التينور المصري الأصيل رجاء الدين في موسكو





1

الروس عندهم حاجة اسمها "أرتيست، والضغط في الكلمة على حرف الياء. مش زي الكلمة الانجليزي "آرتيست" حيث الضغط على حرف الألف الممدودة. والكلمتين دول مختلفين تماما في معناهم عن بعض، يعني الروسي لما بيقول "أرتيست" بيبقى قصده على فنان الأداء. الشخص اللي بيخرج على المسرح، بصرف النظر بيعمل إيه: بيمثل، بيعزف، مونولوجيست، حتى فنان السيرك. أي فنان أداء عند الروس هو "أرتيست". بينما الانجليز لما بيقول لك "آرتيست" بيبقى قصده على الشخص اللي بيمارس "الآرت" Art، يعني الفن يعني. أي فن وكل فن.

الروس عندهم بقى حاجة تانية إسمها خودوجنيك بتعطيش الجيم، ده الفنان التشكيلي تحديدا. الفرق ما بين الأرتيست والخودوجنيك عند الروس هو العلاقة بالزمن.
فن الأداء هو دالة في الزمن بالمعنى الهندسي للكلمة، بمعنى إنه فن بيبدأ وينتهي.. المزيكا المسرح السيرك أي فن أداء له بداية، وله نهاية.. يتسجل، يتصور، يتدون ماشي، إنما في لحظة العرض هو بيبتدي وينتهي.
الفن التشكيلي مش دالة في الزمن، الفنان بيرسم اللوحة، واللوحة بتفضل ثابتة ما بتتحركش. 
ولكن.. أحيانا الروس يقول لك على بعض العظماء من فناني الأداء إنه خودوجنيك، بمعنى إنه حوّل فن الأداء من دالة في الزمن، لحالة ثابتة مع الزمن.. وده بيحصل لما بتسمع حفلة، وعمرك ما بتنساها، وحياتك تتحول لما قبل وما بعد، أو تقابل فنان أداء، ممثل، عازف، وتسمع في عزفه حاجة عمرك ما تنساها بعد كده. ده الروس بيقولوا عليه خودوجنيك، لإنه عمل زي الفنان التشكيلي ورسم لنا بالصوت لوحة زي ما تكون ثبتت في وعينا، وعمرنا ما نسيناها.
ده في المطلق..

2

الفن مشكلته الأساسية إنه مش موضوعي. الفن ذاتي.. يعني إيه؟
يعني إذا كان 1+1=2 في الرياضيات والفيزياء والميكانيكا البحتة، لإنها علوم موضوعية. وما حدش يقدر يستجري يهدم القواعد اللي اتبنت عليها الحضارة البشرية، ففي الفن: 1+1 ممكن يبقى أي حاجة.. مش بس إن الناتج ممكن يكون 5 ولا 6 ولا حتى مليون.. إنما الناتج ممكن يبقى بطاطس أو طيارة أو العولمة مثلا! يعني إيه برضك؟
يعني فيه حاجات ممكن أكون أنا شايفها عظيمة، وحضرتك شايفها أي كلام.. بل إن فيه فنانين أنا أبقى شايف إنهم ما يسووش نكلة، وحضرتك تبقى شايفهم أعظم من أنجبت البشرية.. 
وعليه فطبعا بتدخل حسابات تانية في تقييم الفنانين.. مش في الشرق الأوسط، إنما عموما في العالم.. يعني فلان بيحب فلان أو فلانة، قوم يجامله ولا يجاملها، فلان بينام مع فلانة، قوم تاخد الدور الفلاني إلخ إلخ إلخ. دي حاجات منطقية وتاريخية قديمة كلنا عارفينها.
اللي يفرق عندنا في الشرق الأوسط البائس، هو إن يدخل على اللعبة دي حاجات تانية بقى خالص.. بمعنى إنك ممكن تبقى قريب فلان في الحزب الفلاني، أو ابن اخت عمة خال نسيب ترتان الترتاني، قوم بقدرة قادر تتعين رئيس الفرقة الفلانية، وإنت ما معاكش حتى شهادة توحد ربنا. وممكن تبقى فنان نص لبة خالص، يعني يا دوب بتفك الخط، ومستواك تعبان، وصوتك نشاز، وما عندكش لا تكنيك ولا ثقافة ولا أيتها حاجة بتاتا، ومع ذلك تبقى ملء السمع والبصر، مش بس كده.. ده نظرا لإن عندنا التعليم الموسيقي والفني بعافية حبتين، هتبص تلاقي الناس كمان مش مقدرة حتى إن اللي هي سامعاه ده نشاز وقرف، ومش هيفرق معاهم.. بمعنى شوية تلميع، على صور حلوة، وفيديو كليب تبقى فل الفل. والاستوديوهات موجودة ونقدر نلعب في أي نشاز.
اللي عايز أوصل له.. هو إن مسألة الموضوعية والمعايير دي في الفن عملية نسبية جدا، وبتفرق من مكان لمكان، ومن مجتمع لمجتمع. 

3

الأسبوع اللي فات يمكن كان أهم أسبوع عدى عليا من ساعة ما جيت موسكو أغسطس 2017. في أول الأسبوع كنت عارف إن الزميل الفنان/ رجاء الدين، التينور المصري الرائع اللي بيدرس في إيطاليا وبيشتغل في أوروبا، وبيغني في حتت كتير، وليه فيديوهات منتشرة على اليوتيوب للي عايز يتفرج رجاء الدين بيعمل إيه. وأنا بالصدفة الأسبوع اللي فات كنت اتطردت من الفيسبوك، وما بقاش عندي مجتمع دوشة ومزعج موجود وعايش معايا كل يوم. طبعا شعور وحدة فجائي وأحيانا مرعب.. بس أنا دايما عندي المزيكا، وفيه برينتر باطبع عليه النوت اللي أنا عايزها، وباعزف اللي أنا عايزه في الوقت اللي أنا عايزه، وباذاكر لمزاجي الخاص مش لحفلة أو أي حاجة تانية. المهم قلت طالما رجاء الدين جاي، أطلع آريا لينسكي من أوبرا يفغيني أونيغين اللي أنا لسة مترجمها لسلسلة روائع المسرح العالمي الصادرة عن المجلس الأعلى للثقافة والآداب والفنون في الكويت، وأذاكرها، نتقابل ونمزّك سوا في قعدة في البيت ولا حاجة. هو لو مش مخلصها، نقراها سوا، ولو مخلصها، نستمتع بيها  سوا، وننبسط بالآريا وخلاص. سألت رجاء الدين، طلع يعرف الآريا.. قلت خير وبركة.
صادف إن فيه برنامج عندنا في القناة كان مهتم بتصوير رجاء الدين، وأنا لسبب ما فكرت إننا ممكن نعزف الآريا دي مش في البيت إنما في قعدة في الكونسيرفاتوار مثلا، طلبت إن معدة البرنامج تتواصل مع حد في الكونسيرفاتوار، ما عرفوش، وبعدين الصديقة العزيزة المعدة، تواصلت مع متحف فيودور شاليابين في وسط موسكو، ووافقوا إننا نعزف عندهم، وصورنا الآريا .. بس قبل ما نصور عرفت حاجة كانت من العلامات اللي أثرت فيا جدا الحقيقة.

4

أول ما قعدت على البيانو في المتحف، الشخص المنسق لزيارتنا للمتحف قالت لي كام معلومة عن البيانو: قالت لي البيانو ده من سنة 1910، وعزف عليه في يوم من الأيام سيرغي راخمانينوف وهو بيصاحب فيودور شاليابين. للأسف أنا مش من نوعية الناس الرومانسية بتاعة اتنفضت ساعتها واترعبت من العزف على البيانو ده ولا حسيت بمناجاة سيرغي راخمانينوف من داخل أوتار البيانو.. الحقيقة كل ده كلام فاضي فعليا يعني. البيانو آلة ميكانيكية، وبتقدم.. بمعنى العزف على بيانو شتاينواي آند صانز جديد أفضل بكتير طبعا من العزف على بيانو عمره أكتر من 100 سنة. الوضع مختلف بالنسبة للكمان، بس البيانو بيقدم، وصوته ما بيبقاش أفضل. نهايته. 



اللي حصل لي تحديدا، هو إني كنت حاسس بحالة ثبات الفن اللي خلت من واحد زي شاليابين، على الرغم من إنه فنان أداء، وفنان أداء فقط، يتحول لحالة مش لفن عابر بيبدأ وينتهي، وإسم راخمانينوف اللي لما يتذكر قدامك في المناسبة دي، يخليك حاسس إنك حرفيا في محراب ما، وإنك بالصدفة لقيت نفسك في وسط المعمعة، وبتبيع مية في حارة السقايين وده اللي عايز أتكلم عنه في النقطة اللي جاية.

5

اليوم اللي بعده، حفلة رجاء الدين في بيت الموسيقى، ودي مؤسسة حكومية ضخمة، اتعملت علشان عيون فلاديمير سبيفاكوف، من أفضل عازفي الكمان والقادة في القرن العشرين، وأحد رواد الثقافة والفنون في روسيا. المؤسسة دي عاملة زي الأوبرا بتاعتنا في مصر بس على صغير. 3 قاعات، وكلها مخصصة لفنون الأداء، باستثناء قاعة اسمها القاعة المسرحية غالبا مخصصة لفنون المسرح أو أوبرات صغيرة أو حاجة زي كده. المؤسسة دي عاملة زي الفيلهارمونيا، بمعنى إنها معنية بالموسيقى الآلية مش الغنا ولا الإنتاج المسرحي أو الأوبرالي أو الباليه.
كون إن رجاء الدين يدخل المؤسسة دي، دي مش أول مرة رجاء الدين جه موسكو السنة اللي فاتت، وغنى دور في أوبرات صغيرة، مش بس يدخل المؤسسة، إنه يشيل حفلة بالكامل، بمعنى يبقى هو الإسم الأساسي في الحفلة، هو الصوليست بتاع الحفلة قولا واحدا، ويتكتب عنه في التقديم شعر، ده ف حد ذاته ولوحده كده إنجاز.. 
الحاجة التانية الملهمة جدا، أداء رجاء اللي كان عامل زي اللي داخل أوضة النوم بتاع بيتهم، أنا متأكد إنه كان متوتر زي أي فنان، وعنده درجة من رهبة الخشبة، وكل الكلام الشاعري الجميل ده، بس الحقيقة إحنا في القاعة كان عندنا تصور كده، إن ده فنان اتولد علشان المسرح، المسرح هو بيته، ومكانه الحقيقي، والمكان اللي هو بيحس فيه بإنه على طبيعته أكتر من أي مكان تاني. خرج الأستاذ رجاء، وطبعا مش عايز أقول لك القاعة (اللي كان متباعة بالكامل) كان رد فعلها إيه على الآريات الطلياني، ولا الأغاني النيوبوليتانية الشهيرة.. بس الإنجاز الحقيقي من وجهة نظري، ودي اللحظة اللي حسيت فيها بفخر شديد، هي الآريا بتاعة لينسكي، ورد فعل الجمهور على تطاول رجاء على صميم الثقافة الروسية.
رجاء الدين غنى لينسكي بصوت طلياني، يعني مش على هوى الروس قوي. الروس طول عمرهم مش هيحبوا لينسكي الطلياني.. شوستاكوفيتش مرة كان بيتكلم عن المايسترو الطلياني الشهير أرتور توسكانيني، بعد ما قاد السيمفونية الخامسة أو السابعة مش فاكر، وشوستاكوفيتش حضر الحفلة، وما عجبوش، وشافه سطحي وتافه! لينسكي بقى حاجة تانية أعمق وأصعب وأبعد تاريخيا.. ده لقاء اتنين عمالقة حقيقيين في الثقافة الروسية: ألكسندر بوشكين وبيوتر تشايكوفسكي، مش بس كده، ده نفس مصير لينسكي في الأوبرا، هو بعد كده مصير بوشكين في الحقيقة، إلى جانب حكاية تشايكوفسكي أصلا مع المعاناة والألم وتجسيده لكلمات بوشكين:

ترى أين
أين
ذهب ربيع أيامي الذهبية؟
ترى ما يخبئ لي اليوم القادم؟
لا يتمكن بصري من رؤية الغيب
يبدو مختبئا وراء ضباب حالك
لكن قانون القدر حاكم
ترى هل أقع برصاصة نافذة؟
أم تمر الرصاصة بجانبي؟
لكل الطيبات في الوعي أو المنام نهاية
ساعة محددة للنهاية
فتبارك يوم الهموم 
وتبارك مجئ الظلام!
يتلألأ شعاع اليوم الجديد
وتتضح معالم اليوم المشرق
وأنا قد أكون مثل قبر
أختفي وراء ظلال غامضة
ويبتلع الصيف البطئ
ذكرى الشاعر الشاب
فهل ينساني العالم، وأنت..
أنت.. أولغا…
قولي لي، هل تأتين، يا فتاتي الجميلة،
لتذرفي دمعا 
على قبري المبكر
وتفكرين: لقد أحبني،
ووهب لي وحدي
شروق حياته المأساوية العاصفة!
آه، أولغا، كم أحببتك
ووهبت لك وحدك
شروق حياتي المأساوية العاصفة،
آه، أولغا، كم أحببتك!..
رفيقي الحبيب، رفيقي المرغوب،
تعالي، تعالي!
تعالي، يا رفيقي المرغوب، فأنا رفيق دربك!..
تعالي: فأنا رفيق دربك!..
تعالي!.. تعالي!..
ترى أين
أين
ذهب ربيع أيامي الذهبية؟

اللي عايز أقوله بقى هو إن رد فعل الجمهور الروسي على غنا رجاء كان مذهل بالنسبة لي شخصيا. دي آريا معروفة، وغناها طوب الأرض من أول ما اتعملت لحد يومنا هذا. وكون إن شاب مصري يجي من القاهرة لمدينة جنوة الإيطالية، ويدرس على إيد أستاذة إيطالية، ويعمل صوت معتبر، ويتعلم الآريا دي، وييجي يغنيها في عقر دار الروس ذات نفسهم، هي دي حقيقة المية اللي بتتباع في حارة السقايين، ليه؟
لإن عظمة الجمهور الروسي في إنه صادق. بمعنى اللي ما بيعجبوش بيدي له على دماغه ما بيهموش. وممكن ما يصقفش عادي جدا، ومش أي حد يدخل قلبه بسهولة إلا لو كان حقيقي وصادق. وهو ده اللي الناس شافته في لينسكي بتاع رجاء الدين. صحيح بعض الكلمات ما اتنطقتش زي ما الروس متعودين، صحيح فيه بعض الاختلافات الثقافية ما بين المدرسة الإيطالية والمدرسة الروسية، إنما في النهاية المعنى والطاقة وصلوا، ووصلوا لدرجة إن الناس فضلت تصقف له كتير تحديدا بعد الآريا دي. عرفانا منهم بإنه قادر إنه يخاطبهم بلغتهم الثقافية، بدرجة مبهرة من الاحترافية.

6

رجاء خلاص ما بقاش في مصر، رجاء الدين بقى في الدنيا، ما بقاش أعظم مغني، ولا بقى عالمي، ولا الــ تينور المصري، ولا أفشخن وأفطحل وأعلى وأوسع وأكبر وأضخم.. رجاء بقى تينور وكفى.. رجاء مغني كويس بمعايير أوروبا، والأهم بمعايير روسيا، وف يوم من الأيام إن شاء الله هيغني على البولشوي، والأهم إنه يغني على خشبة المارينسكي في بطرسبورغ. ما بقاش مهم فيه حد هيعزم رجاء ينزل يغني في الأوبرا ف مصر ولا لأ، وما بقتش تفرق قوي هيغني مع أوركسترا القاهرة السيمفوني في حفلة الكريسماس اللي جاي ولا لأ. رجاء الدين بقى ف حتة تانية، وبيتحرك في اتجاه محدد.. اتجاه حقيقي جدا، وواضح جدا.
رجاء الدين بيشتغل، وعايز يشتغل، وبيتحرك بأقصى سرعة يقدر عليها علشان يعوض اللي خسره قبل كده لحد ما يوصل لإن يبقى عنده صوت، طريقه مفتوح، طريق حقيقي، مش طريق مليان شهادات وألقاب ومناصب.. هو ده اللي الناس بتسمعه في روسيا، الفن الحقيقي.. مش الفن بتاع الفنانين العالميين اللي ياما سمعناهم على خشبات مسارحنا.

7

أنا كنت فخور جدا ورجاء الدين على المسرح، إني عزفت معاه اليوم اللي قبليها في متحف شاليابين، على البيانو بتاع شاليابين، اللي ف يوم من الأيام عزف عليه رخمانينوف. كان نفسي أكون على الفيسبوك علشان أشارك التجربة دي مع أصدقائي، بس أتمنى إن صوتي هيوصل لهم على أي حال، وهيحسوا باللي أنا حسيته وأنا باسمع زميلي الموسيقي المصري (مش العالمي)/ رجاء الدين. أتمنى إن رجاء الدين في يوم من الأيام يتقال عليه هنا في روسيا خودوجنيك.. لقدرته على خلق حالة بتقسم الزمن لما قبل وما بعد.

عاش يا رجاء.. ربنا يوفقك!

Comments

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة