حكاية محمود الذي عاد حياً



سقطت مغشي عليها حينما علمت باختطافه، هاتفها أحد زملائه، وأخبرها بالحادث وطمأنها أنه على قيد الحياة، وأن القيادة ستفعل ما بوسعها كي تطلق سراحه في أقرب فرصة. لم تتحمل الصدمة، فمحمود ليس ابنها فحسب، بل هو كبير العائلة بعد وفاة والده الصيف الماضي بالفشل الكلوي، لماذا يستهدفها القدر هكذا؟ إنها تصلي الفروض الخمس، وتصوم رمضان، وتطيع الله، ولا ترتكب من الذنوب سوى النميمة أحياناً، هل من الممكن أن يكون جزاء النميمة أن يحرمها الله من رجلين في عام واحد؟!

"لماذا يا رب؟ ماذا فعلت كي أستحق كل ذلك؟ استغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم يارب، استرها عليا يا رب، استرها على الواد اللي حيلتي، الواد اللي ماحيلتيش غيره يا رب"

في واقع الأمر لديها ولد آخر، لكنه لا يزال في المعهد الصناعي، ولا تعرف شيئاً عما ينتظره من مستقبل، أما بكريها محمود، فهو الأمل، والسند، وكان يعمل قبل الجيش مع أعمامه في الأرض، فكان رزقه ستراً وغطاء لها ولأخيه، ويساعدها الأعمام لحين عودة محمود بالسلامة، الآن محمود كما فهمت من المكالمة في عداد الأموات، وهل يرحم الإرهابيين أعدائهم من الجيش الذين يقبضون عليهم أو يقتلونهم؟! سمعت من محمود أنهم يمشطون المناطق في شمال سيناء، ويصطادون الإرهابيين من الفلسطينيين، وجنسيات أخرى لا تذكرها. فكيف إذا أمسكوه سيتركونه حياً، حتماً سيقتلونه، ويقطعونه إرباً ما استطاعوا.

"كان مالك ومال سينا يا محمود؟ كان إيه اللي وداك هناك يا محمود؟ كانت سنة سوخة يا محمود، خراب بيتك يا بهانة، خراب بيتك يا بهانة"

حزمت أمتعتها وهمت بالرحيل إلى سيناء، تستعطف الخاطفين، لكن أهل البلد أثنوها عن عزمها، وشرحوا لها أن ذلك محض عبث، وأن الموضوع فد انتشر بالفعل على نطاق واسع، وأن رئيس الجمهورية شخصياً تدخل، ووزير الدفاع قرر إرسال جيش لتحرير محمود وزملائه.

"يا رب انصرهم يا رب، ربنا ينصرك يا مرسي، ينصرك يا رب على مين يعاديك، ويفتحها في وشك قادر يا كريم، ربنا يلهمك الصواب إنت واللي معاك يا رب"

دعت تلك الدعوات بقلب صادق، وبحرقة امرأة لم يتبقى لها في هذا العالم سوى ذلك الخيط الرفيع ينقذها من الفناء، فهي تعلم لو أن مكروهاً أصاب محمود، فلن يعني سوى موتها المحقق، سوف تنتحر... هكذا كانت تهذي أمام جيرانها..

"لو محمود جرا له حاجة، وكتاب الله، أقسم بالله العظيم لاولع في نفسي"

والجيران يهدأون من روعها ما استطاعوا:

"يا خالة بهانة وحدي الله أمال، استهدي بالله، وإن شاء الله ربنا ينصفك ويرجعه بالسلامة وينجيه"

فترد هي في غير وعي:

"أستر يا اللي بتستر، استر والنبي يا رب، استر بحق جاه حبيبك النبي"

لم تأكل ولم تشرب، ولم تفعل شئ سوى ملاحقة أخبار الجنود المختطفين، الذين أصبحوا حديث العالم أجمع، لقد سمعت عنهم في جميع القنوات المشهورة التي لم تتصور يوماً أن تكون عائلتها مادة تغطيها، سمعت كلمات وخطب ومناقشات ومشاحنات عن البطولة، وعن تحركات الجيش، وعن التفاوض و عدم التفاوض، والإرهابيين، والتطرف، والعملية نسر ومطالب الخاطفين، والمخابرات وسيادة الدولة، وهيبة الجيش، وأرض سيناء التي تحررت بدماء المصريين... كل هذا الهراء لم يكن يعني بالنسبة لها شيئاً البتة، كل ما كانت تريده محمود ..في حضنها هنا والآن، ولا تريد أن يصيبه أذى أياً كان ثمن ذلك.

وفي مساء يوم من الأيام خرجت إلي الميدان باكية منتحبة كالملتاثة تهيم على وجهها، وصرخت بأعلى صوتها ليسمعها جميع المارة، حتى ظن بعضهم أنها امرأة مجنونة:

"في ستين داهية الثورة بتاعتكم يا ولاد الكلب، في ستين داهية يا ولاد الكلب، تولع البلد عالأخوان عالإنقاذ عالثوار في يوم واحد.. على اللي طلعوا وعملوا الثورة بتاعتكم دي يا ولاد المتــ...هو الخناق اللي بينكم ده هيخليكوا تخطفوا العيال وتقتلوها، غوروا جتكم ستين نيلة، في ستين داهية الحرية والزفت على دماغكم يا ولاد الوسخة، هاتوا لي الواد، هاتوا لي ضنايا جنبي نزرع القراطين، ومش عايزة منكم لا حكومة وولا جيش ولا هباب أزرق علي دمغتكم، مش عايزة أيتها حد..مش عايزة غير ضنايا حبيب قلبي محمود...الواد اللي حيلتي من الدنيا، راجلي اللي فاضل في الدنيا دي...هتاخدوه هو كمان؟"

صرخت من أعماقها بتلك الكلمات ثم تكومت على جانب الطريق فلم تعد تميزها من أكوام القمامة التي يتفاداها سائقو التوك توك.

حينما بدأت المعارك، جلست أمام التليفزيون يكاد أنفها يلامس الشاشة، لم تكن تعاني من عيوب في النظر، لكنها كانت تظن أنها بذلك تقترب من ولدها المختطف، سمعت بالمعارك، وبالأحداث، ولم تنم ليلتها حتى جاءها النبأ السار في الصباح، أفرجوا عن الجنود، ورئيس الجمهورية في انتظارهم.

فتمتمت لربها الذي فرج عنها كربها: "ألف حمد وشكر ليك يا رب، ليك عليا أصلي لك فرض وسنة لحد ما أموت، وتراويح رمضان كلها يا رب، نصفتني بعدلك ورحمتك، ألف حمد وشكر ليك يا رب"

طالعت بكريها في التليفزيون، ورئيس الجمهورية يحتضنه، فانهمرت دموعها أنهاراً دوناً عن إرادتها، لم تكن تطلب من الله سوى عودته حياً فقط، فأعاده لها بطلاً ملء السمع والبصر، وأصبحت هي وولدها حديث القرية والوطن بأكمله، ساعات وكانت في طريقها للقاهرة لتلتقي ولدها الحبيب في مكان قيل أنهم جميعاً سيتجمعون فيه في لقاء رسمي مع عدد من اللواءات.

وما أن رأته حتى أجهشت بالبكاء للمرة المئة، كانت تحس بالعرفان كلما فكرت فيما كان يمكن أن يصيب ابنها، أحست بالعرفان لرئيس الجمهورية، وللجيش الذي حرره، وللدولة التي لعنتها بالأمس، وللثورة، وللرئيس الثوري، وللأخوان، ولكل العالم. كان محمود قد فقد كثيراً من وزنه، وبدا عليه الإرهاق الشديد، لكنه بدا غريباً لا لذلك السبب، بل لسبب آخر، فقد كانت عينيه زائغة، وكأنه تحت تأثير مخدر ما، كان يبدو وكأنه كبر في السن عشر أعوام على الأقل، كان قليل الكلام، لعلها الرهبة أمام قادته في الجيش، لابأس، في البيت سيحكي لها عن كل شئ، لابد وأن قائده سيمنحه أجازة معتبرة تزغطه فيها من خيرات الريف، فيعود وجهه ممتلئاً كما كان.

عاد معها محمود إلى القرية، ووعدته مساءً بعشاء دسم ذبحت له احتفاءً بتلك المناسبة واحدة من فراخها البلدي الكبيرة، وستطبخ له أرزاً كثيراً ورقاقاً كي يشبع، لم تبد على محمود أي علامة للرضا عن ذلك العشاء على غير عادته. فسألته أمه بهانة:

"إيه يا واد مالك، ما تفك كده، وتروق أمال، الحمدلله رجعت سالم غانم بطل قد الدنيا"

فلم يكن منه إلا أن أجاب:

"الحمدلله يا أما، الحمدلله"

دخلت العائلة إلى البيت، بينما ذهب الأخ لشراء حاجيات، ودخل محمود إلى غرفته وانهار على سريره ببكاء حارق مخيف.. جرت والدته نحوه جزعةً تسأله عما أصابه. فأجاب مقهوراً:

"أنا مرة يا أما، مرة...إبنك طلع مرة مش راجل، ماحدش فينا طلع راجل يا أما، كنا خايفين وبنعيط زي النسوان"

فاجابته بهانة بفطنتها:

"يا بني مافيهاش حاجة يا بني، ماحدش فينا كلنا ما بيخافش من الموت، كلنا بنخاف منه، وبعدين أكيد تلاقي ولاد الكلب البعدا كان معاهم أسلحة، وكانوا حيموتوكم بجد، وبعدين طيب ما همه كمان طلعوا يهربوا قصاد الجيش، جريوا همه روخرين زي النسوان، والأبطال زمايلكم خوفوهم وحرروكم"

"مافيش أبطال يا أما، مافيش أبطال ولا حاجة، إحنا لحد دلوقتي ما نعرفش همه سابونا ليه، زمايلي قعدوا يحلّفوهم بأغلى حاجة عندهم، ويقولوا لهم إحنا مسلمين زيكم، وهمه يشتمونا بالأم، والأب، ويتريقوا علينا وإحنا مش عارفين نرد، وزي الكلاب مرميين خايفين ليقتلونا، وحاسين إن مالناش ضهر"

"بلاش كلام فاضي يا محمود، إنت بس اللي ما كنتش عارف إيه اللي بيحصل بره، هدي نفسك بس، وقيّل لك ساعتين على ما الفرخة تستوي وأعمل الرز والرقاق.. حمدالله على سلامتك يا ضنايا، ده البيت كان مالوهش حس من غيرك يا حبيبي!"

...

على مائدة العشاء جلس محمود أمام ورك الفرخة البلدي الذي يحبه أكثر من أي شئ في الوجود، ويأكله مرات معدودة فقط في السنة، وضع قطعة ساخنة من الورك في فمه، ليفاجأ أن طعم الفرخة لم يعد كما كان من قبل..


Comments

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة