الفيسبوك - الحلقة الثالثة


شرطي المنطقة

كنت ف ذات مرة رايح الولايات المتحدة الأمريكية من 3-4 سنين، وأمريكا دي ليها حكاية معايا، لازم أحكيها علشان نعرف خلفية علاقتي بأمريكا، مش بس لإنها معقدة حبتين، إنما لإن أمريكا نفسها جزء مؤثر في حياة العالم كله، وهي المجتمع اللي خلى واحد زي تسوكيربرغ ينفذ فكرته العبقرية. بمعنى إن تسوكيربرغ بشكل من الأشكال هو نتاج ثقافة أمريكية، والثقافة الأمريكية زي ما زكي نجيب محمود الله يرحمه كان بيحب يتكلم عنها، بتعتمد على الوحدات اللي بتتكرر بانتظام وتشابه لعدد لا نهائي من المرات، وكان جايب تحديدا تلات أمثلة: ناطحات السحاب، موسيقى الجاز، اللبان (أيوه أيوه العلكة/اللبان!). وكانت وجهة نظره إن دي تلات حاجات بتعبر عن الفلسفة الأمريكية اللي بتعتمد على تكرار وحدة واحدة، بلوك واحد، بانتظام وتشابه مطلق، وده ميزته الحقيقية إن الوحدات بتركب على بعض من غير أي مجهود، لإنها منتظمة، ولإن ما فيش "إبداع" ولا ضرورة في تغيير أي أبعاد (بالطبع كل وحدة ليها خصوصياتها الداخلية، إنما الأبعاد الخارجية/آلية الحركة/ في إطار الوحدة/المازورة الواحدة ما بتتغيرش).

1

لما جالي الجواب بتاع قبولي في جامعة كونيتيكت من أمريكا، يا سلام على السعادة اللي كنت فيها. كان موقف كلاسيكي جدا. تخيل كده حضرتك يا أخ منعم، إني بعد ما ربنا كرمني، وسبت كلية الهندسة، خدت بعضي ورحت على الاتحاد السوفيتي العظيم، اللي انهار بعد ما وصلت بسنة واحدة.. ولك أن تتخيل منظر انهيار كيان ضخم وعظيم بالمنظر ده، بمعنى إننا قاعدين لسه نتندر على 2011، وكان بيحصل وبيحصل، ولما جم الأخوان، ولما مشيوا الأخوان، والاقتصاد والعيشة واللي عايشينها. وكل ده إحنا بنتكلم عن مصر.. اللي عدد سكانها 100 مليون، ومساحتها مليون كلم مربع تقريبا. تصور بقى الاتحاد السوفيتي 286.7 مليون نسمة، عايشين على 22.4 مليون كلم مربع (يعني ⅙ مساحة العالم)، تصور إيه اللي حصل له ساعتها.. أهو أنا بقى وصلت الاتحاد السوفيتي في عز المعمعة دي. وبالتالي الجو اللي كنت موجود فيه، مع ظهور بوريس يلتسين على الساحة، والسياسية اللي حرفيا "بتريّل" على الغرب، وحرية الغرب، وجمال الغرب، وإوعى الديمقراطية يا واد، حاسب عالحرية لتطرطش يا واد.. جو من الهبل عالشيطنة على الحرية فعلا، على الانتهازية، على الطفيلية، على الجشع اللي ما لوش حدود ولا سقف، على الإبداع برضك، على ستين ألف حاجة ظهرت في نفس الوقت.. بس اللي ظهر في نفس الوقت، وكان من حسن حظي إني كنت موجود في دوايره، هو "أمريكا" من وجهة نظر المواطنين السوفييت، و"أمريكا" من وجهة نظر روسيا اللي انفصلت عن الاتحاد السوفيتي، واللي كل مواطن فيها بقى بيجري على أكل عيشه، وبيحاول يقلب رزقه بالطريقة اللي يشوفها مناسبة.
كنت في اللحظة دي، وتحديدا سنة 1991 تقريبا اتعرفت على صديق عمري فيليب يويل، أمريكي من أب زنجي وأم نرويجية. مثال حقيقي لكل حاجة أعرفها عن أمريكا، فيه شبه من أوباما كده، اللي تحس كده إنك مش عارف هو مين ولا إيه ولا تتعاطف معاه، ولا ما تتعاطفش، ومزيج من الإعجاب الشديد، وفي نفس الوقت، إزاي نبقى أصحاب وهو أفكاره مختلفة للدرجة دي، وساعات تحس إنه مش فاهم حاجة في الدنيا دي، وساعات تانية تحس فيه بدرجة حكمة واقعية عظيمة جدا، العلاقة دي اللي فضلت موجودة من 1991 لحد النهاره، في منتهى الغرابة، وأهم حاجة فيها حقيقي "الديمقراطية" و"الحرية"، لإننا مختلفين تماما، وعارفين الخلاف ده موجود فين، بس لقينا مساحة مشتركة بنتحرك فيها، ومتصاحبين فيها، وعندنا تاريخ مشترك، واهتمامات مشتركة، لإني قابلت فيليب يويل في الكونسيرفاتوار ف مدينة لينينغراد اللي اتحولت بعد التاريخ اللي قابلت فيليب فيه بسنتين لـ "بطرسبرغ".
الدواير اللي باتكلم عنها هي دواير الأجانب، وتحديدا الأمريكان. فيليب لقى شغلانة في القنصلية الأمريكية وبقى بيشتغل هناك، وبالتالي بقينا بنتحرك في دواير السفارة أنا وهو، بنروح حفلات، ولينا أصدقاء من السفارة، غالبا موظفين، وأحيانا دبلوماسيين. نهايته، وده الأهم، حوالين الدواير دي كان فيه روس، وكنت باشوف في عيون الروس الإعجاب الشديد، وغالبا (ده اللي فهمته بعد سنين)، الفضول الشديد أكتر من الإعجاب الشديد، تجاه الأمريكان، والغرب، والحضارة الغربية اللي مختلفة "عننا" في الاتحاد السوفيتي/روسيا الفقيرة المنهكة اقتصاديا، اللي ما حدش عارف هتقوم إمتى، ولا هيحصل فيها إيه (1991-1992).
علشان كده لما جاني جواب التعيين في الجامعة الأمريكية سنة 1997، بعد ما خلصت الدراسة في الاتحاد السوفيتي/روسيا، كان يوم المنى والهنا وتحقيق الأمنيات البعيدة. أخيرا هاروح أمريكا بشكل رسمي فهمي نظمي، وأتعين معيد في جامعة محترمة، وأعيش العيشة اللي كل الناس بتحلم بيها.

2

قبل ما أروح صديقي فيليب كان بيبعت لي من أمريكا المراسلات اللي المفروض إنها بتتم ما بيني وما بين الجامعة، هو كان سبقني وبيدرس دكتوراه في جامعة ييل العريقة، الجامعة بتاعتي كانت في نفس الولاية (لإني رحت أمريكا أصلا بنصيحته ومساعدته)، كان فيه دايما كلام عن "صندوق البريد بتاعي".. وأنا ما كنتش فاهم يعني إيه، وده عبارة عن إيه.
وصلت عند فيليب، مدينة نيوهيفين، والمفروض من هناك أروح لمقر الجامعة في ستورز. تمام! هنروح إزاي يا عم فيليب؟ قعدت أدور على القطر، ما فيش قطر، طيب الأتوبيس، قال لك تاخد أتوبيس لحد عاصمة الولاية هارتفارد، ومن هناك تاخد أتوبيس على ستورز، والموضوع ده ياخد 4-5 ساعات، والطريق أصلا ما ياخدش ساعة ونص على بعض.. طيب ما فيش مواصلة مباشرة ليه؟ قال لك: أصل احنا في أمريكا يا إما بنسوق يا إما بنطير، يمعنى إن معظم الناس معاها عربيات، وبالتالي ما فيش طلب على الخط ده، الخط اللي ممكن يكون عليه طلب من الغلابة، ودول أقلية ومقرفين وما لهومش حق في أيتها حاجة أصلا، هو الخط ما بين عاصمة الولاية وكل المدن.. إنما هنقعد ندور على شبكة، ونربط كل المدن ببعض.. إنت عبيط؟
طيب هنعمل إيه، أنا عايز أروح الأول أشوف الجامعة، وأشوف هاعمل إيه في دنيتي هناك، فيليب عرض عليا إن هو يوصلني الصبح، ويسيبني، وأنا ومصيري. يرميني في الجامعة بشنطتي وعزالي وكل ما أملك، وأنا مني للجامعة بقى وخلاص. 
دخلت على الموظفة، لقيتها بتوريني "صندوق البريد بتاعي" في أوضة صغيرة كده فيها صناديق بريد لكل المعيدين وهيئة التدريس، وفهمت إن فيه مراسلات كتير واصلة عليه، وأنا ما عنديش فكرة عن إيه اللي بيحصل. طيب مش هو ده المهم.. المهم هابات فين الليلة دي.
لا هي تعرف، ولا حد يعرف، طيب إنت قدمت على سكن، لأ؟ أقدم فين وإزاي؟ طيب ما احنا بعتنا لك؟ فين؟ عالصندوق؟ طيب ما انتوا عارفين إني مش موجود. لأ إحنا ما نعرفش حاجة، كل واحد هنا يعرف شغله وبس.
المهم سألتها طيب الأوتيلات، قالت لي السكرتيرة فيه أوتيلات، سألت على أوتيل لقته بـ 150 دولار، وأنا كل اللي ف جيبي أول عن آخر كان 600 دولار (تصور كمان يا أخ منعم لو كنت سمعت كلامها وبت ليلتها ف الأوتيل الفخم اللي هي بتفاهتها ما كانتش تعرف غيره!). 
نهايته دلتني على إدارة تسكين الطلبة، ورحت هناك، الموظفة قالت لي إني كان المفروض أقف في طابور علشان التسكين في المدينة الجامعية، بس فيه فندق للطلبة، بكام؟ بـ 14 دولار في الليلة. قلت تمام التمام كده، قضيت، وأقلها هالاقي حتة أتاوى فيها لحد ما ألاقي مكان أعيش فيه.
خد بالك من الفرق ما بين الـ 150 دولار والـ 14 دولار!! وإزاي إنك في أمريكا حر.. حر بمعنى إنك حر تعمل اللي إنت عايزه، والتانيين كمان أحرار في إنهم يستغلوك، ويستغلوا جهلك وفقرك وضعفك ومرضك.
نهايته البنت اللي في إدارة التسكين كانت لطيفة جدا، ويا دوب وصلت الفندق بتاع الطلبة، كلمتهم علشان يبعتوني ليها تاني، علشان لقيت لي أوضة في المدينة الجامعية. بكام؟
قالت لي مش فاكر بـ 900 دولار باين في الفصل الدراسي.. بس أنا ما معاييش يا زميلة! قالت لي ولا يهمك، إنت بس لما تسجل نفسك في الجامعة، هتقول لهم، قوم يخصموا لك من المرتب. 
في ساعتها كده، وقد كان.. وهنا الجانب المشرق من القضية، إن الإداريات والتسجيل، والبنوك، والتحويل، والخصم، والضرايب كلها حاجات بتخلص في دقايق، وفي لحظة بتبقى موجود "على السيستم"، وخلصنا من اللحظة دي. إنت مواطن، وليك نمرة، وانتهينا.
وقد كان وحصل وبتّ ليلتها في أوضة في المدينة الجامعية، وبعديها في الفصل الدراسي التاني أجرت بيت مع اتنين زملا واحدة دكتورة في الجامعة، والتاني معيد معايا. نهايته الدنيا مشيت. 
بس اللي لفت نظري ساعتها قسوة المجتمع "الحر" و"الديمقراطي"، بس في نفس الوقت حرفيته الشديدة، وعمليته، وقدرته على الإنجاز، ومرونته.. بس كل ده برضك وأنا معيد، ومتعلم، وأعرف لغة، وعندي خبرة ما.. يمكن مش كبيرة، بس في النهاية جاي لهم من أفريقيا بعد 6 سنين في الاتحاد السوفيتي/روسيا، ومعدي بدولة انهارت عمليا، ودخلت حروب في الشيشان، وساعتها كانت لسه يا دوب بتنازع.
قعدت في أمريكا سنة، وصلت لقناعة إن المكان ده مش مكاني، لقيت أمريكا ضيقة على الرغم من اتساعها، ولقيت إني مش هاعرف أروح من أمريكا لأي حتة، أنا لو قعدت يبقى هاقعد.. هاتلوي، ولساني يمكن يتلوي، وفي الآخر أبقى موظف أمريكاني، باشتغل علشان أسدد ديون، وداير في الدايرة الجهنمية اللي اتكلم عنها زكي نجيب محمود، اللي هي مش وحشة، بس مش بتاعتي.. 
هههه.. وحشة إزاي، دي المفروض إنها أكبر اقتصاد، وأكبر قوة عسكرية، وقوة عظمى يعني، ومعتبرة نفسها شرطي العالم.. 

3

فيسبوك بقى.. هو شرطي المنطقة، منطقة الفيسبوك، عنده جمهوريته الخاصة.. لأ، جمهورية إيه! دي سبعميت جمهورية ف بعض. تخيل إن عدد المستخدمين حوالين العالم 2.45 مليار، يعني حضرتك بتتكلم عن تلت سكان العالم!!
وهو ده اللي فكرت فيه اليومين دول.. وخلاني أفتكر آخر مرة رحت فيها أمريكا من 3-4 سنين. بس نفسي اتقطع من الكتابة.. 
هاكمل بكره..

Comments

  1. انا عندي سؤال بعد اذن حضرتك.انا مفهمتش وجهة نظر الاستاذ زكي نجيب محمود على ان موسيقة الچاز بتعتمد على وحدات اللي بتتكرر. شكراً

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة