر قوته، كان يستخدمه في الإشارة، والتأكيد، والشرح، والكتابة، والخطابة... كان القلم ملازماً له ملازمة الصديق الوفي، الذي لم يخذله يوماً.

ارتبط ذلك القلم به، وبهيئته التي حفظها الجميع...وحينما رزقه الله ولداً ودخل المدرسة، كانت أحد محفزات المذاكرة التي يسوقها الرفيق بدر، وكان إسمه الحقيقي (رمسيس يوسف رزق)، لإبنه رامز، أنه إذا ما نجح في نهاية العام بدرجات متفوقة، سوف يشتري له قلماً جديداً، وكلما تقدم رامز في الدراسة كلما زادت قيمة القلم في نهاية العام. وكان رامز يرى والده، والقلم في يده معظم الوقت، وحينما بدأ القراءة قرأ لوالده، قرأ كراساته، قرأ عن حقوق العمال، وعن النقابات، وعن القيمة الفائضة، وعن الاشتراكية، وعن عالمية الثورة، كانت تلك الملاحظات ترتبط في ذهن رامز بوالده، وبقلم والده. كان أمل رامز البعيد، أن يحصل يوماً على ذلك القلم تحديداً. كان يبدو له قلماً سحرياً يفتح الأبواب، وتنساب من سنه الأفكار في يسر وسلاسة، وكأنه يملي على حامله الكلمات، لا العكس.

قال الرفيق بدر لإبنه المراهق يوماً: “سوف أهديك قلمي إذا ما حصلت على مجموع كبير في الثانوية العامة"، كانت تلك العبارة كافية لكي يحصل رامز على مجموع فاق كل زملاء مدرسته، ومدارس الحي، والمحافظة...بل وحصل على المركز السابع على الجمهورية. دخل رامز كلية الطب، وهو يصطحب معه منذ اليوم الأول قلم والده السحري، كان متأكداً من نجاحه وتفوقه منذ اليوم الأول، كان القلم صديقاً وفياً، دخل به جميع الامتحانات، بل وكتب به قصائد شعر، ومقالات في صحيفة الكلية، وخطابات حب، كان القلم وكأنه يكمل رسالة الرفيق بدر. انضم رامز لمجموعة يسارية في الكلية، وكتب في الاشتراكية، وفي رؤيته عن وطن يحلم فيه بالعدل والمساواة، كتب كثيراً وشارك في العمل السياسي كثيراً، وكانت النتيجة اعتقاله، والقبض عليه في مسكنه، المعروف لضباط المباحث في قسم مكافحة الشيوعية، بمنزل الرفيق بدر. لم يكن رامز يهتم بأي شئ، سوى أن لا يمسوا قلمه، خبأه في مكان أمين، ولم يخبئ كتب الشيوعية، خبأه، ولم يخبئ مقالاته المناهضة للنظام، اعتقلوه عدداً من الشهور، ولكنه خرج، ووجد قلمه، قلم الرفيق بدر، ووقتها أحس أنه لم يفقد شيئاً يذكر، بذلك الاعتقال، فاستل القلم، وأكمل طريق النضال.

إلى جانب النضال، كان رامز متفوقاً لدرجة مبهرة، وكان أحد أوائل دفعته، وتعين في كليته، وأكمل دراساته العالية، وتفوق فيها، ثم تخصص، وعمل في أحد المستشفيات الحكومية.

وأثناء عمله دخل عليه يوماً أحدهم يصحب والده، وقدم نفسه: دكتور/ بدر محمد الحسيني، تخصص جلدية، إزي حضرتك يا دكتور؟...ثم شرح له حالة والده، وبدأ رامز في فحص الوالد، وكان المدهش أن الرجل كان ينظر في نقطة واحدة لا تحيد عينيه عنها، كان الرجل ينظر إلى القلم... القلم الشيفرز الذي يستخدمه الدكتور رامز رمسيس يوسف رزق، ولم يدرك رامز سر تلك النظرة الثاقبة إلى ذلك القلم.

وحينما أخرج القلم ليكتب الروشتة، وبينما دار الحديث مع الدكتور الزميل، قاطعهما الأب، وسأل رامز سؤالاً مباشراً: هل هذا قلم الرفيق بدر؟

كان رامز يعلم تاريخ والده، ويعلم إسمه الحركي في التنظيم، فأجاب بالإيجاب. فقام الرجل واحتضن رامز، وقال له، أنه يعرف أبيه حق المعرفة، وأن أباه كان سبباً في كل ما حدث له في حياته، وأن الرفيق بدر قد لا يعرفه، ولكن كل كلمة قالها الرفيق بدر، وكل كتاب نصحهم بقراءته، وكانوا يقرأونه، كان يفتح لهم آفاقاً، ويعلمهم الحياة وقيمة الإنسان، وقيمة المعرفة، الأمر الذي مكنه بعد ذلك من التدرج في المناصب، وإكمال تعليمه، وتعليم أبنائه. لذلك سمى ولده البكري على إسم الرفيق بدر.
صافحه مغادراً:

بلغه أرق تحياتي يا دكتور من فضلك"

جلس رامز على مكتبه المتهالك، في المستشفى الحكومي المتواضع، ونظر إلى قلمه السحري، ودارت في عقله فكرة واحدة: “أن هناك بعض الأشياء البسيطة العميقة، التي تربط الإنسان بالإنسان، وتربط الإنسان بالماضي، وتربط الإنسان بالأرض، وتربط الإنسان بالفكرة، وتربط الإنسان بالحلم".

Comments

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة