الفيسبوك - الحلقة الرابعة

وعسى أن تكرهوا شيئا..

1
طول عمري وأنا برا البلد لما كنت بادرس في روسيا، وبعدين لما رحت اشتغلت في أمريكا، لو أبويا حصل له حاجة. مش عارف ليه كنت بافكر في أبويا تحديدا، مش في أمي مثلا. يمكن علشان هو كان عنده سكر، وبعدين أكبر منها في السن.. ولو إن الموضوع مش بالسن يعني واحنا عارفين.. 
نهايته هو ده الهاجس اللي كان عندي دايما. وكنت باخاف يحصل له حاجة وأنا مش موجود، مع إن الوجود من عدمه في المسائل دي ما بيفرقش كتير.. كلها طقوس واللي موجود بيسد، وما فيش حاجة بتحصل غير المكتوب، والناس لبعضيها، والدنيا بتمشي على أي حال.
المهم رجعت 24 قيراط، والحاج زي الفل، وقعدت في مصر، استقريت، واتصاحبنا، واتكلمنا، واتناقشنا، واتخانقنا، واتصالحنا، واتجوزت، وخلفت، وميت فل وأربعتاشر. 
وفي أغسطس 2008 اختلفت مع زوجتي السابقة، ورحت سايب البيت وراجع لبيت أبويا قعدت عندهم. طبعا كان صعب الواحد يرجع ويقعد مع أهله، بس أخويا أحمد كان موجود، وأمي، والحياة كانت لطيفة، وبقيت أقعد مع أبويا في البلكونة، ولما أرجع بالليل نتبادل كلمتين تلاتة.. بقيت أشوفه أكتر، وأتعرف عليه أكتر، وآخر انبساط وتكيف. لحد ما في يوم من الأيام آخر أكتوبر كده، راح للدكتور، والدكتور قال له إن صابعه دبل خلاص، وممكن نقطعه (الله يرحمه كان بيعاني من مرض السكر اللعين). يوميها بالليل قلبه عملها معاه، وجت له ذبحة صدرية.. خدناه على المستشفى (ودي حكاية لوحدها). رحنا المستشفى، وفي المستشفى قعد يومين وتوفاه الله.
قوم بعديها لما قعدت أفكر.. يا سبحان الله يا أخي. يعني ربنا يحطك في آخر شهرين علشان تقعد جنبه، وشك في وشه، ويمنحك النعمة دي، وتشبع منه كده، قبل ما يتكل على الله. ده إيه الكرم ده. ساعتها حسيت إن ربنا رتب الأمور مخصوص بالشكل اللطيف ده، اللي هو يبان من برا وكإنه مشكلة وقضية ومأساة، وانفصال، وطلاق، والواد ومش الواد، وابنك هيروح فين، والولية هتهرب بالواد، والحق دي هتعمل وهتسوي.. وكوووول الهبل ده، علشان في الآخر تقعد مع أبوك، وأبوك يشوف ابنك كل يوم والتاني، ويفرح بحفيده أكتر، وكل الليلة دي ما كانتش وحشة أبدا، على العكس تماما.. ده كل الرضا الحقيقة. حمدت ربنا، وإذا كنت مسلمه نفسي وكل حاجة في حياتي قبل كده قيراط، بقيت مسلمه كل حاجة 24 قيراط. بقيت مستسلم لقدره، علشان هو عارف أكتر مني الخير فين، وما فيش حاجة هتحصل إلا للخير. بس إحنا نرضى.

2
رجعت من روسيا وأمريكا سنة 99 تقريبا، وبعدين دخلت الأوركسترا سنة 2000 مثلا.. في الحدود دي. وأول ما دخلت الأوركسترا، كان عندي إحساس كده إني زي ما أكون رجعت روسيا تاني. كان فيه روس وأوكران كتير قوي في الأوركسترا، وحسيت كإني "في بيتي"، زي ما أكون ما سبتش الكونسيرفاتوار في لينينجراد. اتعرفت وعزفت وحبيت وكل حياتي بقت مع الروس، وكنت لسه طول الفترة دي زي ما اكون كده "ما نزلتش مصر"، قعدت في الموال ده يا معلم لحااااد 2003 مثلا، على أقل تقدير!
قاعد في مصر، بس مش في مصر. كل تعاملي مع الروس، ومعظم أصدقائي روس، وباعزف مع الروس، باكل وأشرب مع الروس. حتى ذات مرة صديقي العزيز المايسترو هشام جبر، بارفع سماعة التليفون علشان أتكلم فمش عارف كنت باكلم مين بالعربي، راح باصص لي بطريقة مسرحية وقايل: "إيه ده؟! هو التليفون بتاعك بيتكلم عربي كمان؟". 
مش فاكر إيه اللي حصل، بس غالبا كان اللقاء مع مصطفى المسلماني ألف رحمة ونور عليه، وبعدين كان الاختلاط بعمر الفيومي، وعلا عبد الرحمن، والزملا (اللي برضه خريجي الاتحاد السوفيتي بالمناسبة السعيدة)، وبعدين مكاوي والقهوة.. كان فيه مرحلة وسيطة كده من خريجي الاتحاد السوفيتي، لحد ما نزلت الشارع والقهوة وفعليا.. مصر. 
نزلت مصر بعد 2005 تماما، وروسيا/الاتحاد السوفيتي بقى مجرد ذكرى. كان لازم فيه حاجات تحصل بترتيب معين تخليني أبطل أبقى مهتم بروسيا طول الوقت، علشان أرجع أعيش في المكان اللي أنا واقعيا مش عاطفيا ولا افتراضيا عايش فيه.

3
اللي حصل مع فيسبوك حاجة شبه كده بالضبط. أول رد فعل طبعا، صدمة إنك تفقد 12 سنة من حياتك الافتراضية، ومعاها كل المعارف والأصدقاء والعيلة، (أنا دخلت الفيسبوك سنة 2007 أول ما ظهر، وبعدين كان عندي على الحساب 5 آلاف صديق، وحوالي 7 آلاف متابع). ده غير الصور اللي مش موجودة في حتة تانية غير على الفيسبوك، من حيث تجميعها وأوقاتها ومناسباتها، وغير توليفة البشر اللي اتنحتت عبر السنين دي كلها.
المهم كل ده يختفي في لحظة مساء 22 نوفمبر. انزعجت لمدة كام دقيقة كده.. بس نمت يوميها مستريح، وقلت خلاص، يبقى اللي المفروض يحصل هو إني أبطل أبقى موجود افتراضيا في حياة ناس كتير، واللي عايزني على مستوى الواقع أكيد هيلاقي طريقة وهيوصل لي. وبالمرة أفلتر كمية البشر الكتير اللي عندي على الفيسبوك، وأعرف مجموعة محدودة من الناس اللي فعليا أعرفها.
أول ديسمبر كان المفروض إني أبدأ العمل في قسم الصحافة عندنا على الموقع، وبدأت أقرا صحف روسية، علشان أترجم منها مقالات. ودي كانت حاجة كويسة جدا إني مش موجود على الفيسبوك، لإنه كان في النهاية بياخد اهتمام، وأحيانا وقت مني في الشغل. صحيح هو كان مصدر كبير للشغل، لإن كمية البشر اللي عندي، والناس اللي أنا متابعها كانت بتجيب لي أخبار باستمرار، وكنت متابع الأحداث أول بأول. إنما في النهاية، كان بيصدف تقابل حد تعرفه، حد صاحبك من عالقهوة، تتكلم، تدردش.. فيه كام ثانية، وأحيانا دقايق، ممكن تروح في القصص دي باستمرار.
نهايته.. وأنا بعيد عن العالم الافتراضي، وتحديدا بقى بعيد عن مصر، لقيت نفسي بانزل على الأرض، للواقع.. في الوقت نفسه، حصلت على الإقامة، وبقى وضعي مش بتأشيرة زي السنتين اللي فاتوا، إنما بإقامة، وبالتالي زي ما اكون كده وصلت روسيا أخيرا، وسبت مصر.. 
الشهر اللي فات، حسيت فيه إني بجد بقيت في روسيا، وخرجت من مصر.. مصر كانت محاوطاني بالفيسبوك، ودي حقيقة. أنا ما كنتش حاسس إني سافرت من مصر. بس من غير فيسبوك، أنا بقيت خلاص في روسيا.
حسيت إن كل اللي حصل ده بالترتيب ده، معناه إني خلاص لازم أسيب مصر، أنا سافرت بس عمري ما سبت مصر. ده مش معناه أبدا إني "أنسى" مصر. مصر دي حضرتك وباء يا أخ منعم. عمرك ما بتنساه، وبتفضل مريض بيه طول عمرك. بس آن الأوان الواحد يتابع الشؤون الروسية، ويشوف حياته هنا مش هناك، مش علشان حاجة، إلا علشان يكون مفيد لهناك كمان مش بس مفيد لهنا. لإن الترجمة بتتطلب إن الواحد يكون متابع اللي بيحصل هنا مش هناك.. الناس اللي هناك همه أولى بإنهم يشوفوا شغلهم اللي هناك، وأنا المفروض أنقل الصورة اللي هنا، مش أفضل افتراضيا قاعد هناك، وكإني ما سافرتش. أتصور إن هو ده الوضع الطبيعي، والفيسبوك اتقفل في التوقيت ده تحديدا علشان كده بالضبط.

Comments

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة