مطار القاهرة


"الأستاذ نجيب رسمي عبد الملاكنجيب رسمي عبد الملاك، برجاء التوجه لبوابة الخروج رقم ٣" - لازال تلك الصوت يرن في أذني بعد مرور أربعين عاماً على تلك اللحظات الحزينة الراكدة في قاع الذاكرة، وكأن المرور بتلك البوابات حجر يلقى في مياه الذاكرة فيثير تلك الذكريات دون غيرها، لازالت تلك الكآبة تحيط بي كلما مررت من بوابات الخروج من الوطن، ومع أن المطار قد أصبح مطاراً آخر غير الذي شهد وقائع الرحلة الأولى إلى الخليج، وأصبحت رائحة السوق الحرة مختلفة، وبضائعها مختلفة، بل وأصبحت أطير في درجة رجال الأعمال بدلاً من الدرجة السياحية، وأصبح هناك مغريات كثيرة للسفر، غير التي دفعت المحاسب/ نجيب رسمي عبدالملاك إلى السفر للعمل في الخليج، إلا أن المطار لازال يحمل تلك الذكرى المؤلمة بينما جاءت جدتي من المنيا لتودعنا في المطار، وكان علي أن أفارقها للمرة الأولى في حياتي، وانخرطت في بكاء عنيف، نهرني عنه أبي، بينما كان يدافع عن نفسه كي يمسك بالبقية الباقية من رباطة جأشه أثناء إجراءات السفر الحزين.

لم يكن لدي فكرة وقتها عما يمكن أن يدفع إنساناً للسفر بعيداً عن وطنه، كنا نعيش في شقة متواضعة في أول شارع شبرا، وكنا نذهب إلى مدرسة جيدة في شارع رمسيس، وكانت الحياة مقبولة لولا منغصات مادية دفعت والدي دفعاً للبحث عن فرصة عمل في الخليج، لم نكن وحدنا، كان الكثير من زملاء والدي قد سبقوه إلى الخليج، وعملوا في المدارس والمستشفيات، وجاءت أخبارهم بما يسرّ في ذلك الوقت، فتشجع والدي، في الوقت الذي ضغطت عليه والدتي والظروف معاً في آن واحد، فقرّر السفر، واصطحب ثلاثتنا معه، أنا وأمي وأختي الصغيرة.

في يوم الرحيل، ولم نكن قد غادرنا الوطن من قبل، وكانت غاية أسفارنا من المنيا إلى القاهرة وبالعكس، لم نكن نعلم أن علينا أن نتوجه لبوابة الخروج، وكنا نظن أن أحداً سوف يأتي ليصطحبنا، ولكن أحداً لم يأت، وغاص أبي فيما يبدو في أفكاره، واحتضنتنا أمي على أعتاب رحلة المجهول، فالطائرة بالنسبة لنا كانت وسيلة انتقال مرعبة، يعلم الله نهاية رحلتها. كانت أمي تقرأ صلواتها بصوت مسموع، وترقّينا، وتدعو الرب أن يحمينا من شر التجربة. وفجأة استمعنا إلى إسم والدي للمرة الأولى في مكبرات الصوت: "الأستاذ نجيب رسمي عبد الملاك.. نجيب رسمي عبد الملاك برجاء التوجه لبوابة الخروج رقم ٣" فتكاتفنا جميعاً، ومعنا أمتعتنا التي تنوعت بين الحقائب والأكياس الممتلئة بأطعمة ومواد غذائية استعداداً للهجرة (كان من نصيبها جميعاً قمامة الدولة الخليجية التي لم تكن تسمح بدخول أطعمة من الخارج، وبكت أمي في مطار الدولة الخليجية طويلاً، وكانت تلك هي القشة التي قسمت ظهر البعير، فلمحت دموع أبي هو الآخر بينما خرجنا من المطار إلي حرارة جو لم نرها من قبل!)، جرينا جميعاً في مطار القاهرة بحثاً عن البوابة رقم ٣، وكان والدنا يجري من خلفنا يتأكد من أن أحداً أو حقيبة لن تنفصل عن القافلة. دخلنا إلى الطائرة الكبيرة المرعبة فكنا آخر أربعة ركاب فيها، وقالت لنا المضيفة أن علينا الجلوس في أماكن متفرقة، لتأخرنا، وبعد الإقلاع سوف تحاول تدبر الموقف. جلست في تلك الرحلة حزيناً خائفاً، وانهمرت دموعي التي خفت أن أظهرها لجاري الغريب.

تعود بي ذكريات ذلك اليوم الحزين كلما مررت ببوابات الخروج من المطار، وأتذكر قسوة الرحلة إلى الخليج، ومتعة الرحلة إلى الوطن في الأجازة الصيفية التي كانت تستمر شهرين يمران كلحظة عابرة، ثم تأتي لحظة الرحيل مرة أخرى، ونبدأ عد الأيام المتبقية للعودة إلى مصر بدءاً من لحظة الخروج من بوابات الوطن. لم تعد الأيام هي نفس الأيام، ولم يعد علي أن أنتظر عاماً كاملاً كي أعود إلى الوطن، بل أسابيع أربعة فقط لا غير، فشركة البترول التي أعمل بها تقسم عملي في الخليج إلى أربعة أسابيع للعمل، وأربعة للراحة، وهو نظام مناسب للغاية، كان علي أن أعمل عشرين عاماً كي أحظى بإمكانية الاستمتاع به. كما أنه قد أصبح من حقي أن أتأخر قليلاً عن العمل، وأتحجج بظروف عائلية، أو ظروف أمنية لمصر ما بعد الثورة إلى آخره. لم يعد الرحيل مأساوياً كما كان من قبل، وتوقفت عن البكاء في الطائرة منذ خمسة وثلاثين عاماً، بعدما تمرست على السفر من وإلى الخليج حيث يعمل والدي. إلا أن اليوم الأخير في القاهرة، ورحلة المطار، ومشاهد الفراق في المطار، وما يدفع الناس إلى الرحيل، وتلك الطاقة القاهرة التي يرحل بها العاملون بالخليج، ممن تقطعت بهم سبل العيش إلا من المرمطة في بلاد الله، بعد ما لفظهم الوطن، وابتسمت لهم المقادير بعمل في دولة خليجية…كل هذا يعيد إلى ذاكرتي نفس العواطف، والألم الذي انتابني وقت رحلتي الأولى إلى الخليج.

"الأستاذ محب نجيب رسمي… محب نجيب رسمي، برجاء التوجه لبوابة الخروج رقم 13D" هكذا نادتني الموظفة، يبدو أن الأفكار قد ازدحمت في رأسي، فنسيت نفسي! 

أتوجه الآن إلى بوابة الخروج، وعلى كتفي كل ما يعينني على السفر، آي باد، ولاب توب، وسماعة مضادة للضوضاء أستمع فيها إلى الموسيقى الكلاسيكية المحببة إلى قلبي، وبإمكاني الآن أن أتحدث إلى إبني في كندا حيث يدرس، أو إلى ابنتي في أمريكا حيث تعيش، رحلت جدتي ووالدي، ودب شيب كثيف في شعري، لكنني لا زلت أشعر بتلك الغصة في حلقي، كلما ودّعني مجند أمن المطار، بعدما يتأكد من ختم الخروج، ويغلق جواز السفر: "بالسلامة يا أستاذ محب"

كم أحسده، وكم يحسدني

Comments

Post a Comment

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة