جدار برلين والحائط الأيوبي



-1-

استيقظ عُجَر الحشاش على صراخ جارتهم المجنونة سماح، هكذا هي دائما صباح الجمعة تقتص من زوجها حنفي لتقاعسه عن أداء واجبه الأسبوعي ليلة الخميس. توقظه بحجة تنظيف الغرفة، وتبكّته لعجزه عن كل الأشياء، فلا عيش كريم، ولا عمل محترم، ولا فراش مقبول يعين على تحمل ما سبق.. "إنت ولا حاجة، ولا حاجة!".. لازمة أسبوعية تتكرر كل جمعة، أيقظت عجر بعد ليلة طويلة قضاها يلعب النرد مع أصدقائه في الحارة.

يسكن عجر في المنزل الثالث قبل الجبل الذي تنتهي به حارتهم في الباطنية، وينتهي به العالم، يقولون أن الجبل كان جزءاً من جبل المقطم، وانتقل إلى هنا بفعل معجزة أحد القديسين سمعان الخراز، يقول البعض أن تلك المعجزة تعود إلى القرن العاشر، ويقول آخرون أن الجبل في الواقع ليس جبلاً، وإنما هو جزء من أحد جدران قصر مهيب يعود تاريخه إلى القرن الخامس عشر لأحد المماليك من دولة المماليك البرجية الذين حكموا مصر من القلعة، تختلف الأقاويل حول الجبل، لكن أحداً لا يختلف على نهاية الحارة، أو على ترتيب المنازل العشوائية من الجبل. لابد من الالتفات إلى إن اصطلاحالمنازلفي حد ذاته مجاز مخل، ذلك أنها عبارة عن مكعبات غير منتظمة من الطوب الأحمر، بعضها ناله بعض الألوان، والبعض الآخر احتفظ ببعض عبارات عن الحج المبرور والذنب المغفور ورسومات الاحتفال بعودة الحجاج من بيت الله الحرام، وتنوعت الأبواب والنوافذ فاكسبت الحارة جزءاً لا يتجزأ من طابعها العشوائي، وألوانها الفوضوية المميزة.

كان عجر ينتوي النوم حتى صلاة الجمعة، لكن الولية سماح لم تمهله.. زوجته وأبنائه في زيارة أسبوعية لحماته في باب الشعرية، وتصور هو بسذاجة أن صباح الجمعة سوف يكون هادئاً لكنه لم يكن كذلك. لفّ سيجارة الاصطباحة، وخرج ليدخنها في الشرفة، الشرفة المطلة على نهاية الحارة.. نهاية العالم.

-2-

انتفاضة برلين 17 يونيو 1953




بسقوط برلين في الحرب العالمية الثانية، أصبحت عاصمة الرايخ الثالث محتلة من قبل الحلفاء (الاتحاد السوفيتيي-الولايات المتحدة الأمريكية-بريطانيا-فرنسا)، استنادا لمؤتمر يالطا عام 1945. وعليه قسمت المدينة إلى 4 أجزاء يسيطر عليها الحلفاء، على أن تكون السلطة مقسمة بين الحلفاء الأربعة فيما عرف بسلطة التحالف، التي عقدت اجتماعها الأول يوليو 1945، في مبنى القيادة العسكرية المركزية للقوات السوفيتية. لكن الأطراف الأربعة لم تتوافق طويلا، فخرج الاتحاد السوفيتي من تلك السلطة عام 1948، بينما أبقت السلطة سيطرتها على المناطق التي تتبع القوات الثلاث الأخرى، وسيطر الاتحاد السوفيتي من جانبه على القسم الشرقي من المدينة برلين الشرقية، وظهرت جمهورية ألمانيا الديمقراطية عام 1949، لكن الحركة داخل برلين بين المناطق المحتلة ظلت متاحة لمواطني الدول الثلاث.

بدأت جمهورية ألمانيا الديمقراطية ألمانيا الشرقيةعام 1952 في بناء مؤسساتها الأمنية الخاصة، وبلغت مصروفات الدولة على النفقات العسكرية 11٪، بينما استهلكت مصروفات إعادة الإعمار للاتحاد السوفيتي 19٪، ما سبب أزمة اقتصادية عميقة، أصبحت تمس جميع طبقات الشعب الألماني. وبعد وفاة ستالين في مارس عام 1953، ومجئ أيزنهاور إلى السلطة، بدأت الخارجية السوفيتية في مايو 1953 بطرح مباردة، عرض من خلالها الجانب السوفيتي على الحزب الاشتراكي الألماني الموحد التنازل عن المسار الحاد نحو بناء الاشتراكية، والتركيز على القضايا المتعلقة بتوحيد ألمانيا، كما عرضت موسكو تخفيض الضرائب على الفلاحين بنسبة 10-15٪، خاصة في الزراعات المتعلقة بالصناعات الغذائية، ورفضت القيادة السوفيتية الإجراءات المتسرعة بإزاحة رأس المال الخاص من الصناعة والتجارة، وعرضت على حكومة ألمانيا الشرقية منح عفو واسع يشمل الكثير من المعارضين.

جاء إلغاء لجنة الرقابة السوفيتية في ألمانيا الشرقية، نهاية مايو 1953 بمثابة استعداد من جانب السوفيت للنقاش بشأن المسألة الألمانية مع الولايات المتحدة الأمريكية، كما استدعي وفد من الحزب الاشتراكي الألماني الموحد إلى موسكو، مطلع يونيو، ووجهت إليهم انتقادات حادة. إلا أن جميع تلك الإجراءات كانت قد جاءت متأخرة، فقد اندلعت إضرابات عمال الصلب في مدينة هينيغزدورف، ثم تتابعت الإضرابات في عموم ألمانيا الشرقية حتى 16 يونيو باندلاع مظاهرات في برلين، ما دفع السلطة بالرجوع عن قرارات زيادة ساعات العمل الصادرة في مايو 1953، لكنها خطوة جاءت متأخرة هي الأخرى.



صباح 17 يونيو 1953 بدأ الإضراب العام في برلين، وتظاهر عشرات الآلاف في ميدان شتراوسبورغ، وتوقف مترو الأنفاق، وجميع المواصلات، وطالب المتظاهرون بإسقاط الحكومة، وإسقاط القيادة الرسمية لنقابات العمال، وعقد انتخابات حرة نزيهة، والسماح للأحزاب الغربية بدخول الانتخابات، وتوحيد ألمانيا.
أعلن مفوض السلطة السوفيتية عن مطالب موسكو بفرض حالة الطوارئ، وبحلول منتصف الليل كانت الدبابات السوفيتية تقف أمام المتظاهرين، ليعلن الجنرال السوفيتي، بيوتر ديبروفا، حالة الطوارئ في مدينة برلين، والتي استمرت حتى 11 يوليو، حيث اشترك في قمع المظاهرات الألمانية 16 كتيبة، منها 3 كتائب في برلين وحدها و600 دبابة، وبحلول مساء 17 يونيو كان في المدينة 20 ألف جندي سوفيتي و15 ألف شرطي ألمانيتقول المصادر الألمانية الشرقية أن الضحايا كانوا 25 ضحية، بينما تشير المصادر الغربية إلى 507 ضحية، إلا أن مركز بوتسدام للأبحاث التاريخية يشير إلى 55 ضحية، بينهم 4 نساء، وهناك 20 حالة لم يتم التأكد منها بعد.

-3-

في عام 1987، وبينما أستعد للنوم، كان قدري أن أرى درية شرف الدين، ولم تكن آنذاك دكتورة بعد، تعرض فيلماً روسياً مهماً من إنتاج 1979، حصل على جائزة الأوسكار، بعنوان "موسكو لا تؤمن بالدموع". لم يشاركني أحد في رؤية هذا الفيلم، لكنني تأثرت به دون أن أتذكر شيئاً من محتواه على الإطلاق، تذكرت تلك الحالة "الشيوعية"، ذلك الاتحاد السوڤيتي، ومدينة موسكو "البعيدة جداً" (هكذا خيل إلي آنذالك أن موسكو تبعد عن القاهرة مثل سنغافورة أو يزيد). في ذلك العام لم يكن هناك ما ينبئ عن ذلك التقارب بيني وبين صديقي الشيوعي الذي صادقته لمجرد أنه يستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية، ولم يكن هناك ما ينبئ عن دخولي أسرة الشروق، ركن اليسار في كلية الهندسة جامعة عين شمس، وكذلك لم يكن هناك أي شئ يمكن أن يشي بتعارفي بإبنة شيوعي قضى عشرة سنوات في سجون عبد الناصر داخل أروقة المركز الثقافي السوڤيتي الذي سيصبح فيما بعد بيتاً، ومكاناً حميمياً شكّل ولا زال يشكّل حياتي. كل ذلك كان في المستقبل غير المرئي بالنسبة لي آنذاك، لكنني حينما خطوت داخل المركز الثقافي السوڤيتي يوم ثلاثاء حيث كانوا يعرضون فيلماً روسياً لا أذكره، تعرفت على عالم آخر، لم أدرك آنذاك أنه سوف يصبح عالمي فيما بعد.

التحقت بالمركز لتعلم الروسية، بعدما رحلت حبيبتي المصرية لتدرس في الاتحاد السوڤيتي، وكان الأمل أن نتلاقى فيما بعد حيث الحرية، والخلاص.. ولم نكن وقتها نفكر في حريتنا وخلاصنا وحدنا، بل كنا نفكر في حرية وخلاص البشرية من خلال الشيوعية التي كان قدرنا أن نتعرف عليها من أجمل وأرق بواباتها، بوابة الفن والثقافة. لم نكن مثل الأغلبية العظمى (كما اتضح فيما بعد) ممن تعرف على ذلك العالم من بوابة الحزب (التجمع أو الشيوعي المصري آنذاك) أو من بوابة (التضامن الأفروآسيوي)، بل تعرفنا على اتحاد سوڤيتي آخر، ظل بالنسبة لنا حتى لحظة كتابة هذه السطور (اتحاداً سوفيتيا آخر).
تفاصيل كثيرة مررت بها ذلك العام، لا مكان لها سوى في رواية أو قصة، حتى وجدت نفسي في طائرة متجهة إلى موسكو.

-4-

بدأت مؤسسة أغاخان في أعمال البناء الخاصة بحديقة الأزهر بتسوية مساحة شاسعة من الأرض تمتد من الباطنية إلى القلعة، ومن المقطم وحتى الجامع الأزهر.. وبينما بدأت المعدات في الحفر، وقع اكتشاف لم يكن في الحسبان، فقد اكتشف المهندسون جزءاً ضخماً ممتداً من الحائط الأيوبي الذي يحد القاهرة شرقاً، كان على أحد جوانب ذلك الحائط حديقة الأزهر المزمع بنائها، وعلى الجانب الآخر بعض الحارات في الباطنية. التي ينبغي التعامل معها وفتح بعض الممرات بها..


-5-

كانت برلين هيسرةالصراع ما بين حلفي وارسو والناتو، حيث كان شطري المدينة متكاملا مع بعضه البعض، بشوارع ومواصلات وبنى تحتية وأنهار، وكان المواطنون يذهبون إلى أعمالهم عبر أجزاء من ألمانيا الشرقية، أو العكس. أمر كهذا لم يكن ليمضي بهدوء، بين أيديولوجيتين متناقضتين شكلا وموضوعا، فأصحاب المؤهلات العليا والحرفيون المهرة ينتقلون نحو الغرب بكل ما يعرضه من فرص، ويعيش الغرب الطفيلي على فرق العملة، والسوق السوداء، والحصول على سلع رخيصة في ألمانيا الشرقية، وهو ما يهدد اقتصاد البلاد. كذلك فإن تجربة انتفاضة برلين ظلت حاضرة بكل ما قيل أنه تحريض غربي، ودفع بعناصر ألمانية غربية، واستخدام إذاعات غربية للإعلان عن مطالب المحتجين.

قادت تلك الظروف القيادة الألمانية الشرقية في ليلة 13 أغسطس 1961 إلى إعلان بداية بناء جدار برلين، وحينما استيقظ سكان برلين الشرقية صباح 13 أغسطس، ممن كانوا يعملون في برلين الغربية، فوجئوا بمنعهم من الحركة. وفي 15 أغسطس كان الجانب الغربي من المدينة محاطا هو الآخر بسلك شائك.


في ذلك اليوم أغلقت 4 خطوط لمترو الأنفاق، و15 محطة أخرى في أماكن متفرقة من برلين الشرقية، كانت تمر فيها الخطوط الغربية. عبر محطات في الشطر الشرقي من المدينة. كذلك أخليت منازل، وأقيمت جدران أمام النوافذ التي تطل على برلين الغربية. أغلق 193 شارعا، 8 سكك ترام، وقطعت خطوط التليفون.. فقط بقيت السماء واحدة.

-6-


في ذلك التاريخ البعيد من عام 1990، وجدت نفسي في اليوم التالي لوصولي العاصمة السوفيتية،  أمام مطعم ماكدونالدز، مع بعض الزملاء من الدارسين في موسكو (وقد تمكنت إحداهن من الحصول على وجبات لنا بعيداً عن الطابور الطويل لإصابتها بإعاقة تعالج منها، تسمح لها باختصار الطوابير). كانت لحظة تاريخية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. أذكر جيداً ذلك التقرير الإخباري في نهاية الثمانينات عن مطعم ماكدونالدز الذي افتتح مؤخراً في موسكو، والضجة التي حدثت في العالم بهذا الصدد ومشهد الطوابير المهيب الذي يؤكد على "انتصار الرأسمالية!!"، كما أذكر غورباتشوف والبيريسترويكا وأجواء الحرية أو ما بدا آنذاك إنه حرية في فضاء أوروبا الشرقية أعقاب سقوط جدار برلين، ذلك المشهد التاريخي الذي تصدر كل المشاهد وكل الأحداثالآن أقف مع بعض الزملاء أمام ذلك المكان التاريخي .. مطعم ماكدونالدز الأول في الاتحاد السوڤيتي في ميدان بوشكين.

-7-


لقد راح ضحية محاولات الهروب عبر جدار برلين ما بين 13 أغسطس 1961 و9 نوفمبر 1989 زهاء 645 إنسان. كان كل منهم يسعى نحو حلم الحرية، تلك الحرية التي ينعم بها الآن كل سكان برلين، وكل سكان ألمانيا، وكل سكان أوروبا.. هي ذات الحرية التي ألهمت ربيعا عربيا وعالميا لا زالت فصوله تتوالى، ونعيش داخلها، دون أن يكون لدينا حتى تصور عن مآلاتها. لقد أصبحت المظاهرات تعم أجزاء مختلفة من الكرة الأرضية، من تشيلي والبرازيل وفنزويلا عبر فرنسا وانتهاء بلبنان والعراق، مطالب مختلفة يجمعها قاسم مشترك هو محاربة الظلم والتهميش والفروق الاجتماعية الصارخة، إلى أين يسعى هؤلاء، أي جدار يود الإنسان أن يحطمه هذه المرة.. ألم تكن الحرية هي ما يسعى إليه؟ أي حرية؟ وما كيفيتها؟ وما آليات الوصول إليها؟ وما واقعية هذه الآليات؟ هل اتفقنا أولا على معنى لتلك الكلمة الغامضة”: 

الحرية!

-8-

أمام ذلك الماكدونالدز أحسست بعبثية شديدة.. هذه إذن هي! هذه هي الحرية، حرية اقتناء الجينز، وتجربة الوجبات السريعة. هذا ما كانوا يبحثون عنه.. أمن أجل هذا مات 645 إنسان، حاولوا الوصول إلى ماكدونالدزذلك الوقت في الغرب؟ توالت المشاهد، والمظاهر، وعبر 6 سنوات من الدراسة في الاتحاد السوفيتي ثم روسيا، تبدد معنى تلك الحرية أمام الشعب السوفيتي/الروسي، وظهرت ولا زالت تظهر معان أخرى للحرية. لكنها، وكما اتضح ويتضح فيما بعد، حمالة أوجه. ملونة.. مختلفة.. يختلف شكلها ولونها ومعناها استنادا إلى حيث تقف وتشاهد. فلا أحد حقا يعرف من كان أكثر حرية على جانبي جدار برلين..

-9-

بعد سيجارة الاصطباحة المطلة على نهاية العالم، التقى عجر بعد صلاة الجمعة بالمعلم محمود القرش الذي يعمل عجر لديه في بيع الحشيش، كان الموضوع الهام الذي طلبه المعلم محمود للحديث بشأنه هو تلك الهوجة الجديدة التي تصطنعها الحكومة برغبتها في هد الجبل، تريد الحكومة هد الجبل لمحاصرة تجار الحشيش.. هكذا أخبره المعلم محمود، الذي عرف بموضوع الحائط الأيوبي، وتصور أنها مجرد ذريعة لفتح الحارات المجاورة للجبل، حتى تتمكن الحكومة من السيطرة عليها.. لاشئ يمكنهم فعله، فالأوامر من أعلى عليين، وحتى البهوات الكبار ممن يساعدون المعلم محمود أحياناً في الداخلية أخبروه بعجزهم الكامل عن مساعدته هذه المرة، فتلك ليست حملة ضد تجار بعينهم، وإنما هو مشروع قومي اصطدم باكتشاف أثري ولاشئ يمكن فعله.

-10-

بعد واقعة الماكدونالدز، اعتزلت المصريين والعرب، لا أدري لماذا.. كان إحساسا دفينا أخجل منه كلما تذكرته، ولكن علي أن أعترف به: كنت أحس أننا العرب نبحث عمن هو أفقر أو أدنى منّا لنمارس عليه تعالينا، وفوقيتنا البغيضة. لسبب ما كنت أحس بتعال من جانب العرب على السوفيت! لماذا؟ كيف؟ ثم أين العرب من دولة عظمى كالاتحاد السوفيتي (هكذا فكرت). على المستوى الشخصي كانت تلك مشاهداتي، وأظن أنها كانت مرتبطة بدائرة محدودة من الفشلة أبناء وبنات كوادر الأحزاب الشيوعية في منطقتنا البائسة، ممن تمكنوا من خلال آبائهم وأمهاتهم من الحصول على فرصة للتعليم العالي، لم يكونوا ليحصلوا عليها في أوطانهم. فجاءوا بالعملات الصعبة ليتعالوا على مواطنين كانوا يقطعون من ضرائبهم ليعلموهم. ربما كان هو السبب لاعتزالي التعامل مع العرب طوال فترة دراستي بالكونسيرفاتوار.

-11-



"السيد غورباتشوف، فلتهدم هذا الجدار".. هكذا طالب الرئيس الأمريكي، رونالد ريغان، سكرتير الحزب الشيوعي السوفيتي، ميخائيل غورباتشوف، في 12 يونيو 1987، بهدم الجدار الذي كان رمزا للحرب الباردة، ورمزا للصراع الأيديولوجي والسياسي بين حلفي وارسو والناتو، تابع ريغان: سمعنا أن هناك سياسات جديدة في موسكو للإصلاح والمصارحة، وتم الإفراج عن عدد من المعارضين السياسيين. لم يعد هناك تعتيم على وسائل إعلام أجنبية، وسمح لبعض المؤسسات الاقتصادية بالعمل بحرية بعيدا عن السيطرة الحكومية.
لقد التزم الناتو بعد الحرب العالمية الثانية بعدم التمدد شرقا. وعلى الرغم من ذلك فإن عدد الدول في حلف الناتو قد زاد منذ ذلك الحين من 12 دولة إلى 29 دولة. ويسعى الناتو اليوم بنجاح منقطع النظير للسيطرة على أوكرانيا على بعد 600 كلم فقط من الكرملين.

-12-

انتهيت من الدراسة في الكونسيرڤاتوار وحصلت على درجة الماچستير، وعينت معيداً في جامعة أمريكية، ثم عدت للقاهرة وكان من نصيبي أن أعمل مترجماً لفلاديمير مينشوف، وفيرا ألينتوفا.. المخرج وبطلة فيلم "موسكو لا تؤمن بالدموع" بعد مرور عقدين من المرة الأولى التي شاهدت فيها هذا الفيلم في برنامج درية شرف الدين..رأيته آنذاك ولم أستوعبه جيداً. كان علي أن أمر بتجارب كثيرة، وأعيش في ظروف مختلفة، كان لابد وأن تفوتني عربات قطار كثيرة حتى أستوعب هذا الفيلم.  

-13-

بعد عدة أشهر، وبعدما بدأت المعدات في شق الممرات الذي وقع أحدها من نصيب حارة عجر دخلت الشمس من شرق الحارة للمرة الأولى ربما منذ قرون، بعدما كانت الشمس تسطع على الحارة في وسط النهار وحتى الغروب..فتحت الحارة، وأصبح للعالم امتداداً من الجانب الشرقي للحارة، ولم تعد الحارة كما تعود أهلها عليهاحارة سد، أصبحت الحارة ممراً بين الشرق والغرب، وخرج أهل الحارة من شرقها ليشاهدوا عالماً لم يروه من هذا الجانب من قبل، اختفت الأساطير الخاصة بالجبل، ولن تتذكرها الأجيال الجديدة، بل سوف تتذكر الشمس التي تشرق صباح كل يوم من خلف جبل المقطم، وسوف يصبح من الصعب على عجر أن يستمر في بيع الحشيش اعتماداً على ناضورجية أول الشارع، وسوف تستيقظ سماح صباح الجمعة فتنشر ملاءات السرير في الشمس بعدما دبت الحركة في الحارة، ووجد حنفي عملاً جديداً في ترميم الحائط الأيوبي، وتلونت حياة الحارة بألوان جديدة..

ليلا، حينما يخلد صغيراي إلى النوم، بعيدا عني، أفكر في الجدار العازل بيني وبينهما. ليس جدار الجغرافيا أو التاريخ أو الثقافة.. إنه جدار الزمن الذي لا يحطمه أحد، جدار آخر يتحرك في صرامة وتؤدة نحو مصير محتوم، ونهاية مؤكدة. تحطم جدار برلين منذ 30 عاما، وبتحطمه ظهرت في هذا العالم جدران كثيرة أعلى وأصعب وأعتى.. كان جدار برلين رمزا لستار حديدي، وكان سقوطه إيذانا ببدء عصر الحرية، ونهاية الصراع.. لكن صراعات جديدة أكثر شراسة اندلعت في أماكن متفرقة من العالم، حتى بتنا نتوق لذلك الصراع المبدئي الساذج بينما انقسم العالم لشرق وغرب، وانقسمت الأحزاب ليمين ويسار.

ربما كان ذلك وهما نظنه! فالعالم والأشياء على أية حال تنقسم في كل الأزمان إلى خير وشر استنادا إلى موقعك من المشهد.




Comments

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة