شاي أحمر


ليلة الخميس بينما كنت أنزل من سيارتي بعد يوم عمل شاق، وبعد أسبوع من الأوردرات المعقدة، والعمل المتوتر في التصوير الخارجي لمسلسل رمضاني مع مخرج مشهور، كان فكري يدور حول نقطة واحدة، أمنية وحيدة تمنيتها من أعماق قلبي، بعد أمنية ألا يتصل بي المخرج صباح الجمعة، أو أي من الممثلين أو الإضاءة أو الصوت، فمساعد المخرج هو الشماعة التي يعلق عليها الجميع أخطائهم، وإذا كان  المثل الشائع الذي سمعته من أحد الممثلين يقول أن :"‎الراقص الردئ دائماً ما تعيقه خصيتاه.." فإن مساعد المخرج – أنا – هو خصية العمل الفني إذن، الكل يتناسى دوري، ولا يعيرني أدنى اهتمام، إذا ما كانت الأوردرات تسير بسلاسة، ولا يشكرني أحد على المجهود الشاق الذي أبذله، بينما يتكالب علي الجميع، بمجرد ظهور أصغر المشكلات، نعود إلى ‎الأمنية الواحدة التي تمنيتها من أعماق قلبي.. تمنيت، ولا شئ يصعب على الخالق عز وجل، أن يكون هولاكو نائماً.. 
هولاكو هي نفسها نادية زوجتي الرقيقة التي تزوجتها منذ عامين، نعم هي بشحمها ولحمها، لكن الملاك الذي تزوجته أصبح شيطاناً بعد سنة واحدة من الزواج، فاختفت الفساتين التي كانت تظهر خصرها النحيل، الذي ألهب مخيلتي قبل الزواج، وجعلني في وقت من الأوقات أسعد زوج في الدنيا، اختفت أيضاً مساحيق التجميل باهظة الثمن التي كانت تستخدمها، والتي كانت تجعل منها نجمة سينمائية، ظهر شعرها المجعد بعد ستة أشهر، حينما أصبحت زيارات الكوافير مقتصرة على الأفراح، والمناسبات العائلية، وتحولت ابتسامتها الرقيقة وحنانها إلى غضب مستعر ليالي الخميس التي تحولت إلى جحيم، بعدما زاد وزنها بشكل مضطرد، وتقاعست أعضائي عن ممارسة الأدوار المنوطة بها، وأصبحت مجالس المحاكمة صباح الجمعة الخاصة بفتور حبي نحوها طقساً أسبوعياً سخيفاً ينتهي ببكاء وعويل، ومجهود مضني من جانبي كي تتأكد من أنني لا أقابل أحداً سواها، وأنني على العهد، وأنني أحبها، وأن كل ماهنالك أن المصاعب في العمل، والمسلسل الذي أعمل به يجعل ذهني شارداً طوال الوقت، وعاجز عن أداء واجبي الزوجي على النحو المطلوب، لكن ذلك ليس سوى عرض طارئ لن يلبث إلا أن يختفي بانتهاء المسلسل.
مع كل خطوة كنت أقترب من المنزل، كنت أدعو الله أن تكون نائمة، فلا أضطر لملاطفتها، ونحاول كما حاولنا في الأسبوع الماضي أن "نعيد المياه لمجاريها"، المشكلة الأساسية هو أن أمراً ما يحدث في منتصف اللحظات الحميمية فيقطع الاتصال بيننا، فإما مكالمة تليفونية، أو شرخ في ألواح السرير الخشبية، أو نظارة تنكسر لوضعها إياها على الأرض في غمرة اللهفة الجنسية، دائماً ما يحدث شيئاً ما يعكر صفو الاتصال، فامتعض، ويبدو على وجهي الامتعاض، فتنتفض هي، وتشيح بوجهها عني، ثم تعطيني ظهرها، ويبدأ موال البكاء، والشكوى بأنني لم أعد أحبها كما كنت أحبها من قبل، بينما أحاول أنا –حتى الصباح أحياناً- في إقناعها أن شيئاً لم ولن يتغير، وأنها المشاكل في العمل. صباح الجمعة محاكم التفتيش.
وضعت المفتاح بمنتهى الهدوء في الباب، وانفتح الباب، وكان الشقة مظلمة إلا من نور دورة المياه الذي نتركه عادة أثناء النوم، وما أن ولجت إلى الشقة حتى سمعت شخيرها، فحمدت الله، ونزعت حذائي، ومشيت على أطرافي خشية إيقاظها، ونمت بجانبها في هدوء، ومضت الليلة بسلام.
ظهر الجمعة، موعد محاكم التفتيش، أيقظتني بقبلة رقيقة وطالعت عينيها العسليتين فأحسست بحبي الحقيقي نحوها، بدت وكأنها تعود إلى سابق عهدها، نادية الجميلة الرقيقة الحبيبة، سألتني في رقة متناهية: "هل تشرب شاياً أخضر أم شاياً أحمر" فأجبت "أحمر"
هنا لابد من شرح موضوع الشاي الأخضر الذي واظبت عليه زوجتي طوال العام الماضي، ظناً منها أنه سوف يساعدها على خفض وزنها الذي تعاظم بعد زواجنا بسرعة شديدة، وشاركتها شرب الشاي الأخضر كنوع من المشاركة الوجدانية، وأيضاً لما سمعت أنه يحسن سريان الدم، وفوائده الصحية المتعددة. لكنني كنت أشرب خارج البيت دائماً الشاي الطبيعي الذي يشربه جميع المصريين، الشاي الأحمر الكشري العادي جداً. 
في ذلك الصباح لا أدري ما الذي حدا بي أن أشرب في بيتي الشاي الطبيعي الذي أشربه خارج البيت، لذلك طلبت منها شاياً أحمراً، وليتني ما فعلت.
بعد إجابتي المقتضبة، تحولت ملامح نادية إلى هولاكو في لحظة واحدة بشكل يؤهلها لأن تأخذ دور البطولة في المسلسل الذي أعمل به، حتى أنني ظننتها تفتعل ذلك افتعالاً تمهيداً لفقرة كوميدية..إلا أن سؤالها التالي كان من الجدية بحيث حول دفة الحوار بشكل جذري:
"وإشمعنى يعني النهارده هتشرب شاي أحمر؟"
هنا فهمت أن محاكم التفتيش صباح اليوم سوف تأخذ منحى جديداً، وأننا بصدد شجار من نوع آخر فأجبت:
"يعني يا حبيبتي، إنتي سألتيني وأنا جاوبت: قلتي لي عايز شاي أخضر ولا أحمر، قلت لك أحمر..كل الحكاية إن النهارده عايز أحس بطعم الشاي الأحمر"
"ليه؟ زهقت من الشاي الأخضر؟ ما يمكن زهقت مني أنا كمان؟"
"لأ يا حبيبتي أنا مش ممكن أبداً أبداً أبداً أزهق منك يا حياتي، كل الحكاية إني النهارده عايز أشرب شاي أحمر، الشاي الاخضر ده أصله، أصله...."
"أيوه؟؟ ماله بقى الشاي الأخضر.. ماله الشاي الاخضر اللي انت بتشربه معايا بقالك سنة بحالها؟ ماله؟"
"ما مالوش يا حياتي، بس أصله .. أصله مالوش طعم"
"آآآآآآه، قول كده بقى، الشاي الاخضر ما لوش طعم، وبتشربه سنة بحالها، ومالوش طعم، وجاي على نفسك كل ده يا حبيبي، بتضحي علشاني يا كوكي".. هنا ارتفع صوت هولاكو، وتبدت ملامح الانقضاض واضحة على وجهها، ولم يكن ذلك مدعاة للتفاؤل على الإطلاق، فباغتتني بالسؤال الذي عجزت عن الإجابة عنه:
"ولما كنت بسألك عن الشاي الاخضر ، مش كنت بتقول لي، إنه جميل، وإنك اتعودت عليه، وإنك بقيت بتحب طعمه؟ يعني إيه يعني؟ كنت بتكذب؟"
"لأ ما كنتش باكذب.. بس..."
"بس إيه، إنت كنت بتكذب، كنت بتكذب عليا سنة بحالها، كنت بتقول لي إنك بتحب الشاي الأخضر، وإنت ما بتحبش الشاي الأخضر، طيب ما تقول لي بالمرة كنت بتكذب عليا في إيه كمان؟"
....
في  غمار المشاجرة التي تلت ذلك الحوار، بما في ذلك الخروج من المنزل، بالشبشب والبكاء في السيارة، ومحاولاتي اليائسة لاحتواء الوضع، ومنظرنا أمام العمار ة كلها، وأنا بالبيچاما أحاول إقناع زوجتي بعدم الخروج، وبكفاية الفضائح، كان تليفوني الذي وضعته بلاصوت، يرن رنات محمومة بلا صوت، وبنهاية الشجار بيني وبين زوجتي، كان عدد المكالمات التي وصلتني ٣٢ مكالمة..
اتصلت بالمخرج بادئاً ذي بدء حتى أعرف منه ما الذي حدث، فعلمت أن الأوردر في الغد قد ألغي بسبب أن أحداً لم يتمكن من الوصول إلى طوال هذا الصباح، ذهبت إلى المطبخ وتطلعت إلى كوب الشاي الأحمر الذي أعدته لي زوجتي الحبيبة بعدما تصالحنا، رشفت رشفة واحدة لأسألها:
"مافيش عندنا نعناع؟"
...
قطع

Comments

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة