الحرب العالمية الثالثة بين اغتيال سليماني وهروب غصن


1

في وقت الأزمات الاقتصادية والسياسية تصبح الحرب مخرجا "آمنا"، فهي توفر الشعار الأكثر شعبية وانتشارا على مستوى العالم "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، "أمريكا/إيران/تركيا/مصر فوق الجميع"، بحيث تتماهى كافة المشكلات والأزمات الاقتصادية والسياسية، وتتحول الجبهة الداخلية إلى كتلة صلبة في مواجهة "العدو الخارجي"، الذي لم يأت من فراغ، ولكنه يبدو للحظة وكأنه "استحضر" خصيصا لهذه اللحظة التاريخية.

لا أتصور أن شيئا يحدث عرضا في هذه الأيام، فقبل اغتيال سليماني، كانت الحملة الموجهة ضد حزب الله، بالتزامن مع الحراك الشعبي اللبناني، ثم التأكيد الإعلامي على مشاركة عناصر من حزب الله في إزالة خيام المعتصمين في الحراك اللبناني، والأنباء عن مشاركة سليماني شخصيا في التخطيط لمقتل متظاهرين في بغداد، وشيطنة كافة الأذرع الإيرانية في المنطقة على نحو ممنهج، وذلك على خلفية أزمة لبنانية اقتصادية طاحنة، لا شك أنها موجهة بدرجة ما نحو إضعاف حزب الله، وإلهائه بمشكلات داخلية معقدة ومتشابكة، يأتي ذلك عقب ما يبدو أنه تجاوز إيراني للخطوط الحمراء في سوريا واليمن ولبنان والهيمنة الواضحة لإيران على بلدان في المنطقة، بعد الشرعنة الكاملة للوجود الإيراني في سوريا كضامن لعملية السلام، إلى جانب روسيا وتركيا، وخروج أمريكا من الساحة السورية، وما بدا في لحظة كانتصار روسي إيراني على المحور التركي الأمريكي، عقب اختلاف الحليفين في الناتو حول الملف الكردي، وقدرة أردوغان على إيجاد موائمات سياسية مع روسيا، ومع إيران بشأن الملف السوري (وهي الموائمات التي لم يتمكن بعد من التوصل إليها مع روسيا بشأن الملف الليبي).


2

ليلة رأس السنة، قضى رجل الأعمال اللبناني البرازيلي الفرنسي، كارلوس غصن، ليلته في موطنه لبنان، بعد أن تمكن من الهروب من السلطات اليابانية، ووصل إلى لبنان عبر تركيا، حيث فتحت القضايا، والمسائلات في اليابان وتركيا بشأن المتواطئين في هروبه، وكيفية حدوث ذلك في ظل حراسة أمنية مشددة عليه.
اعتقل غصن في مطار طوكيو، 19 نوفمبر 2018، بسبب "عدم الإبلاغ عن أرباحه وإساءة استخدام أصول الشركة"، ثم اتخذ مجلس إدارة شركة نيسان قرارا بالإجماع بعزله كرئيس للشركة في 22 نوفمبر، ثم تبعه مجلس إدارة ميتسوبيشي موتورز في 26 نوفمبر، ووقفت رينو والحكومة الفرنسية إلى جانب غصن حتى 24 يناير 2019، حينما تمت إقالته من رئاسة وإدارة شركة رينو. في 8 أبريل طرد غصن من مجلس إدارة شركة نيسان، وأطلق سراحه بكفالة 8.94 مليون دولار، بضمان محل إقامته في طوكيو، بينما سحبت جوازات سفره، حتى لا يتمكن من الهروب خارج البلاد.
حينما تطالع كم المناصب والجوائز والأوسمة والدرجات العلمية التي حصل عليها غصن، لا يسعك إلا أن تفكر في التالي: 
فإما أن كارلوس غصن هو شخص عبقري فذ وداهية تمكن من خداع كل هذه المؤسسات والجمعيات والأفراد والدول والتمتع بكل هذه المزايا والجوائز والأوسمة والاحترام الدولي.
وإما أن النظام الاقتصادي العالمي له مفاتيح للفساد، وكان كارلوس غصن يعرفها بحنكته ومعرفته بخبايا الرأسمالية العالمية وكيفية استخدام الآليات المختلفة ليس لمصلحته وحده، وإنما لمصلحة الشركات والمساهمين أيضا، فكمية النجاحات التي حققها غصن لا يخطئها عاقل.
وإما أن هناك تصفية حسابات شخصية، ولم يعد كارلوس غصن في لحظة تاريخية واقتصادية معينة مطلوبا في هذا التوقيت وهذا المكان، لسبب لا نعرفه حتى الآن. في انتظار خروج غصن إلى مؤتمر صحفي، وعد به بداية الأسبوع المقبل.
على أية حال، كانت قصة الهروب المشوقة هي الأخرى ذات طابع بوليسي لا يخلو من فساد، وقدرة مبهرة لرجل الأعمال اللبناني البرازيلي الفرنسي لاستخدام ذات القوانين التي كان يعمل بها، لصالحه، وإذا كانت الكفالة التي دفعها من أجل حريته 8.94 مليون دولار، فمن يمكن أن يرفض مبلغا كهذا، وربما أضعافه لخروج رجل بوزن كارلوس غصن كي يستنشق نسيم الحرية في ربوع الوطن!
أقول أنني أخاف من كتابة هذا السطور القادمة، وأتخوف بشدة من تساؤلاتي التي يمكن أن تكون في منتهى السذاجة: 
ترى هل كان هناك صلة ما بين نفوذ حزب الله أو نفوذ أي تنظيم أو جماعة أخرى ضالعة في وصول كارلوس غصن إلى حضن الوطن؟ بل قل، هل هناك علاقة بين الأزمة التي يمر بها لبنان، وما يمثله كارلوس غصن بأمواله وربما استثماراته أو ما يمكنه عقله الداهية من مساعدة لبنان في اللحظة التاريخية المتوترة؟ وهل يمثل نفوذ تلك الأحزاب أو التنظيمات أو الجماعات سلطة عابرة للحدود والدول والقارات، وقادرة على تنفيذ عملية تهريب بهذه الدقة والإتقان؟
لا أملك إجابة.

3

في خضم التعليقات الكثيرة التي صاحبت اغتيال سليماني، وتحديدا تعليقا على قرار الرئيس ترامب، يقول الباحث، عبده البرماوي، في مقال له على الفيسبوك، أن "قرار ترامب باغتيال سليماني جاء على الحافة ما بين السياسة الخارجية المعتمدة للولايات المتحدة الأمريكية، وبين قرار نابع من توجه شخصي"، بمعنى أن هنا "بنك أهداف مطلوبة"، يحدد توقيتها وربنا نطاقها الرئيس، استنادا لما يراه من مستجدات على الساحة. وهو ما أكده خطاب ترامب حول توفر معلومات استخبارية عن نية سليماني القيام بأعمال موجهة ضد المصالح الأمريكية، ما استدعى اتخاذ هذا القرار.
كذلك قيل في وسائل الإعلام، أن القرار باغتيال سليماني، كان موجودا على طاولة الرئيسين أوباما وجورج بوش الإبن من قبل، إلا أحدا لم يذهب إلى ذلك التصعيد من قبل، حفاظا على قنوات الاتصال مع إيران، كذلك كان من بين ما قيل، وهو الأهم.. أن قاسم سليماني كان يتحرك بين لبنان وسوريا والعراق ككتاب مفتوح، وكانت السلطات الأمريكية ترصد تحركاته كلها، وتعرف أدق تفاصيلها.
مرة أخرى نحن بشأن التوقيت.. بنفس الكيفية التي ظل بها كارلوس غصن محتفى به في اليابان وفرنسا، حتى لحظة معينة، أصبح فيها غير مرغوب فيه "الآن وهنا"، في هذه اللحظة يقرر "العقل المدبر"/"الأخ الأكبر" أنه لابد من اتخاذ إجراءات ما، وعلى الموجود في سدة الحكم اتخاذ هذا القرار بحسم "الآن وهنا"، وهو ما فعله بكل سرور دونالد ترامب، بالنظر إلى البدائل، وعينه لا تغفل عن السياسة الداخلية، ومعركته مع الديمقراطيين في الكونجرس، ففي هذه الحالة، بالنسبة لسليماني، يصبح كبش الفداء أغلى من كل سابقيه، بن لادن والبغدادي. فها هي طائرة من دون طيار تضرب جميع العصافير في طلعة واحدة. فتضرب الوجود الإيراني في المنطقة بكافة أذرعه من ناحية، وهي خدمة غير مجانية للسعودية والإمارات، وتضرب حزب الله، كخدمة مجانية لإسرائيل، وهي في الوقت نفسه إما دعوة قاسية لإيران العنيدة (على طريقة رجل الأعمال البراجماتي العملي الذي يحب الإنجاز والانتهاء من الصفقات) أو هي إعلان للحرب عليها، إذا ما قررت إيران الذهاب نحو التصعيد، وهي حرب ستتكلفها على أية حال السعودية المنهكة اقتصاديا، وما تجود به المغانم في منطقة عائمة على بحر من النفط في العراق وسوريا.
على كل الأحوال، كان سليماني، ولا زال غصن، وغيرهما من القيادات التي تمكنت من الظهور بشكل ملفت وجذاب (كل على طريقته) على الساحة السياسية والاقتصادية الدولية، يمثلون لغزا محيرا، حول آلية عمل السياسة والاقتصاد الدوليين، والتلاعب الذي يمكن أن يحدث على أعلى المستويات، دون أن تتمكن آليات القانون الدولي ومعايير النظام العالمي ناهيك عن منظمات دولية مثل الأمم المتحدة أو إقليمية مثل جامعة الدول العربية أن تتدخل، أو أن يكون لها أي وزن في ذلك.
وهو ما يعبر عن حاجة العالم إلى إرساء دعائم نظام عالمي جديد، بعد أن أثبت النظام العالمي الحالي، الذي يعود تاريخه إلى 75 عاما، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عجزه عن التعاطي مع متغيرات ما بعد انهيار جدار برلين والاتحاد السوفيتي. فهل ننتظر اندلاع ثم انتهاء الحرب العالمية الثالثة؟

Comments

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة