ثورة الجسد - علياء المهدي مرة أخرى



فيمين" هي حركة معارضة نسائية أوكرانية، مقرها الرئيسي في كييڤ عاصمة أوكرانيا، وقد تأسست في ٢٠٠٨. اشتهرت تلك الحركة بتنظيم تظاهرات احتجاجية عارية الصدور (توبليس) لمناهضة السياحة الجنسية، والمؤسسات الدينية، ووكالات زواج الأجانب الأوكرانية، والتفرقة على أساس الجنس، وعدد من القضايا الاجتماعية والمحلية والدولية الأخرى.
صرحت "فيمين" في أكتوبر ٢٠١٢ أن لديها حوالى ٤٠ ناشطة قادرة على التظاهر (توبليس) في أوكرانيا وحدها، ولديها حوالى ١٠٠ ناشطة حول العالم، ممن انضموا للحركة من دول أخرى.
وتتضمن أهداف الحركة: “تطوير القيادية الفكرية، والمعنوية لدى الأجيال الجديدة من النساء الأوكرانيات" و"بناء صورة إيجابية لأوكرانيا كدولة ذات فرص عظيمة للمرأة"
تعتقل ناشطات فيمين بشكل منتظم من جانب البوليس الأوكراني عقاباً على تظاهرهن كما أن هناك عدد من القضايا المرفوعة ضدهن تتهمهن بـ"الشغب"، و"إهانة رموز الدولة"، وتقوم فيمين بالتظاهرات في أوكرانيا معظم الأحيان، إلا أن الحركة تزعم أنها دشنت أفرعاً في كل من وارسو وزيوريخ، وروما، وتل أبيب، وريو دي چانيرو. كما قامت مؤخراً بعمل تظاهرات احتجاجية بصدور عارية في روسيا، وفرنسا، والسويد.

تقول حركة "فيمين على صفحتها الرسمية أنها حركة نسائية عالمية، وأنها حركة من نساء ناشطات عارية الصدر، تحمي حقوق المرأة في عدم التمييز، والمساواة حول العالم. هي حركة لعدد من جنود ناشطات على قدر عال من الاستعداد النفسي، تمثلن الموجة الجديدة لحركة تحرير المرأة في الألفية الثالثة.


وقد ظهرت الناشطة المصرية علياء المهدي، التي اشتهرت بجدلية صورها العارية على صفحات الإنترنت، مع ناشطات في حركة فيمين أمام السفارة المصرية في السويد، وقد وضعن كتباً سماوية على أجسادهن العارية، وكتبن "نعم للعلمانية"، و"لا للدين"، و"السقوط لمرسي"...

مجدداً تطرح علياء أسئلةً شديدة الأهمية، على المجتمع، وعلى المثقفين والفنانين والليبراليين، قبل أن تكون الأسئلة موجهة لأي طوائف أو جماعات دينية، تطرح أسئلة واضحة محددة، فجة في بعض الأحيان، طالما تلكأنا في الإجابة عليها، أو حاولنا طوال حياتنا أن نهذب الأطراف الحادة لها، حتى لا نصطدم. "نصطدم"...يا لها من كلمة، نعم "نصطدم"، نصطدم بالقوى الرجعية، بالتطرف الديني، بالأصولية الدينية، بالأغلبية الصامتة، بتقاليد مجتمع تتآكل، وتتحول في لحظة تاريخية إلى عقبة مهولة أمام التقدم والتنمية والإصلاح. إننا (وأعني المثقفين والفنانين)، نعيش انفصاماً عميقاً يجعلنا طوال الوقت خارج سياق المجتمع، لقد أصبحنا جزيرة مهجورة خارج المجتمع، بدلاً من أن نكون له نبراساً وقاطرة، أصبحنا شرذمة ضالة، بدلاً من أن نكون فئة مؤثرة واضحة المعالم والاتجاه. وأصبح علينا أن نلتقي مع المجتمع في الأغلب في منطقتين (الجنس والموت)، فنعود أدراجنا نحو المجتمع حينما نبغي الزواج، فنتزوج على الشريعة أو في الكنيسة أو في المعبد، لأن ذلك السر الإلهي محصور في ظل معتقداتنا في تلك الأماكن، وحينما نروم الدفن، وتكريم الميت، فذلك السر الإلهي هو الآخر أمر خاص بالمؤسسة الدينية وحدها دون غيرها، بل إن هاتين المنطقتين هي منطقتي التماس بين الإدارة متمثلة في الحكومة والمؤسسة الدينية متمثلة في الشيخ أوالجامع أو الكنيسة أو المعبد. هنا لا تستطيع مؤسسة أن تمارس سلطاتها بمعزل عن الأخرى اللهم إلا إذا كانت هناك حالة شاذة في زواج بين أديان أو جنسيات مختلفة.

مع تنامي المد الوهابي في مصر منذ سبعينيات القرن الماضي، وعودة المصريين العاملين في الخليج، تنامت معدلات الطلاق، وتفكك المجتمع بشكل ملحوظ، وتفشى طابور من الظواهر السلبية المميتة في المجتمع، مثل السلبية، والطفيلية، والكذب، والنفاق، والفساد. ومع زيادة عدد الجوامع والزوايا بشكل ملحوظ في معظم الأحياء الجديدة، إلا أن القيم التي يحض عليها الدين الإسلامي، والأديان جميعاً أصبحت أبعد ما يكون عن ممارساتنا اليومية. ولايجد الشعب المصري أي غضاضة في أن يخرج من الجامع في نفس اللحظة التي يكذب أو ينصب أو ينم فيها، ولا يجد الشخص أي مشكلة في أن يترك سيارته في عرض الشارع معطلاً بذلك أحوال العباد كي يذهب للصلاة، التي تحض في نفس الوقت على العمل، وتيسيير أمور الناس، لا يجد الموظف أي غضاضة في أن يترك عمله للصلاة، وأن يحول عمله مكاناً للصلاة، ولا يجد الأهل أي غضاضة في أن يبيعوا ابنتهم لمن يدفع أكثر، ومن يوفر قدراً أكبر من الأصول الثابتة، أصبحت الأسس التي تبنى عليها الأسرة والمجتمع أسس واهية، مادية، مغرقة في الاستهلاكية. إن جسد علياء العاري يقف أمام كل ذلك باستهانة واحتقار، في محاولة لطرح أسئلة أكثر جذرية من الأسئلة المطروحة على الساحة الآن، عما إذا كان دخول دورة المياه بالقدم اليمنى أو اليسرى، وعما إذا كان من الممكن ممارسة الجماع في دورة المياه (سؤال طرحته أحد المشاهدات لأحد البرامج الدينية....إلى هذا الحد أصبحنا نخاف أنفسنا!!!). تقف علياء عارية أمام كل تلك الظواهر رافضة لهذا القدر من التسطيح، وعدم احترام العقل المصري، عارية أمام سقف الحرية التي وضعناه بأيدينا، إن نساء إيران سوف تخلع الحجاب في اليوم الذي تسقط فيه الدولة الدينية...أمّا هنا في مصر فالمشكلة أعمق، لقد نفذت الوهابية إلى العمق الرخو، نفذت من باب الجهل وانحدار التعليم والعشوائية، وفساد السلطة.

ألتقي منذ نعومة أظفاري مع راقصي وراقصات الباليه، أرى أجسادهم، وأجسادهن، ولا تثير في نفسي سوى الإحساس بجمال الجسد، وتزاوج الحركة والموسيقى في تآلف مدهش. وأمضيت فترة طويلة في حياتي أبحث عن ما يثير في جسد بعض راقصات كباريهات الدرجة الثالثة، ولا يثير في جسد راقصة الباليه، بل أخذت أبحث عن ما يثير في جسد نفس الراقصة (راقصة الكباريه)، وقد لا يثير في جسد تحية كاريوكا أو سامية جمال، أخذت أبحث عن الفرق بين الراقصة والرقّاصة، وأعني هنا بين الرقص كفن، والرقص كمقدمة لممارسة الدعارة أو الجنس.

مع التقدم في السن والخبرة فهمت أن الجنس هو عملية وحالة فسيولوجية نفسية معقّدة، قبل أن يكون عرياً مطلقاً، أي أن الإنسان قد يمارس الجنس دون أن يخلع ملابسه، قد يمارس الجنس بمجرد النظر أو الشهوة (وهو المفهوم الديني للجنس بالمناسبة)، على الجانب الآخر، فقد يكون عري الراقصة أو الموديل، أو التخفف من الملابس بدواعي الطقس، أمراً غير جنسي بالمرة، ، فالجنس حالة قبل أن يكون مجرد عري.إن هناك فرقاً واضحاً وصريحاً بين الجنس كرغبة شهوانية تعود بالإنسان إلى أصوله الحيوانية، الجنس كرغبة في النكاح والإيلاج، وبين جمال التماثيل الرومانية العارية، أو جمال لوحة "دانايا" لريمبرانت، هناك فرق واضح بين الجنس كمحرك رئيسي وأساسي للكثير من تصرفاتنا، وبين الجمال كعلم، والتغزل في عظمة وكمال الخالق في الجسد الذي منحنا إياه. نعم هناك مرحلة بينية شديدة الاختلاط في مجتمعاتنا المنحلة التي تعاني من أمراض في النفس فيما يخص جسد المرأة (وجسد الرجل أيضاً)، بل وحقوق المرأة في المطلق. ولكن ذلك أقرب إلى المرض منه إلى الصحة، وأقرب إلى الأزمة منه إلى الوضع الطبيعي.

أقول أن علياء تطرح علينا جميعاً مرة أخرى أسئلة تفضحنا وتفضح كبتنا، وعقدنا النفسية، وانغماسنا في المظاهر والقشور، بدلاً من البحث عن المعدن والجوهر. إنها أسئلة من نوع: "هوه الباليه حرام؟"، " بنتي بترقص باليه في النادي بس، مش علشان تطلع راقصة باليه محترفة يعني!"، "هوه التمثيل حرام؟"، "السينما النظيفة"، "العري في السينما"، "المشاهد الساخنة"، "هل تقبل فلانة الممثلة دور ساخن؟"، "هل يقبل فلان دور شخص مثلي جنسياً"، "هل أنت مع أو ضد الموديلات العارية؟"، "هل ترضى أن تصبح ابنتك موديلاً عارياً؟"

إن تلك الأسئلة تعبر عن أزمة عميقة بين ما نعتقد، وما نمارس، بين قدرتنا على تقدير الفن والجمال، وعجزنا عن وضع حدود واضحة وصريحة لهذا الفن وذاك الجمال. وفي ظل الثورة، وفي ظل المرحلة الحرجة التي نمر بها، من ظهور واضح للقوى الرجعية في المجتمع، يبدو طرح تلك الأسئلة وكأنه أمر مقصود به، تشويه سمعة القوى الليبرالية، والانحراف بالعملية السياسية عن خطها الثوري، وكأننا نريد أن نفعل ذات الشئ الذي يفعله الإسلاميون على طوال تاريخهم...الكذب لحين انتهاء الغرض، أي أن علينا الاّ "نصطدم" بالمجتمع، حتى نحصل على مقاعد البرلمان، أو نتائج الاستفتاء، ثم نظهر بعد ذلك على حقيقتنا، علينا أن نهذب من لغتنا، ونستخدم ألواناً أكثر اتساقاً مع المجتمع (مثلما يفعل الأخوان باستخدامهم شعار "نحمل الخير لمصر" بدلاً من "أعدوا" أو "الإسلام هو الحل") حتى نصل إلى بغيتنا، وبعدها نتمكن من طرح قناعاتنا الحقيقية. أليس كذلك؟

إن ما يحدث في أروقة الحكم في مصر، بعد تغول الإسلاميين، والسلفيين على النحو السافر الذي نراه اليوم، يدفعني إلى المقارنة بين تصرفات الرجل حافظ القرآن مرسي، وعلاقته بالدولة، وبالوطن، وبالمصريين، وبين علياء بجسدها الهزيل، وبجانبها ناشطات حركة فيمين، في درجة البرودة القارسة، وقد أوصلن رسالتهن، لا للمصريين "المتدينين" الذين حرصوا جميعاً على رؤية جميع الصور، وما تيسر من الڤيديوهات لعلياء، ولم يتورعوا في الوقت ذاته عن سبها، وإهانتها بكل القبائح، والقيح الممكن، ولكن أيضاً لجزء كبير من العالم.
أقارن بين المستشار المحترم طلعت إبراهيم، الذي تراجع عن قراره بالاستقالة، بعد أيام ثلاثة، ومع أنه لم يخلع ملابسه مثل علياء وحركة فيمين، ولكنه خلع ما هو أغلى من الملابس، خلع الكرامة، والهيبة، لا كرامته، وهيبته، فذلك أمر يخصه وحده، بل كرامة وهيبة القضاء، ومنصب النائب العام، فأجدني أتعاطف مع فيمين، ومع رؤيتهن، وإن لم أتفق مع أجزاء منها، أكثر من تعاطفي مع الكذب، والاحتيال، وتبديل المواقع المقيت.

إن فيمين تظهر في بداية الألفية الثالثة (يتوقعن ثورة النساء في ٢٠١٧)، وقد تمادى المد الذكوري في جميع المجتمعات، وبخاصة مجتمعاتنا الشرقية، فتفهم أن جسد المرأة العاري هو الأكثر انتشاراً من جميع المظاهرات والمليونيات، وبإمكان المرأة توصيل رسالة لجميع أركان الأرض لمجرد أن الرجل ينظر إليها كسلعة، وكمنتفس للغريزة، وكحاملة للنسل فحسب. إن فيمين يدركن أن المرأة باستخدامها نفس السلاح، سلاح الجسد العاري، لا بصيغة البورنو، بل بصيغة الجسد البشري كما ظهر في جميع الحضارات السابقة، يمكنها أن تصل بصوتها للإنسان، الإنسان على إختلاف جنسه وعرقه ودينه ولونه.

جسد علياء هو جسد هزيل، لفتاة صغيرة سئمت من التوازنات، وسئمت من إمساك العصا من المنتصف، وسئمت من المماينة، والمماحكة، والتجمّل، والكذب...سئمت من السياسة. إنه جيل يذهب رأساً لجوهر السؤال ويطرحه بلا خجل، ويضعك أمام نفسك في المرآة، نفسك التي ترفض أن تواجهها منذ ثلاثين عاماً. إنه نفس جيل الثورة الذي يضعك فجأة أمام تساؤل واضح وصريح، هل أنت مع أو ضد النظام، مع أو ضد حسني مبارك، أجب بنعم أو بلا!. إنها نفس الكيفية، ولكنها تساؤلات أكثر عمقاً وتأثيراً.

Comments

Post a Comment

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة