معركة التحرير



صرح المتحدث العسكري في معبر حديثه عن التوصل لحل مشكلة المختطفين السبعة أن إطلاق سراح الجنود جاء "نتيجة لجهود المخابرات الحربية المصرية، بالتعاون مع شيوخ القبائل وأهالي سيناء الشرفاء"، فإذا ما أضفت إلى السياق التصريح العسكري غير الرسمي الذي يتحدث عن نفاذ الصبر، واليد التي تنقطع لو مدت على مصري، لكنها لابد وأن تمتد حفاظاً على هيبة الدولة، وهيبة جيشها، والأنباء المعلنة على نحو استعراضي بالكلمة والصوت والصورة عن تحركات عسكرية إلى شمال سيناء لتحرير الجنود، ومعلومات عن مدرعات ودبابات ومجنزرات، وفرقة ٧٧٧، وإعطاء صور تشبه لحد كبير عمليات تحرير الرهائن في الأفلام الأمريكية الرخيصة، وكذلك إذا لم نغفل الأنباء المتسربة عن إطلاق نار كثيف في رفح فجر الأربعاء فإننا في مسرح عمليات ساخن يقف على جانب منه جيش يتركز اقتصاده وثقله الاستراتيچي في شرق القاهرة، وعلى أطرافها بينما يشارك في عمليات البناء والرصف وصناعة الأسمنت والمشاريع العقارية الخاصة بأفراده وضباطه، والمشاريع الاستثمارية فيما يخص الفندقة، وقاعات الأفراح، والمعكرونة والحلويات وخلافه، جيش تمكنت الدعة والاستقرار من ضباطه، وتمكن الخوف والذلة والمسكنة من جنوده الذين يقعون تحت نير كاريزما "القائد" التي تختلف من ضابط لآخر، فينفذون أعمالاً لا تقع تحت بند "الحرب" أو "المواجهة" أو "التضحية"، بل تقع تحت بند "السخرة"، و"الخضوع"، و"التغاضي" عن كافة الإهانات التي يمكن أن تلحق بالجندي، رمز كرامة الوطن!
على الجانب الآخر من المعركة يقف جيش محدود مدرب من الإرهابيين، ذوي العقيدة الراسخة بأن الامبراطورية الإسلامية على وشك أن تقوم، وأنهم يصنعون التاريخ هاهنا، وقد برمجتهم قياداتهم المنحطة الرافلة في نعيم أموال البترول، وتتمتع بحصانة الأمريكان والإسرائيليين، أن ما يفعلونه ليس سوى نصرة للدين، وإعمالاً لكتاب الله، واستكمالاً لمسيرة بدأت منذ عقود، في سبيل ذلك فلا بأس من الخطف والترويع، والقتل والتدمير، بل والاغتصاب، ومناكحة الجهاد كيفما اتفق، وأينما اتفق، فالشيوخ يعتنون بإرهابييهم أكثر من اعتناء الجيش بجنوده.

يشحن كل طرف جنوده، وتشتعل الحرب الإعلامية بين السلفيين والأخوان من جانب، ومن بين مناصري الجيش، ممن لازالوا يعتقدون أن الحل العسكري للأزمة المصرية، هو الحل الوحيد والأمثل، ويبدو الجنود والإرهابيين، وكأنهم عبيد مصارعين في الكوليزيوم، يتفرج الجميع من سيقتل من، وكم سيكون عدد القتلى، وعدد المصابين، وأي دمار ستخلفه العمليات العسكرية، فالطبيعة الإنسانية تحب الدم والإثارة والصراع طالما لم تكن موجودة داخل المشهد.

قطع سينمائي من الدرجة الثالثة، لمونتير باهت يضاهي وزير الثقافة الجديد في رداءة مهنيته، وتظهر الأنباء عن تحرير للجنود، أنباء مبهمة عن صفقات مبهمة، لا أحد يعرف كيف أو متى أو أين تم الإفراج عن هؤلاء الجنود، ومن كان وراء العملية، وما الذي سيتم حيالهم، ولا أي تفصيلة كبيرة أو صغيرة عن العملية، مجرد نبأ عاجل عن "المخابرات الحربية: وعن "الشرفاء" من مشايخ القبائل، لكم أكره كلمة "الشرفاء"، ولكم خدعتنا تلك الكلمات من الجيش بداية الثورة...الشرفاء مرة أخرى، الطيبين مقابل الأشرار، ولله الحمد لم ترق قطرة دم واحدة سوى مصرع لأحد المسلحين في ظروف غامضة أيضاً منذ يوم أو يزيد.

في القصر الرئاسي، الذي اجتمع فيه رئيس الجمهورية السمج بشيخ الأزهر كي يسأله عن فتواه!!! هل كنت تسأل عن الفتوى أيها الفسل إذا كان المخطوف ولدك، وهل كنت تقبل أن يختطف أبناءك بالكيفية التي تبنت فيها جماعتك وحلفائهم عملية اختطاف الجنود، سوف يبتسم أول رئيس مصري منتخب أمام عدسات الكاميرا، سوف يبتسم القائد الأعلى للقوات المسلحة أول رئيس ملتح في تاريخ الجمهورية لعدسات الكاميرا، بينما يصدر نفسه محرراً للجنود، وسوف يبتسم الفريق السيسي على الجانب الآخر بالشعبية التي حازها أثناء لجوء الشعب إليه كي ينقذ أبناءه من المجندين الفقراء، سوف يمنح الجنود مساكن، ومكافآت، وسوف تتسابق وسائل الإعلام صباح اليوم لتنقل المثير عن تجاربهم مع الخاطفين، وعملية الخطف.

سوف يلملم الجميع مكاسبه السياسية، ويحسب غنائمه ظهر اليوم، وأحداً لن يلتفت إلى عربات الأمن المركزي المكتظة عن آخرها بالجنود في عز الظهر كما البهائم، أو للظروف غير الآدمية، وغير المهنية التي أدت لخطف الجنود بالأساس، أو للميزانية التي يحوزها الجيش، ونراها رؤى العين في شرق القاهرة ومناطق تمركز القيادات العليا للجيش، ولن يلتفت أحد لأبنائنا وأخوتنا ممن يستخدمهم الجيش في مشاريعه ليحقق إيرادات خرافية لا نعلم عنها ولا يعلم أبناءنا عنها أي شئ، من عرق أبنائنا، ومن كد سواعدنا.

سوف يحتسي المرشد في مقطمه وهنية في مخبأه شراب الخروب احتفالاً بالإفراج عن بعض الإرهابيين، أو عن تسهيل مستقبلي في مسألة الأنفاق، أو اتفاق بشأن صفقة لتهريب الأسلحة، كنتيجة مرضية لعملية الخطف، لكن أحداً لن يلتفت لأن عدد ساعات الكهرباء في غزة تزداد، وعدد ساعات الكهرباء في القاهرة تقل، نحمد الله أن الميزان في صالح القاهرة بساعات كثيرة، لكننا على الطريق ماضون، بينما يبرر البعض أن في قطع الكهرباء سبع فوائد أحدها التقرب إلى الله، لن يلتفت أحد للقمامة التي تزداد يوماً بعد يوم، ولا أفق لحل المشكلة أو حتى أفكار مطروحة من جانب الحكومة، ولن يلتفت أحد لظهور ڤيروس شلل الأطفال بعد اختفاءه تماماً في يوم من الأيام، وكأن ظهور الڤيروس تفتخر به الحكومة الأخوانية نكاية في سوزان مبارك.

كلمة أخيرة، لم يكن ذلك كله ليحدث دون أن يكون هناك مبارك وطنطاوي وبديع والشاطر، لذلك فالحديث عن أن التيار الكهربائي لم يكن ينقطع أيام مبارك، أو أن الوضع الأمني كان أفضل هو محض عبث جائر، إنما أراد مبارك أن يخفي الألغام تحت الأرض كي تنفجر فيمن بعده، أما من بعده، فيريد أن يزرع ألغاماً جديدة لا يمكننا الفكاك منها إلا بقبول الأمر الواقع، واستبدال سلطة الحزب الوطني المنحل، بسلطة جماعة الأخوان المسلمين المحظورة، واستبدال رأس المال "الوطني" برأس مال "أخواني"، تمهيداً لاستخدام ميليشيات السلفيين، والقاعدة في بسط نفوذ الإسلاميين على العالم... هكذا كان يفكر حسن البنا!

فلنخرج من دوامة العنف وتمثيليات الإرهاب تلك، ولنقلها واضحة وصريحة "مصر للمصريين"، و"الدين لله، والوطن للجميع"، و"لا للفاشية الدينية"، و"لا للفاشية العسكرية"...لا مخرج لنا إلا من بيننا، لا نريد زعيماً، نريد مؤسسات، نريد دستوراً يحفظ حق الجميع، لا حق جماعة بعينها، ويفرض رؤاها على من عداها، نريد جيشاً من أبنائنا يحافظ عليهم وعلى كرامتهم قبل أن يحافظ على كرامة الوطن، وهيبة الوطن، فكرامة الوطن، هي كرامة المواطن، وهيبة الوطن هي هيبة المواطن، فلنخرج الدين من المعادلة نهائياً، ولتكن العبادة مكانها الجامع، والكنيسة والمعبد، وليكن الشارع للجميع، والتعليم للجميع، والصحة للجميع، والوطن للجميع.

هكذا نرى الوطن، فهل من مجيب؟

Comments

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة