واحد، اتنين.. الشعب المصري فين

حكاية حوكشة ومنعم

1
كنت عايش في منطقة جنب السبع عمارات ف مصر الجديدة، عند تقاطع شارع النزهة مع شارع الثورة، والمنطقة دي في ذات يوم من الأيام كان فيها جنينة في وسط شارع النزهة، أحيانا كان بيقعد فيها ناس حتى من رقيقي الحال. مصر الجديدة ليها رونق كده مختلف تماما عن مناطق زي الزمالك أو جاردن سيتي. فيه درجة أكبر من القبول الطبقي في مصر الجديدة، بالذات المنطقة اللي أنا كنت ساكن فيها، اللي شوارعها اتسمت على أسامي ضباط شهدا (مسلمين ومسيحيين بالمناسبة)، وكان فيها عدد لا بأس من الضباط، اللي بعد الثورة امتزجوا بأهالي المنطقة الأصليين، والعيال درست مع بعضيها، وبالتالي كان فيه تدرج طبقي وقبول للطبقات رقيقة الحال، وكان فيه صلة جغرافية ما بين المنطقة ومناطق زي العباسية ورمسيس والألف مسكن وحتى الدراسة من خلال مترو مصر الجديدة اللي صدر عليه الحكم بالإعدام.
مع الزيادة السكانية الرهيبة، والطفرة العمرانية العشوائية اللي أصابت مدينة نصر، وألقت بظلالها على مصر الجديدة، شوارع مصر الجديدة بقت شبه مشلولة الحركة. مصر الجديدة حي قديم والبناء فيه كان بأصول، حتى ولو انتهكت، إنما عشوائية مدينة نصر خلت مصر الجديدة الأخت الصغرى لمدينة نصر الضخمة اللي جابت سكان مش بس من الأحياء التانية، إنما من الأقاليم التانية، وبقت مركز حتى لمجتمعات وفقاعات اجتماعية وتيارات دينية.

2
منعم آخر ما زهق من زحمة مصر الجديدة، اشترى بيت في الشروق.. بتمن الشقة بتاعة الكوربة جاب بيت بحاله ومحتاله في مدينة الشروق. فكرته الأساسية إن الشروق على بعد 20 كيلو من أول طريق السويس. على الطريق السريع (زي ما اتعلم في أمريكا)، العشرين كيلو دول زي على ناصية الشارع، الواحد بيقطعهم وهو رايح السوبرماركت علشان يجيب خضار البيت هههه! قوم لما عزل منعم، الدنيا اتكست بألوان تانية خالص.. الهوا نضيف، الناس هاي لايف، الدنيا هادياااااا.. ما فيش صريخ ابن يومين.

1
كان فيه فيلم وثائقي قديم، مش فاكر اتفرجت عليه زمان، كان اسمه "سوق الرجالة" عن شارع النزهة في الحتة اللي قدام شارع السبع عمارات، عن عمال اليومية اللي بييجوا يقعدوا في الجنينة اللي قدام الشارع، ومعاهم أدوات بنا، وكانوا بيهجموا على العربيات اللي بتيجي تأجر عمال باليومية. والمقاولين ييجوا ياخدوا منها أنفار. وأحيانا كان فيه ناس بتاخد عمال علشان أشغال في البيت عندهم أو حاجات زي كده.
من ساعتها والمنطقة دي.. الجنينة اللي قدام السبع عمارات بالنسبة لي بقت سوق الرجالة. وأحيان كتير كنت باقعد أفكر هي الناس دي بتتحرك إزاي؟ بتيجي منين؟ بتروح إزاي؟ بس قلت أكيد بسيطة، المنطقة سهل الوصول إليها. يعني لو إنت من الأقاليم، هتركب من رمسيس مترو "الميرغني" يجيبك لحد السبع عمارات، والمترو متاح وسهل وفل الفل. وتبقى موجود حيث ملتقى كل شيء، من ناحية مدينة نصر اللي البنا شغال فيها دايما على قدم وساق، والمقاولين هناك دايما عايزين عمال، وفيه لسه شغل في مصر الجديدة، أو في أي حتة في امتداد القاهرة الشرقي.
2
الحاجة الوحيدة اللي فضلت تؤرق منعم لحد فترة قريبة، كانت التقاطعات اللي عند الكوربة والميرغني، كانت تقاطعات مقرفة، وبالذات في وقت خروج المدارس، المنطقة دي ساعتها بتتحول لزريبة، ما حدش فيها عارف مين يدخل إمتى وإزاي وفين، وأحيانا كان منعم في عربيته المكيفة بيقضي ولا نص ساعة في التقاطعات دي لوحدها. بعد كده الطريق بيبقى سالك من بعد شارع النزهة، ولحاااد الشروق.
وأول ما بيمسك الطريق السريع، الدنيا بيبقى لونها بمبي، وبيقعد يفكر هيطبخ إيه النهارده، هيعزم مين على العشاء من جيرانه الهاي لايف، هيناقش هيجل مع مين في التليفون النهارده بالليل.

1
مع تصدر جمال مبارك للمشهد السياسي من بوابة الاقتصاد، ودخول زمايله الاقتصاديين النابهين للسوق، بقى مفهوم إن سوق الرجالة ما ينفعش، والسمك الكبير لازم ياكل السمك الصغير، ولازم يبقى فيه مؤسسات، وشركات عابرة للقارات، ومستثمرين أجانب، واستثمارات أجنبية مباشرة، وده مش هينفع في ظل ناس لسه بتستخدم مترو مصر الجديدة، وبتيجي على محطة كوبري الليمون، وتركب من رمسيس لمصر الجديدة. لازم البلد تتشقلب، وتحديدا لازم المدن الجديدة يبقى لها آلية جديدة للعمل، وهو ده اللي حصل من رجال الأعمال اللي اشتغلوا بعزيمة وإرادة حديدية علشان يغيروا المشهد.. 

2
المشكلة بتاعة منعم إن الكومباوند اللي هو كان واخد فيه بيت، كان بتاع واحد ما لوش في المقاولات، كان راجل أعمال على قده كده بيشتغل في السجاد.. مش بيشتغل في السجاد، ده كان من رواد صناعة السجاد يعني، وربنا فتحها عليه، وعنده شركة كبيرة، وقال لك أشتغل في بيزنس المقاولات، والدنيا رايحة هناك، خلينا نشتغل. 
كان فيه مشكلات بتقابل منعم، وأغلبها كان لإن اللي عامل الكومباوند ما لوش في المقاولات، وكل الناس فاكرة إن المقاولات دي أي حد يشتغل فيها، بس الوضع مش كده.. المقاولات دي تخصص، زيها زي السجاد بالضبط. وحتى لو هتدخل بيزنس المقاولات، لازم تجيب المتخصصين يدلوا بدلوهم، ما تشتغلش فيه بدماغ السجاد.. السجاد حاجة والمقاولات والبنا حاجة تانية خالص. 
نهايته، منعم مع الوقت ابتدى يفكر في إنه يبيع البيت، ويدور على حاجة تانية في المدن الجديدة اللي ابتدت تطلع حواليه، بس كان لسه مش عارف فين.

1
اللي كان رجال الأعمال اللي حوالين مبارك الإبن فاكرينه، إنهم حقيقي بيغيروا المشهد، في عموم الجمهورية، من واقع إنهم لما يغيروا المشهد الاقتصادي والمالي، أكيد ده هينعكس على الدولة بشكل عام، وبالتالي لما مسكوا البرلمان (بهندسة الباشمهندس أحمد عز)، وابتدوا يحطوا التشريعات، ويفكروا كرجال دولة، كانوا شايفين مصر هي القاهرة، ومصر هي المؤسسات الاقتصادية اللي همه يمتلكوها أو التعاملات اللي بتتم ما بينهم وما بين مؤسسات اقتصادية عالمية، وكل عينهم وهمه شغالين كانت على المؤشرات الاقتصادية، وإزاي الاقتصاد اللي بيتحسن بيترجم إزاي لفلوس، ولمشاريع على الأرض. كده كده حوكشة اللي شغال في سوق الرجالة بدل ما هيروح شارع النزهة علشان يلاقي شغلانة يوم ولا يومين، هيشتغل في شركة مقاولات كبيرة (زي بتاعة محمد فريد خميس مثلا!) وياخد أجر مستدام.. لأ، واحتمال كمان إن المؤسسة دي توفر له مثلا تأمين صحي، ومعاش، وتعليم لأولاده مثلا (وده عمره ما حصل ولا هيحصل). بس هو ده كان تصورهم.. اللي بيحصل إن رجل الأعمال هيفضل رجل أعمال، والدولة هتفضل دولة، وما فيش حمل بتشيله الدولة هيشيله رجل الأعمال، إنما رجل الأعمال هينهش من الدولة أي مصلحة توفرها له، حتى لو اضطر يكذب ويتحايل، ويوفر ضمانات صورية بعزنه هياخد باله من العمال والصنايعية والموظفين بتوعه (الدولة عارفة، وهو عارف إن الموضوع كذب في كذب، لا مصلحته هتبقى في إنه يصرف على العامل، ولسان حاله هيبقى: وأنا مالي.. كل واحد يشيل مشكلته على دماغه).
هو ده كان الوضع.. اتشالت الجنينة اللي في النص، واتعمل كوبري في شارع النزهة، وما بقاش فيه سوق رجالة في الشارع، اتنقل لشوارع ومناطق وأقاليم تانية، بقى فيها سوق رجالة بتاعها، على الأرصفة وفي عرض الشوارع، أسواق فيها نصبة شاي، وحلاقين، وعربيات فول، أسواق ميني، متحركة، بتتحرك في المكان اللي النحتاية والسبوبة والمرمة بتبقى موجودة فيها.

2
الكوبري الجديد بتاع شارع النزهة ده، كان بيعدي شارع الثورة، وبالتالي في التقاطع ده، الدنيا سلكت، والحياة بقت أسهل بالنسبة لمنعم، بالذات لما سمعنا إن مش عارف علاء ولا جمال مبارك هيسكن فين، ولا ساكن فين، ولا مين بيعمل إيه إزاي، قوم اتعمل نفق كمان تحت شارع صلاح سالم، والمترو اترفع بقدرة قادر وعدى من فوق شارع الثورة عند سنترال ألماظة.. وبكده كان من الواضح إن حياة منعم هتتحول لأحسن حاجة في الدنيا.. خلاص التلات تقاطعات اللي كانت بتقف حاجز ما بينه وما بين الحياة المستقرة والناعمة والهادئة اختفت بقدرة قادر. والطريق بقى سالك نوعا ما إلا من تقاطع عند منطقة عشوائية غريبة اسمها أربعة ونص، في ضهر الحي الثامن من مدينة نصر، وبقت تزحف على طريق السويس، والناس بتنزل من هناك.. بس حتى المشكلة دي هيبقى لها حلول في المستقبل وهتشوف.

Comments

Popular posts from this blog

سوسن

الفيسبوك - الحلقة الثانية

حكاية حمادة