بيچاما كستور



في الثمانينات من القرن الماضي، كانت بداية التفسخ الطبقي، والذي تبعه التحلل الطبقي في التسعينات، ثم تدهور وإنهيار الطبقة المتوسطة، وتحولها لشراذم متفرقة بين المجتمعات العمرانية الجديدة، وحفريات مدينة نصر، وأنتيكات مصر الجديدة، في تلك المرحلة الدقيقة من عمري، ومن عمر الوطن، كانت هناك بعض المفردات المميزة التي تعني الكثير بالنسبة لي، وبالنسبة لجيل كامل من شباب فرافير مصر الجديدة هكذا كان الأخرون يسموننا خارج حدود مصر الجديدة، وفي الجامعة ومجتمعات أخرى! كان ذلك اللفظ يؤرقنا كثيراً، وندفع ثمنه أحياناً من بعض الخنوع، وأحياناً أخرى من اشتباكات محدودة مع بعض شوارعية الأحياء الشعبية، والشمحطجية، والبلطجية، ممن كانوا ينتهكون حرمة مصر الجديدة..ذلك الحي الراقي الذي يسكنه في الأغلب أولاد الناس، على حين يسكن في بقية مصر أولاد...لا أدري!! ولكنهم أولاد شيئ آخر، أولاد ناس "تانية"، ولكنهم ليسوا "مثلنا جميعاً".. هكذا قالتها أمي، ولقنتها لي في الصغر، وأكدها لي والدي ، حتى تيقنت آنذاك أن هناك مصر الجديدة، وهناك مصر أخرى قديمة تمثل أقلية من الشعب المصري يعيشون على تخوم القاهرة، المدينة العظيمة التي تتكون في أغلبها من شباب فرافير ومتعلمين مثلنا ربما في أحياء أخرى تحوي "ولاد الناس" مثلنا...كالدقي والمهندسين والزمالك وجاردن سيتي.

نسيت أن أعرفك بنفسي عزيزي القارئ: عزيز رشاد عبدالفتاح المتناوي...لعلك تذكر الإسم!! نعم هو والدي، رشاد عبد الفتاح المتناوي رئيس مجلس إدارة الشركة المصرية للغزل والنسيج، ووزير الصناعة السابق، صاحب الاستقالة الشهيرة في التسعينات...ولكني لست بصدد الحديث عن بطولات والدي، أو عن عمله السياسي، أو استقالته التي أحرجت رئيس الوزراء، ورئيس الجمهورية وقتها، سأتحدث عن جزء آخر يخصني أنا، لا هو..

وهكذا، كانت حالتنا المادية متيسرة، لم يكن والدي رجل أعمال، ولم نكن من الأغنياء الجدد، أغنياء البوتيكات، والانفتاح، أو العائدون من الخليج، ولكن أبي كان في بداية الثمانينات قد تمكن من بيع بعض أراض تخص جدي في المنيا، وكان لدينا ما يسترنا وكنت من بين زملائي من القلة التي حصلت على سيارة في بداية التعليم الجامعي، كانت سيارة فيات ١٢٨ "أبارث" (إيطالية الصنع، وليست مجمعة في مصانع نصر الحكومية) وكانت حمراء اللون، وكنت شديد الاعتناء بها، وبلمعانها، وبحالتها الميكانيكية، وكنت أخرج مع أصدقائي مساء الخميس، فنذهب لشراء ساندوتشات من عند شاكر، ونجلس على قهوة في شارع هارون، وأحياناً ما نتقابل في نادي هليوبوليس، حيث كان بعضنا من أعضاء النادي، وهكذا مرت الأيام حتى ظهرت هي...

كانت تصغرني بثلاث أعوام، فارعة القوام، رائعة التضاريس، يحيط بها تلك الهالة التي كانت تحيط ببنات المدارس في ذلك الوقت (لعلها لا زالت تحيط بهن الآن، ولكن السن لا يسمح لي بالإحساس بها)، كانت ذات نظرة لامعة لا تخطئها العين، سوداء الشعر، ذات موقف من الأنوثة، وموقف من الحياة...كانت زميلة لأختي سوسن في مدرسة مصر الجديدة الثانوية بنات، قابلتها في المرة الأولى، حينما ذهبت متأففاً لأوصل أختي من المدرسة إلى البيت، وبعد شجار بيني وبين أمي، حول مسئوليتي عن توصيل أختي، بينما كنت بالصدفة في البيت، والمسئول عن ذلك هو والدي، أو هي...أذكر تماماً أنني نزلت إلى الشارع يومها ممتعضاً ألعن الأخت والأم، والسيارة التي جعلتني خادماً، وسائقاً لجميع أفراد البيت..

فوجئت بأختي صفاء تدخل إلى السيارة كائناً جديداً، وكنت شديد الغضب، وكانت سحنتي الحمراء تنضح بذلك الغضب، فما أن تساءلت مستفهماً، بنظرات صامتة، وبينما كانت الفتاتان تضعان حقائبهما في السيارة، قدمتها لي: هدى أمين علي محفوظ زميلتي...لا أدري لماذا ذكرت الإسم رباعياً أثناء دخولهما السيارة، ولم يكن ذلك هو ما أدهشني وقتها، قدرما أدهشتني تلك العينين، التي سوف أتذكرهما إلى الأبد، ولكن من المؤكد أن "هدى" دخلت حياتي منذ تلك اللحظة كهدى أمين علي محفوظ...وكنت أداعبها طوال الوقت بإسمها الرباعي، وانطبعت في ذاكرتي بذلك الإسم الرباعي دون غيره من وسائل التدليل.

في الأيام التالية، عرفت رقم تليفونها، وساعدتني أختي في الحديث معها، حيث كانت تطلبها إلى التليفون أولاً، ثم أحادثها أنا في محادثات تمتد إلى ساعات متأخرة من الليل، وكان سلك التليفون طويلاً في منزلنا لدرجة تسمح بنقله لغرفة النوم، وهكذا كنت أختبئ ليلاً بينما أتحدث إلى ذلك الحب الجديد الذي عصف بذهني وكياني وغير حياتي فيما بعد.

كانت هدى ترقص الباليه، وتتدرب في فرقة باليه نادي الشمس المنشأة حديثاً، كذلك كانت تمارس رياضة السباحة، وكانت اجتماعية للغاية، ولديها صديقات وأصدقاء كثيرون، بدأت العلاقة في يوم الخميس الذي تلا تعارفنا مباشرة، وخرجنا يومها مع أختى وبعض أصدقاء، ثم بدأنا في الأسابيع التالية نخرج وحدنا، وفي الأسبوع الثالث أو الرابع (لا أذكر الآن تلك التفاصيل الدقيقة في العلاقة) أذكر أنني أمسكت يدها، وصرحت لها بحبي، فردت أنها أيضاً تحبني، وفي الشهر الثاني كانت قبلتنا الأولى التي انطبعت في ذاكرتي، وكانت بداية لمرحلة جديدة في العلاقة، فأصبح معروفاً للجميع أننا نحب بعضنا البعض، وأننا أصدقاء بمعنى "بوي فريند - جيرل فريند"، كان الجنس في ذلك الوقت خارج قاموس العلاقات في وسط أصدقائنا وصديقاتنا، كانت هناك مداعبات جنسية محدودة، ولكنها كانت تنتهي عند إمساك الأيدي، والأحضان، وربما القبلات ما سمحت الظروف بذلك.

في ذلك العام، كان علينا أن نرحل فجأة إلى المعمورة، لاعتذار أحد زملاء والدي عن المصيف لوفاة والدته، وكان علينا أن نحزم أمتعتنا فجأة، وننطلق إلى مصيف الشركة التي يعمل بها أبي، وحينما طلبت من أختي أن تحاول الاتصال بهدى لإخبارها بذلك، لم تكن موجودة في ذلك اليوم، وفي صباح اليوم التالي كنا في الطريق إلى المعمورة، وكنت شديد الغيظ لارتباطي مع عائلتي بتلك السفرية، وعجزي عن قضاء ذلك الوقت مع حبيبتي هدى.

سافرنا، ولم أعرف شيئاً عن هدى، وكلمتها أختي، وقالت لها أننا اضطررنا للسفر فجأة، وأبلغتني أنها غاضبة، لأنها كانت تعتزم السفر إلى المعمورة في نفس الوقت الذي سنسافر فيه، وأن ذلك قد دمر جميع الخطط لهذا الصيف. أحسست أن العلاقة قد تهتز بسبب موقف كهذا، وكانت المشكلة أنني لم أكن مذنباً، ولم تكن تلك خططي، وفي الوقت نفسه لا أملك الاعتراض على العائلة، أو الخروج عن طوع البيت ... وبين ذلك الشعور بالذنب، والغضب، والمهانة في رجولتي غير المكتملة، انزويت بعيداً عن العائلة في معظم الأحيان، وكنت أقرأ على الشاطئ، وأوصلهم وأحياناً ما أجلس في البيت، حتى ذلك اليوم المشهود...

يومها جاءت أختي صفاء، وعلى وجهها بهجة وسعادة غير عادية، وكنت على البلاچ، فغمزت لي كي أتبعها، فعلمت أن هناك رسالة من هدى علي أمين محفوظ...ولكن المفاجأة الكبرى لم تكن الرسالة، ولكنها كانت أن هدى نفسها بشحمها ولحمها جاءت إلى الإسكندرية، لم تسعنا جميعاً الفرحة، وأذكر أنها كانت المرة الأولى التي قبلتها على وجنتيها في الشارع، وأمام الجميع، دون أن ألقي بالاً لأي شيء أو كائن محيط، ركبنا سيارتي، وقضينا يومها جميعاً أربع ساعات في الجنة، حكت لنا فيهم هدى كيف استطاعت أن تخدع والدتها، وتخبرها أنها سوف تغيب طوال اليوم، لارتباطها بحصة الباليه في الصباح لمدة أربع ساعات، ثم تمرين السباحة لساعتين، وبينهما ساعتين، ثم لقاء مع بعض الصديقات، لذلك فلن تعود قبل التاسعة مساءً...انطلقت على الفور لمحطة مصر، واستقلت القطار إلى الإسكندرية، ثم تاكسي إلى هنا، وتلك هي المغامرة الأولى لها خارج القاهرة...

أتذكر تلك الساعات الأربع الآن بنفس طزاجة الإحساس التي انتابتني وقتها، كنت أحس أنني مرغوب، أحس أنني مهم لشخص ما، كنت أحس أنني غارق في الحب...

بعد عودتنا إلى القاهرة، وبدء العام الدراسي الجديد، حدثت واقعة لم ألق لها بالاً وقتها، فقد كانت هدى في زيارة لأختي صفاء في صباح أحد الجمع، وكنت قد استيقظت لتوي، وكنت في شجار مع أمي حول النزول لشراء الفول والطعمية من محل يبعد عنا بشارعين، ونكاية في أمي (ولم أكن أعلم وقتها أن هدى تجلس مع أختي في الصالون) قررت أن أنزل بالبيچامة الكستور إلى الشارع، ولم يكن ذلك معتاداً...وبخروجي إلى الصالة، فوجئت بوجود هدى، وكان توجهي نحو باب الشقة قراراً حاسماً، غاضباً، غير قابل للرجوع عنه تحت أي ظرف من الظروف، وهكذا تسمرت لمدة ثلاث ثوان، بينما طالعتني هدى الجميلة، ومعها أختي، ولن أنسى إنطباع الدهشة على وجه هدى، وهي تراني منطلق نحو الشارع بالبيچاما الكستور، وحكت لي أختي فيما بعد، أن هدى سألتها: “هو عزيز نازل بالبيچاما؟"...فسكتت أختي ولم تجيب..

وكانت تلك نهاية علاقتي بهدى الجميلة، وباءت كل محاولاتي لشرح الموقف بالفشل، وعجزت كل خطاباتي، وتوسلاتي، وانتظاري بالساعات أمام منزلها، وأمام مدرستها، وتوسط أختي، عن تغيير فكرتها عني...تقابلنا فيما بعد في مناسبات عديدة، ولكنها كانت تشيح بوجهها عني، وكل ما كنت أود أن أقوله أنها كانت المرة الأولى والأخيرة التي أنزل بها بالبيچاما الكستور إلى الشارع، ولكن دون جدوى...حتى حينما تولى والدي الوزارة، وتصورت حينها أنها ستتمكن من تخطي حاجز البيچاما الكستور، لأنها سترتبط بإبن وزير..ولكن ذلك أيضاً لم يفيد.

اليوم، وبعدما تزوجت وأنجبت، وتزوج الأبناء، ورحلت الزوجة، وخضت حياة طويلة غريبة، مدهشة، لازلت أذكر ذلك اليوم في المعمورة، وأذكر ملمس يدها الناعمة، وأحس بضغطتها على يدي في السيارة الفيات ١٢٨ أبارث، ولازال الأمل يراودني أن أجدها على أي من مواقع التواصل الاجتماعي...هدى أمين علي محفوظ، حتى أقسم لها أنها كانت المرة الأولى والأخيرة التي أنزل بها بالبيچاما الكستور...

Comments

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة